الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني عشر
(ضوابط الخطاب الدعوي
، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر)
ضوابط الخطاب الدعوي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فإن الدعوة الإسلامية دعوة إلى الله تبارك وتعالى وإلى العمل بدينه الحنيف، كما أن هذه الدعوة هي العملُ الأساسي للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل أتباعه في كل زمان ومكان، كما قال الله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) هذا بالإضافة إلى أن هذه الدعوة الإسلامية هي أحسن ما يقوم به المسلم في كل زمان ومكان كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).
ومدام هذا هو شأن الدعوة الإسلامية فيجب أن تكون هذه الدعوة منطلقة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في كل ما يتعلق بها من قريب أو من بعيد، من حيث أصولها ومناهجها وأساليبها ووسائلها
…
إلى آخر ذلك. وذلك لأن الإسلام لا يفصل في أحكامه بين الأصول والمناهج والأساليب والوسائل والغايات، كما أن الإسلام لا يقر بأن الغاية تبرر الوسيلة كما يقولون. فالوسائل لها حكم الغايات، والغايات لها حكم الوسائل، ويشرف كل منهما بشرف الآخر ويدنو بدونه، يضاف إلى ذلك أن أي جهل أو تجاهل لحكم الإسلام فيما يتعلق بأصول الدعوة أو مناهجها أو أساليبها أو وسائلها يعتبر انحرافًا بالدعوة عن مسارها الحقيقي التي كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخروجًا بها عن مصادرها الأساسية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
إذًا، نحن ندرس هذه الضوابط؛ لنكون على بينةٍ وبصيرةٍ بهدي ديننا الإسلامي الحنيف وتنظيماته لكل شئوننا القولية والفعلية، الدينية والدنيوية، النظرية والتطبيقية.
ونحن ندرس هذه الضوابط لغموضها وخفائها عن بعض الدعاة، حتى خرج بعضهم أو أكثرهم عن هذه الضوابط، فلم تؤتِ دعوتهم ثمارها. لذا كانت دراستنا للضوابط الشرعية للخطاب الدعوي ضرورية لدفع هذا الغموض وما يترتب عليه من إفراط وتفريط.
إن الخطاب الديني هو أشرف خطاب يتبادله الناس فيما بينهم؛ لأنه خطاب الأنبياء والرسل الكرام مع أقوامهم في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولأنه خطاب المصلحين مع غيرهم؛ ولأنه خطاب العقلاء الأخيار فيما بينهم.
إن الخطاب الدعوي هو الخطاب الذي مَدَح الله تعالى مَن يتعاملون به، فقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ {(الحج: 24) أي: وهدى الله تعالى عباده الصادقين في إيمانهم إلى القول الطيب وإلى المنطق القويم، كما هداهم سبحانه كذلك إلى الطريق المحمود الذي يؤدي بهم إلى السعادة في دنياهم وآخرتهم؛ لأنهم عمروا دنياهم بالإيمان الخالص، وبالعمل الصالح، وبالسلوك الحميد.
والخطاب الدعوي له مقوماته السامية وضوابطه العظيمة وآثاره العميقة في النفوس، ومكانته الراسخة في القلوب، ومنزلته التي تهز المشاعر وتحرك العواطف نحو الخير. إن هذا الخطاب الديني إنما تتحقق له هذه المقومات وهذه الآثار متى كان مستمدًّا من القرآن الكريم ومستشهدًا بهداياته وبتشريعاته وبأحكامه وبآدابه؛ وذلك لأن القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور كما قال سبحانه:} الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {(إبراهيم: 1).
والقرآن الكريم هو الكتاب الذي حدد للناس ما يجب عليهم نحو خالقهم سبحانه وتعالى وما يجب نحو أنفسهم، وما يجب عليهم نحو غيرهم، وهو الذي نظم علاقات الأفراد والجماعات والأمم تنظيمًا حكيمًا، وبيّن للجميع ما هو حلال وما هو حرام، وما هو خير وما هو شر، وما هو حق وما هو باطل.
