الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبيد وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والجاحظ وغيرهم كثيرون، غير أن بحوث أولئك الأدباء لم تجمع في كتاب مستقل، بل كانت متفرقة في الكتب وعلوم اللغة، ولم يعن أحد بتدوينها في كتاب مستقل لتكون علمًا قائمًا بذات، حتى ترجم إسحاق بن حنين كتاب (الخطابة) لأرسطو وشرحه الفارابي.
وقد جاء في (الفهرست) لابن النديم في أثناء سرد ما كتبه أرسطو في المنطق: "الكلام على ريطو ريقا ومعناه الخطابة. وقيل: إن إسحاق نقله إلى العربي، ونقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي. رأيت بخط أحمد بن الطيب هذا الكتاب نحو مائة ورقة بنقل قديم، وقد أتى ابن سينا في كتاب (الشفاء) بلب كتاب (الخطابة) لأرسطو مع تصرف غير ضار به". وبنقل كتاب (الخطابة) لأرسطو صار في العربية قواعد للخطابة مدونة في بحث مستقل، وإن كان جزءًا من علم المنطق على ما سبقت الإشارة إليه.
أهمية الخطابة ومكانتها
إن الإنسان إذا عرف أهمية الشيء ومكانته في الحياة سعى إليه بكل طاقته وجهده؛ ليتحصل عليه وينال شرفه وفضله. والخطابة من أهم الأشياء في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان بطبيعته مدني اجتماعي يحب الخلطة ويكره العزلة، فإذا خالط الناس فلا بد أن يحدث بينه وبينهم اختلاف أيًّا كان سبب هذا الاختلاف، وحينئذ فلا بد له ولغيره من محاولة كل منهما بإقناع الآخر برأيه، وهنا تأخذ الخطابة دورها في المعارك الدائرة هجومًا ودفاعًا. ومن هنا عرف الناس الخطابة منذ أن اجتمعوا في مكان واحد واستوطنوه، لأن الطبيعة تقتضي اختلاف الناس متى اجتمعوا سواء كان هذا الاختلاف في رأي
أو في عقيدة، أو كان الاختلاف بسبب تنافس على غنيمة أو متاع أو سلطة، فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفونه وأن يقنعهم، فإذا ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع، وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك أو اتقاء ضرر عام، فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، وعدتهم في ذلك الخطابة، على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان.
وما زالت الخطابة إلى الآن سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم مهما جيشت جيوشها، وتفننت في اختراع القذائف والمدمرات، لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها، فقد حفظها خط أشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع بوذا الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص.
يقول ابن رشد ناقلًا عن أرسطو: "ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية، التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إما لأن الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإذا سلك نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه، وإما لأن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلًا، وإما لأنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه، فهذا الصنف الذي لا يجدي معه الاستدلال المنطقي تهديه الخطابة إلى الحق الذي يراد اعتناقه؛ لأنها تسلك من المناهج ما لا يسلك المنطق".
وهذه أول ثمرة من ثمرات الخطابة، وللخطابة فوق ذلك ثمرات كثيرة؛ فهي التي تفض المشاكل وتقطع الخصومات، وهي التي تهدئ النفوس الثائرة، وهي التي تثير حماسة ذوي النفوس الفاترة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وترد المظالم، وهي صوت المظلومين، وهي لسان الهداية، ولأمرٍ ما قال موسى عليه السلام عندما بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى إلى فرعون:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 24 - 28).
ولا يمكن أن ينتصر صاحب دعاية ومناد بفكرة وصاحب إصلاح إلا بالخطابة، فالخطابة هي الدعامة التي قامت عليها الانقلابات العظيمة والثورات الكبيرة، التي نقضت بنيان الظلم، وهدمت قصور الباطل، فهذه الثورة الفرنسية إنما قامت على الخطابة، وهي التي كانت تؤجج نيرانها وتذكي لهبها.
والخطابة قوة تثير حمية الجيوش وتدفعهم إلى لقاء الموت، وتزيد قواهم المعنوية، ولذلك كان قواد الجيوش المنتصرون في القديم والعصور الحديثة خطباء، ومنهم: نابليون، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وطارق بن زياد، كل هؤلاء القواد حملوا معهم سلاحًا معنويًّا بجوار السلاح الحديدي، والخطباء هم المسيطرون على الجماعات، هم الذين يقيمونها ويقعدونها. وفي الحكومات الشورية يكون الخطباء هم الغالبين، تصدع الأمة بإشاراتهم وتخضع لسلطانهم؛ لأن الغلبة في ميدان الكلام والسبق في حلبة البيان لهم، فآراؤهم فوق الآراء؛ لأنهم يستطيعون أن يلحنوا بحجتهم ويسبقوا إلى غاياتهم، وفي ذلك نشر لسلطانهم ورفعة لهم. فالخطابة طريق للمجد الشخصي كما أنها طريق النفع العام، والحق أن الخطابة مظهر اجتماعي للمجتمع الراقي، تحيا برقي الجماعة وتخبو بضعفها.
