الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالخطابة من المواهب الفِطرية؛ فبَعْضُ النّاس يُخْلَقُ خَطيبًا بفطرته، وهذه الطبيعة توفر عليه جهدًا كبيرًا في حصوله على كمال هذه الصفة، ومن النّاس من يُحْسِنُ الكِتَابة وتشقيق الكلام؛ فيمَا يُعَبّر عنه من المعاني، ولكنه لا يحسن إلقاءه ولا مواجهة الناس به، ومنهم من يرتج عليه إذا وقف خطيبًا، وإذا تحدث في مجلس أجاد الحديث، ومنهم من لا يستطيع هذا ولا ذاك، وهذا النوع يتجنب الخطابة أصلًا، أما الآخرون فيحتاجون إلى تدريب وتكوين عام حتى يحسن الخطابة.
والشخص الموهوب أقوى وأقدر على أي حال، ولا يعني هذا أن الخطيب الموهوب يستغني عن مؤهلات الخطابة ومعرفة قواعدها وطرق إلقائها؛ فهناك أمور خاصة لا يكون الخطيب خطيبًا بغيرها، وليس الإلقاء الجيد كافيًا في جعل الخطبة ناجحة مقبولة؛ حتى تقترن به الصفات الأخرى الآتية.
ومما لا شك فيه أن الهِبةَ الطّبيعية تنميها المرانة، وتزكيها المزاولة مثل البِذْرَة الحَيّة التي تَنْبُت وتَزكُو إذا بذرت في تربة خصبة وجو صالح؛ فإذا كان الخطيبُ موهوبًا هذا الفن؛ فهو بإذن اللهِ يَصْعَدُ عاليًا لما آتاه الله من فضله، وأمّا إذا كان الخطيبُ مُكتسبًا لها غير موهوب؛ فإنه يجد نصيبًا ولكن البون شاسعًا بينه وبين الموهوب، إلّا إذا كان الجدُّ حليف المكتسب، والكسل والخمول ضجيع الموهوب؛ فإنّه لا محالة من السبق للمكتسب في الميدان.
إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا
ثانيًا: إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا:
لا شك أنّ الخطيب في أمس الحاجة إلى الإعداد العقلي، وأهم مظهر لذلك هو الذكاء العام أو الحكمة؛ معنى هذا أن يكون لديه الاستعداد لحُسن التّصرف حينما يُواجه بأي أمر من الأمور، خاصة الحرجة منها، والخَطيبُ النّاجح يحتاج إلى الذكاء بكل أنواعه، سواء أكان نظريًّا أو عمليًّا أو اجتماعيًّا، طالما أنه يتعامل مع مسائل وقضايا نظرية، ومع مواقف وأمور عملية حسية، ومع مواقف ومشكلات اجتماعية.
ومما يزيد من حالة الخطيب إلى الذكاء بأنواعه الثلاثة كما ذكرنا هو: اشتغاله بأمور علمية ونظرية، وتعرضه لكثير من الأسئلة، وتوقع الناس منه أن يكون مصدرًا موثوقًا منه للإجابة على أسئلتهم، وأن يكون سريع البديهة، لبقًا في حديثه؛ كيسًا فطنًا، حذرًا، حسن التدبير يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويدعو إلى ربه على أساس من الحكمة والبصيرة والعلم، امتثالًا لقول الله تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِي لِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108) ويتوقع المُجتمع منه بالإضافة إلى كل هذا أن يُساهم في إثراء الفكر، وبث الوعي، وتجديد الثقافة. وهو لا يستطيعُ أن يفوزَ بكل هذا بدون درجة عالية من الذكاء الفِطري والمُكتسب.
ومِمّا يَدُلّ على أهمية الناحية العقلية عند إعداد الخطيب: ما قاله أحدُ البَاحِثين: "إنّ الإيمان بالله ليس غريزة فطرية فحسب بل هو ضرورة عقلية كذلك، وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال الذي أثاره القرآن قلقًا حائرًا بغير جواب:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (الطور: 35، 36)
وليس لهذا السؤال إلّا جَوابٌ واحد لا يَمْلِكُ الإنسان إذا ترك ونفسه إلّا أن يجيب به كما فعل المشركون أنفسهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم} (الزُّخرُف: 9).
ولقد عَلّم القرآن الكريم الخطيب الداعية كيف يستدل على وجود الله عز وجل. وكيف أنه دعا العقل إلى التفكير والبحث والتأمل في الكون وكشف أسراره، قال الله تعالى:{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} (الغاشية: 17 - 20)
ليس هذا فقط؛ بل إن القرآن الكريم كرر لفظة "الألباب" ست عشرة مرة، ولفظة "العقل" وما يشتق منها تسعًا وأربعين مرة، ولفظة "الفكر" وما يتعلق بها ثمانية عشر مرة.
يقول العقاد: "وفريضة التفكير في القرآن، تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف، بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يُخاطب العقل الوازع، والعقل المُدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرّشيد، ولا يذكر العقل عرضًا مقتضبًا، بل يذكره مفصلًا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان".
ويَزيدُ العَقّاد الأمر وضوحًا في قوله: "ولكنّ القرآنَ الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه".
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يعمل على إعداد العقل وتنميته في الجيل المثالي، الذي رباه لحمل الرسالة الإسلامية إلى البشر، ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي بالسؤال على من حضر عنده، فينتبه الجميع إليه، ويُفكرون فيه ويشغلون عقولهم في الجواب، ثم بعد ذلك يُجيب النبي صلى الله عليه وسلم على ما سأل عنه؛ فتقع الإجابة في قلوبهم ولا ينسوها أبدًا.
روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم؛ فحَدّثوني، فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النّخلة؛ فاستحييتُ، ثم قالوا: حدثنا ما هي رسول الله؟ قال: هي النخلة)) فهذا اللون من التعليم النبوي يربي العقل وينميه.