ومن الآيات القرآنية التي جمعت كل هذه الحقائق وكل هذه التوجيهات قول ربنا سبحانه وتعالى:} قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {(الأنعام: 151 - 153).
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للإنسان علاقة بربه ينال بها السعادة والثواب، ورسمت له علاقته بأسرته التي تقوم على المودة والرحمة، ورسمت له علاقته بغير أسرته التي تقوم على التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض. هذه الآيات عندما سمعها بعض زعماء العرب من النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق وإلى محاسن الأعمال، وقد أفِك قوم كذبوك وظاهروا عليك، ووالله ما هذا الذي سمعناه منك من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
إن الخطاب الدعوي إذا كان مشتملًا على هذه الوصايا التي جاء بها القرآن الكريم، ومشتملًا علي غيرها مما لا يحصى من هدايا حكيمة، ومن أمثال بليغة، ومن أحكام قويمة، ومن آداب فاضلة، ومن قصص زاخرة بالعظات، ومن توجيهات سامية تحبب الناس في مكارم الأخلاق وتنفرهم من رذائلها، إذا كان الخطاب الدعوي مشتملًا على هذا الفيض القرآني الزاخر بكل ما يُسعد الناسَ في دنياهم وأخراهم، كان خطابًا له آثاره الطيبة، وله ثماره الحسنة التي تجعل أبناء الأمة يصلحون في الأرض ولا يفسدون، ويبنون ولا يهدمون، ويجمعون ولا يفرقون، ويتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
إن لله تعالى سننًا في خلقه لا تتغير ولا تتبدل قررها القرآن الكريم في مواطن كثيرة، منها قول ربنا سبحانه:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ {(الرعد: 11)، ومنها قوله سبحانه:} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا {(الكهف: 30)، ومنها قوله عز وجل:} فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {(الزلزلة: 7، 8).
فأول ضابط من ضوابط الخطاب الدعوي: أن يكون مشتملًا على كم هائل من كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.
كذلك من ضوابط الخطاب الديني الدعوي: اشتماله على الأحاديث النبوية الشريفة التي فيها ما فيها من التوجيهات القويمة، ومن الأحكام الجليلة، ومن الآداب الرفيعة، ومن الفضائل العظيمة التي يؤدي الالتزام بها إلى السعادة في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم للشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المطهرة هي ما صدَرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
فأما القول: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
وأما الفعل: فكأفعاله صلى الله عليه وسلم في وضوئه وصلاته وفي حجه، وفي غير ذلك من العبادات. ومن الأفعال التي واظب عليها فأفادت وجوب اقتدائنا به، كقوله صلى الله عليه وسلم:((مَن توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)) وكقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وقوله صلى الله عليه وسلم حين أراد الحج: ((خذوا عني مناسككم)).
وأما التقرير: فمعناه أن يفعل بعض الصحابة فعلًا، فيقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره عليهم، ومن ذلك: إقراره في أعقاب غزوة الخندق لمن صلى العصر في الطريق قبل أن يصل إلى ديار بني قريظة، ولمن صلاها في ديارهم. ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:((لا يصلين أحدًا العصر إلا في بني قريظة، فأدركهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتي ديار بني قريظة، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لأن الشمس أوشكت على الغروب، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقر كل فريق على ما فعله)).
ومن ذلك أيضًا: إقراره صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وقد سأله: ((بم تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ -وكان ذلك عند إرساله إلى اليمن - فقال معاذ: أقضي بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو)) أي: لا أقصر في الاجتهاد.
ومن المعلوم عند أولي العلم أن السنة وحي من الله تعالى كالقرآن، إلا أن القرآن وحي من الله تعالى بألفاظه ومعانيه، أما السنة النبوية فهي وحي من الله تعالى بمعناها، أما ألفاظه فبإلهام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والسنة النبوية المطهرة أصل من أصول الدين، وحجة على جميع المكلفين، متى نقلت إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح، وتأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم في حجيتها وفي وجوب العمل بها، أي: أن الأحكام الواردة عن طريق السنة النبوية تكون مع الأحكام الواردة في القرآن الكريم واجبة الاتباع بالنسبة لكل مسلم أو مسلمة، ولا يخالف في ذلك مكلف عاقل.