ولقد قال ابن سينا في فائدة الخطابة: "إن صناعة الخطابة عظيمة النفع جدًّا؛ وذلك لأن الأحكام الصادقة فيما هو عدل وحسن أفضل نفعًا وأعم على الناس من أضدادها فائدة؛ لأن نوع الإنسان يعيش بالتشارك والتشارك محوج إلى التعامل والتحاور، وهما محوجان إلى أحكام صادقة، وهذه الأحكام الصادقة تحتاج إلى أن تكون مقررة في النفوس ممكنة في العقائد، والبرهان قليل الجدوى في حمل الجمهور على الحق، فالخطابة هي المعينة بذلك".
وقال في حق الخطيب: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد لآخرته".
إن الخطابة هي سلاح المجتمع الإنساني في سلمه وحربه، وفي ترقيته والإسراع به نحو المثل الأعلى الذي يجب أن يقصد إليه، فليس بدعًا أن كانت بلاغ النبيين إلى أممهم، والراح الذي يسكبه القواد في نفوس جنودهم قبيل المعركة، فيسرعون باسمين إلى قتال أعدائهم، وغصن الزيتون يلوح به دعاة السلام في عالم كربه العداء والخصام، والقوة الساحرة التي يقود بها الزعماء السياسيون والمصلحون الاجتماعيون أممهم، إلى حياة أرقى وأعز وأبقى، ولسان الأحزاب السياسية تنشر به دعوتها وتظفر به على خصومها، ونورًا يهدي القضاة إلى العدالة وتبرئة المظلوم والقصاص من الباغي.
ثم هي في العصر الحديث -خاصة- عدة الزعماء والساسة، تستند إليها الديمقراطية وتعتمد عليها الدكتاتورية، ويتسلح بها المؤتمرون في المجامع الدولية، ويصعد عليها النواب إلى قمة الشهرة وذيوع الأحدوثة، ويرتقي بها المحامون إلى الصيت الطائر والثراء الغامر.
وحسبنا في إبراز أهمية الخطابة ما ذكره ابن سينا في كتابه (الشفاء) إذ يقول: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له
مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد إلى معاده، وحسبها شرفًا أنها وظيفة قادة الأمم من الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومن على شاكلتهم من العلماء العاملين وعظماء الملوك وكبار الساسة".
فالخطابة إذًا ذات أهمية كبرى في حياة الأمم والشعوب والأفراد والجماعات. ومما يوضح ذلك أكثر وأكثر وقوفك على فضلها وعظيم منزلتها وشرفها بين العلوم، فهي سيدة العلوم كلها؛ لأنها لسانها المعرف بها، وصاحبها دائمًا ما يكون صاحب سيادة ومكانة مرموقة، ما إن قام بواجباتها كما ينبغي، ولما كان فضل العلوم والصناعات واستظهار شرفها يتوقف على شرف غايتها؛ فإن الخطابة ذات شأن خطير في غايتها؛ وما ذاك إلا لأن غايتها إرشاد الناس إلى الحقائق، ومواجهة الأباطيل بالتنبيه عليها، وحملهم على ما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم.
والخطابة معدودة من وسائل السيادة والريادة والزعامة، وقد كانت من شروط الإمارة، فهي من أساسيات كمال الإنسان، وسبب من أسباب رفعته إلى ذرى المجد، أرأيت كيف أن الخطابة شرفها جسيم وفضلها عظيم، فهلا كنت واحدًا من أرباب هذا المجد الشامخ، في سماء العلوم وذروة سنام الفنون.
إن لدراسة علم الخطابة فوائد كثيرة: أن دراسة علم الخطابة توقف الدارس على معرفة كيفية امتلاك القلوب، واستمالة النفوس، وتهييج المشاعر، وإثارة العواطف الكامنة الهادئة نحو مراده من مستمعيه، فبمعارفها تستضيء موارد الدليل، وتتضح مصادر الحجة لإنفاذ كل أمر جلل وجليل، وإدراك كل غاية شريفة، وبقوانينها يترشد الطالب إلى مواطن الضعف وشعب السهو والزلل، فيقوى على دحض حجة المناظر وتزييف سفسفطة المكابر، كما أنها من جانب آخر تثير الحماسة في النفوس الفاترة، وتهدئ النفوس
الثائرة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وتدفع المظالم، وهي التي تهدي الضال إلى سواء السبيل، وتقضي على النزاع وتقطع الخصومات.