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤيد ذلك كثيرة ومتنوعة؛ أما الآيات القرآنية فمنها: قول الله تعالى:} وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {(الحشر: 7)، وقوله سبحانه:} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا {(النساء: 80)، وقوله عز وجل:} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {(آل عمران: 31).
وأما الأحاديث النبوية؛ فمنها: ما جاء في (صحيح البخاري) رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى، قيل: يا رسول الله، ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى)).
وجاء في (سنن أبي داود) و (الترمذي): عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصِنا. فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه مَن يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ)) أي: فهو مردود عليه، وليس مقبولًا منه عند الله تعالى.
وفى (المسند) الإمام أحم د بن حنبل رحمه الله عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)).
فهذه النصوص المتعددة تدل دلالةً واضحةً على أن السنة النبوية كالقرآن الكريم في وجوب اتباع ما اشتملت عليه من أحكام، وأن مَن خالفها فقد خالف أمر الله تعالى وعصى شريعته.
وللسنة النبوية المطهرة بالنسبة للقرآن الكريم وظائف متعددة من أهمها: أنها تارةً تكون مؤكدةً لما جاء في القرآن الكريم من أمر أو نهي أو غيرهما. ومن أمثلة ذلك: أن القرآن الكريم أمر بالتحلي بفضيلة الصدق، ونهى عن رذيلة الكذب، قال الله تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {(التوبة: 119) وقال سبحانه:} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ {(النحل: 105) فجاءت الأحاديث النبوية المطهرة فأكدت ذلك وقررته.
ومنها: ما جاء في الصحيحين عن عبد الله المسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)).
وبناءً على ذلك يكون الحكم الشرعي له دليلان؛ أحدهما: من القرآن الكريم، والثاني: من السنة النبوية. الأحكام الشرعية التي يتوفر فيها ذلك ما أكثرها، كالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، والتحلي بمكارم الأخلاق، وكالنهي عن التقصير في عبادة من العبادات، وعن ارتكاب ما نهى الله عنه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وتارةً تكون السنة النبوية المطهرة منشئةً لحكم شرعي جديد سكت عنه القرآن الكريم دون أن يعارضه، فيكون هذا الحكم واجبَ الاتباع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نطق به، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها في الزواج، وتحريم لُبس الذهب أو الحرير بالنسبة للرجال، وبيان أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي شُرِعت عن طريق ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتارةً تأتي السنة النبوية المطهرة مفصلةً ومفسرةً لِمَا جاء مجملًا في القرآن الكريم من أحكام، فالقرآن الكريم حدثنا عن الصلاة، وعن الزكاة، وعن الصيام، وعن الحج، في كثير من آياته، إلا أنه بالنسبة للصلاة لم يبين لنا عدد ركعاتها أو كيفياتها أو أركانها، وبالنسبة للزكاة لم يبين لنا القرآن الكريم مقاديرها، وبالنسبة للصيام لم يفصل لنا القرآن الكريم جميعَ أحكامه، وبالنسبة للحج لم يبين لنا القرآن الكريم جميع مناسكه. وقال صلى الله عليه وسلم:((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وقال: ((خذوا عني مناسككم)) وبين لنا الأصناف التي تجب فيها الزكاة، وقَدْر النصاب الذي لا تجب الزكاة حتي يبلغه المال، والقدر الواجب إخراجه من المال الذي بلغ النصاب، وتوفرت فيه سائر الشروط الأخرى كما هو معروف في كتب الفقه.
وقد تأتي السنة النبوية مقيدةً لما جاء مطلقًا في القرآن الكريم؛ فمثلًا: يقول الله تعالى:} وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ {(الحج: 29) فالأمر بالطواف هنا مطلق، فجاءت السنة النبوية فقيدت ذلك بوجوب أن يكون الطواف على طهارة.
وقد تأتي السنة النبوية مخصصةً لما جاء عامًّا في القرآن الكريم؛ فمثلًا: يقول الله تعالى:} يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(النساء: 11) أي: أن الأولاد يرثون الآباء بهذه الطريقة التي بينها الله تعالى بهذا الحكم العام، فجاءت السنة النبوية فخصصت هذا الحكم العام بأن قصرت الميراثَ على الشخص الذي لم يعتدِ على مورثه بالقتل، وبينت أنه لا ميراث لقاتل.
وهكذا، نرى أن للسنة النبوية وظائفَ متعددةً بالنسبة للقرآن الكريم، وأن تفصيل ما جاء مجملًا في القرآن يمثل معظم هذه الوظائف، وأن مَن يقول: لسنا في حاجة إلى السنة النبوية ويكفينا القرآن!! هو إنسان جاهل، لا يُلتفت إلى سفاهاته أو جهالته؛ إذ السنة النبوية لا غِنَى عنها في تفسير وتوضيح ما جاء مجملًا أو مطلقًا أو عامًّا في القرآن الكريم، وصدق الله العظيم إذ يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {(النحل: 44) أي: وأنزلنا إليك يا نبينا القرآن الكريم؛ لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهداياتهم في هذا القرآن من تشريعات، ومن آداب وأحكام، ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه.
فالآية الكريمة وضحت وصرحت بأن مِن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تفسير وشرح ما خفي معناه على الناس من آيات القرآن، ولقد سأل رجل عِمران بنَ الحصين رضي الله عنه عن مسألة فأجابه عنها بما يؤيدها من السنة، فقال الرجل: حدِّثونا بكتاب الله ولا تحدثونا بغيره، فقال له عمران: "أنت رجل أحمق، أتجد في كتاب الله صلاة
الظهر أربع ركعات لا يجهر بها؟ أتجد في كتاب الله أن نِصاب الزكاة مقداره كذا؟ ". وبعد أن عدد له أنواعًا من العبادات التي جاءت مجملة في القرآن الكريم قال له: "كتاب الله قد أجمل ذلك، والسنة النبوية تفسيره".
والخلاصة: أن الأحكام الشرعية التي وردت عن طريق السنة النبوية قد تكون مؤكدةً لما جاء في القرآن الكريم، وقد تكون منشأةً لأحكام سكت عنها القرآن الكريم، أو مفسرةً لما أجمله، أو مقيدةً لما أطلقه، أو مخصصةً لما عممه. وإن الخطاب الدعوي إذا كان زاخرًا بالأحاديث النبوية الشريفة ازداد قبولًا عند الناس، وازداد إقناعًا للعقول، وإرضاءً للمشاعر، وشرحًا للصدور؛ لأنها أحاديث مَن لا ينطق عن الهوى، وأحاديث مَن أعطاه الله تعالى جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
ويكفيك -أيها الداعية- في تحري الحلال وفي الابتعاد عن الحرام، قول النبي صلى الله عليه وسلم:((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمَن اتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ويكفيك في شرف المقصد قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ويكفيك في الابتعاد عن اللغو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إيمان المرء تركه ما لا يعنيه)) ويكفيك في الشعور بما هو بِر وما هو إثم وبما هو خير وبما هو شر قوله صلى الله عليه وسلم: ((استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)).
ويكفيك في معرفة إجماع الخير قوله صلى الله عليه وسلم: ((قل آمنت بالله، ثم استقم)) يكفيك في الحض على تعمير هذه الدنيا بما ينفع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها)) يكفيك في بيان كثرة طرق الخير قوله صلى الله عليه وسلم: ((الكلمة الطيبة صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)) يكفيك في معرفة رسالتك في هذه الحياة قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه)).
فعليك -أيها الداعية- أن تهتم اهتمامًا بأن يكون خطابك الدعوي زاخرًا بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي العظيم صلى الله عليه وسلم فإن القرآن الكريم والحديث النبوي العظيم بركة ورحمة وشفاءٌ لما في الصدور، كلما أكثرتَ منهما كلما ملكت قلوب المدعوين وأثرت فيهم بفضل الله عز وجل.