وما من شك في أن الخطيب البارع النابه والعالم المتحدث الفذ هو الذي تبرز قوته ودقته، ومدى استفادته من دراسة علم الخطابة؛ بالتعبير عن ما في نفسه، وقيامه بين ذوي الاتجاهات المختلفة، والأفكار المتضاربة، والآراء المتناحرة، والحكم بينها، فلا يزال يبين لهم النافع من الضار والصواب من الخطأ، حتى يجعل الجميع في قبضة يده.
والخطيب البارع يقوم بين طائفتين قد استعرت بينهما نار العداوة والبغضاء، فيذكرهم بعواقب فساد ذات البين والتقاطع، وما يجره عليهما طول أمد الخصومة، ومن ثم فهو يسلك معهم سبيل التحذير والترهيب من مغبة هذا البغض وتلكم العداوة، وما يجر عليهما بسببه من نتائج سيئة، ثم يرغبهما في الصلح وما له من فضل وثواب عند الله تبارك وتعالى، ويراعي في ذلك كله الصبر والمثابرة.
إذًا فالمهمة صعبة، والطريق إلى تحقيق المراد شاق ومليء بالأشواك والفتن وذرائع الشيطان، فإذا ما تم ذلك لم تلبث القلوب إلا أن تصفو متألقة والنفوس متآخية صالحة. فماذا لو أدرك الداعية إذًا مسئولية الكلمة التي يوجهها للناس، أو إن أردت صوابًا فقل: يوجه الناس إليها أو بها، ثم ماذا لو وضع في اعتباره جيدًا نوعية من يتحدث إليهم، مِن حيث مستوى التعليم والثقافة والبيئة وتقييم الوضع الاجتماعي والنفسي، وأهم من هذا كله درجة الوعي الديني أو مستوى الوعي الديني والتربية العقدية.
إن الخطيب لو فعل ذلك لبانت له أكثر وأكثر ضرورة وقوف من يتصدى لمهمة توجيه الناس على أصول وقواعد وقوانين علم الخطابة، ولبان له فائدة دراستها وثمرة معرفة أصولها.
إن الداعية يخاطب كل الناس والناس مختلفون في دوافعهم وأهدافهم، فلا بد أن يكون الخطيب أعلم منهم، يطل بثقافته الواسعة عليهم جميعًا، ويلاحقهم بمعرفته بطبائع النفوس التي يتمسك بأعرافها وتقاليدها، إلى حد الدفاع عنها ومهاجمة من يحاول النيل منها.
ومن ثم فالحكمة تقتضي مسايرة الداعية الخطيب لهذه الطبائع، وملازمتها بالرفق واللين، دون أن ينمع معها، وصولًا بها إلى إعلان شعائر الإسلام، بعد أن تكون النفوس المخاطبة مِن قِبله قد تهيأت للغراس الجديد. فإذا كانت الخطابة لها هذه الأهمية العظيمة، ولها هذا الأثر الكبير في حياة الأمم والجماعات والأفراد؛ فهي إذًا جديرة بأن تدرس، وجديرة بأن توضع لها أصول؛ ذلك أن فن الخطابة يحاول تحليل الخطب، واستنباط الأصول العامة للخطابة الناجحة، ويرسم السبل التي يسلكها الخطيب ليستميل الجمهور ويقنعه، وبهذا تقوى الخطابة، ويتزود الخطباء بتجارب سابقيهم، وتنضج مواهبهم، ويقفون على خصائص الخطباء الكبار، وعلى ما في خطبهم من دقائق كفلت لهم البراعة.
ومنذ القدم وضع أرسطو للخطابة أصولًا ما تزال تراعى، وقرر أنها فن في قوله:"إن كل الناس يلجئون للخطابة والجدل بدرجات متفاوتة، وبعض الناس يمارس الخطابة والجدل فطرة وسليقة، وبعضهم الآخر يمارسها بالمرانة التي اكتسبها من مقتضيات الحياة، والوسيلتان ممكنتان، فواضح أن تكون هناك طريقة وأن يكون هناك مجال لتوجيه تطبيقها، ولضرورة النظر في السبب الذي يؤدي إلى إنجاح هذا العمل المنساق بالعادة، أو المندفع بالفطرة والسليقة، ولا يشك إنسان في أن مثل هذه الدراسة من خاصة الفن".
هذا، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.