كذلك من ضوابط الخطاب الدعوي، بل ومن أهم ما ينبغيأن يحفظه الداعية في خطابه: أن يكون الخطاب الدعوي مواكبًا للأحداث، ومتأثرًا بها، ومعلقًا عليها، ومؤيدًا لما هو حق منها، ونقصد بالأحداث تلك الأقوال والأفعال والقضايا والصراعات والمَسرات والأحزان التي تتعاقب بتعاقب الليل والنهار، والتي أشار إليها ربنا سبحانه في قوله:} إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ {(آل عمران: 140) ولفظ "القرح" يُطلق على الجرح الذي يصيب الإنسان، وعلى الآلام التي تترتب على ذلك، ولفظ: {نُدَاوِلُها} من المداولة، وهي نقل الشيء أو الحديث من شخص إلى آخر، يقال: هذا الشيء تداولته الأيدي، أو هذا الحديث تداولته الألسنة، أي: انتقل من يد إلى أخرى ومن لسان إلى آخر.
ومعنى الآية: لا تجزعوا أيها المؤمنون لِمَا أصابكم من جراح وآلام في غزوة أُحد على أيدي المشركين أعدائكم، فهم قد أصيبوا منكم بمثل ذلك في غزوة بدر، وإن أيام الدنيا هي دول بين الناس بحيث لا يدوم سرورها ولا حزنها لأحد، فمَن سره زمن ساءته أزمان، ومن أمثال العرب: الحرب سِجال، أي: لا تدوم على حال واحدة، والأيام تتقلب؛ فهي تارةً لهؤلاء، وتارةً لأولئك.
ومن ضوابط الخطاب الدعوي: أن يراعي الخطيب أحوال مستمعيه، فإذا كانوا في حالة سرور ونعمة ساق لهم من الآيات القرآنية ومن الأحاديث النبوية
ومن توجيهات الإسلام ما يجعلهم يحافظون على هذه النعم، ويشكرون الله خالقهم عليها؛ لكي يزيدهم منها، وإن نزلت بهم بعض المصائب والأحزان والمتاعب الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها، ركَّزَ حديثه أو كتابته على ألوان العلاج الناجح، والدواء السليم، الذي من شأنه أن يعمل على تخفيف تلك المصائب أو إزالتها، فما من داء إلا وله دواء، وما من عسر إلا يعقبه يسر، ما دام هناك اعتماد على الله سبحانه وتعالى وعلى أداء تكاليفه، وعلى مباشرة الأسباب التي شرعها سبحانه للنجاح.
ولقد وضح لنا الخالق عز وجل سنةً من سننه التي لا تتخلف، فقال:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {(الشرح: 5، 6) ففي هاتين الآيتين ما فيهما من التسلية لكل ذي عقل سليم؛ لأنه ما من شدة إلا ويعقبها الفرج، وما من هم أو غم إلا وينكشف، وتحل محله المسرة، وما من عسر إلا ويأتي بعده اليسر، متى توكل الإنسان على خالقه، وأدى ما أمره به، وابتعد عما نهى عنه، وصبر الصبر الجميل، وتسلح بالعزيمة القوية، وبالإيمان العميق بقضاء الله وقدره، وسلك المسالك التي تؤدي إلى النجاح في أقواله وفي أفعاله وفي تفكيره، وفي كل شأن من شئونه.
لقد أكد الله سبحانه وتعالى هاتين الآيتين بأداة التأكيد، وهي حرف "إنَّ"{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} لأن هذه القضية قد تكون موضع شك خصوصًا بالنسبة لمن تكاثرت عليهم الهموم وألوان المتاعب، فأراد سبحانه وتعالى أن يؤكد للناس في كل زمان ومكان أن العسر اليسر لا محالةَ، وأن الفرج يأتي بعد الضيق لا شك في ذلك، فعليهم أن يقابلوا المصائب والنوازل بثبات لا اضطراب معه، وبأمل كبير في تيسير الله وفرجه ونصره.
وقد ساق الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهاتين الآيتين بعض الآثار؛ منها: ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا وأمامه حفرة، فقال: لو جاء العسر فدخل هذه الحفرة، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه)) وعن الحسن البصري رحمه الله قال: " لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين". ومعنى هذا: أن العسر معرف في الحالين فهو مفرد، وأن اليسر منكر فهو متعدد.
والذي يتدبر القرآن الكريم يرى أن مئات الآيات قد نزلت في أعقاب أحداث معينة؛ لتبين حكم الله فيها، ولتحق منها ما هو حق، ولتثبت المؤمنين، ولتدفع الشبهات والتهم الكاذبة التي ألصقها الجاحدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه، ولترشيد المؤمنين إلى أخطائهم حتى لا يعودا إليها، ولتحكم في قضايا معينة التبس فيها الحق بالباطل، ولتساير الحوادث والطوارئ في تجددها وفي تفرقها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
ومنها: أن المشركين عندما وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون وبغير ذلك من التهم الباطلة، نزَلَ القرآن الكريم؛ ليدحض هذه التهم، وليصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمى الصفات وأفضلها، قال الله تعالى:} ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {(القلم: 4).
ونزل القرآن الكريم ليؤكد أن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، قال الله تعالى:} أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {(يس: 77 - 83).
نزلت هذه الآيات لترد على واحد من المشركين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من العظم قديمة بالية ضعيفة، فوضعها بين كفيه، ففركها، ثم ذرَّها في الهواء، ثم قال: يا محمد، تزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعدما رم؟!! فقال صلى الله عليه وسلم:((نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم)) فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات.
وعندما جاء بعض المشركين وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أرِنا مَن يشهد لك أنك رسول الله، فإنَّا لا نرى أحدًا نصدقه، ولقد سألنا عنك أهل الكتاب، فقالوا: إنه ليس لك عندهم شيء في كتبهم، فأنزل الله تعالى في الرد عليهم قوله:} قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {(الأنعام: 19).
وعندما اندس بين المسلمين من قبيلتي الأوس والخزرج يهودي حاقد، وأخذ يذكرهم بالحروب التي كانت بينهم في الجاهلية، وأنشدهم بعضَ ما قالوه من أشعار خلال تلك الحروب، وكاد بعضهم أن يعرض القتال على غيره، بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم مسرعًا ومعه بعض أصحابه، فكان مما قاله لهم:((يا معشر المسلمين، اللهَ اللهَ!! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى إسلامه، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه في الجاهلية؟!!)) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من أعدائهم اليهود، فألقوا السلاح من أيديهم، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا. وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {(آل عمران: 100 - 103).
وعندما زعم اليهود عند مجادلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن الجنة لن يدخلها إلا مَن كان على مِلتهم، وأخذوا يتفاخرون بذلك، لقن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس به ألسنتهم، وأمره أن يتحداهم بأن ينطقوا أمامه بأنهم يتمنون الموت إن كانوا صادقين في دعواهم، قال الله تعالى:} قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {(البقرة: 94 - 96).
وهكذا، نرى في عشرات المواطن من القرآن الكريم مئات الآيات القرآنية تواكب الأحداث التي صاحبت الدعوة الإسلامية في مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنةً، فتقصها بأمانة، وتحكم فيها بالحُكم العادل الحكيم، وتحكي شبهات المشركين وأقوال المنافقين، وتلقن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الرد الذي يخرس ألسنة المارقين، وترشد المؤمنين إلى الطريق المستقيم الذي يجب عليهم أن يسلكوه؛ حتى ينالوا رضا الله تعالى، ويظفروا بحسن العاقبة وبالنصر على الذين استحوذ عليهم الشيطان.
وإن الخطاب الدعوي عندما يكون متأثرًا بالأحداث والقضايا والمشكلات والأحوال والهموم التي لا تخلو منها أمة، فيعلق عليها الداعية بأسلوبه الحكيم، ويعالجها