الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين)
نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة
إنّ الحَمْدَ لله، نحْمده ونستَعينه ونستغفره، وأشهد أنّ لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
ف كان الخلفاء الراشدون الأربعة -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين- في الذروة من الفصاحة والبلاغة، إذ سرى في نفوسهم بيان القرآن بترغيبه وترهيبه، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم بمواعظه وتشريعاته، وتَسَرّب هذا البيانُ إلى أجزاء نفوسهم، وأخذ بمجامع قلوبهم، وكان أبو بكر رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال وكان أحب رفيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وألصق أصحابه به، وقد نوه القرآن الكريم بذكره رضي الله عنه قال الله تبارك وتعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5 - 7).
وفي أبي بكر رضي الله عنه قال قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)، وفيه رضي الله عنه قال الله تبارك وتعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22).
وأبو بَكرٍ رضي الله عنه كان خيرَ مَنْ يُمَثّل المُسلم بأخلاقه وفضائله، وحميته للدين وتأثره بهدي القرآن الكريم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تأثرًا استحوذ على كل نفسه؛ فإذا لِسَانُه يتدفق تدفق السيل، بما اسْتَشْعَر من معاني الإسلام وقيمه الروحية، وقد أُثِرَت عنه رضي الله عنه خطب كثيرة تدل دلالة واضحة على شدة شكيمته في الدين، ويقظته وصدق حسه، وأنه حقًّا كان أجدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافته.
فمن ذلك أنه لما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى اضطرب الناس وماجوا وقالوا وقال معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعًا-: إنّ الرسول لم يمت. أقبل أبو بكر رضي الله عنه-
فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وعَلِمَ أنّه قد مات، فقَبّله وقال:"بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا"، ثم خَرَجَ فبَدر الصّحابة بخطبته المشهورة التي قال فيها: "من كان يعبد محمدًّا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.
ثم أخذ في بيان غلط من كذبوا موته محتجًّا عليهم بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30). وقوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185) وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَا لِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ} (القصص: 88).
فثاب من كذبوا موته صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أصحابه أجميع- إلى رُشدهم، بعدما سَمِعُوا من أبي بكر رضي الله عنه وكأنّهم لم يسمعوا هذه الآيات قبل هذه الساعة.
ولم يَلْبَث رضي الله عنه أنْ عَرَف أنّ الأنصار قد اجتمعوا إلى سعد بن عبادة في ثقيفة بني ساعدة، يقولون: منا أمير ومن قريش أمير. فراعه ذلك وخشي على الأمة من الفرقة والطمع في الملك، فبادر إليهم قبل أن يستفحل الشر، وتبعه عمر وأبو عبيدة في نفر من المهاجرين، وهناك خطب في الأنصار، فأقنعهم أن يجتمعوا على رجل من قريش، وكان مما قاله في خطبته، بعد أن سَكت عمر عن الكلام، وكان عمر يريد أن يتكلم لأنه قد زور في نفسه كلامًا يخشى أن لا يبلغه أبو بكر، لكنه سكت لما سكته أبو بكر.
ثم حمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم قال رضي الله عنه: "أيها الناس، نحن المُهاجرون أوّلُ الناس إسلامًا، وأكرمهم أحسابًا، وأوسطّهم دارًا، وأحسنُهم وجوهًا، وأكثر الناس وِلادةً في العرب، وأمسّهم رَحِمًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمنا في
القرآن الكريم عليكم، فقال تبارك وتعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (التوبة: 100). فنحنُ المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدًين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم اللهّ خيرًا، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تَدِين العرب إلّا لهذا الحيّ من قُرَيش، فلا تنْفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم اللهّ من فضله".
فلما اتفقوا على بيعته رضي الله عنه قام فخطب في الناس؛ فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم، فإن رأيتُموني على حق فأَعينوني، وإن رأيتُموني على باطل فسدِّدوني، أَطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه لا طاعة لي عليكم، ألَا إن أقواكم عندي الضَّعيفُ حتى آخذَ الحقَّ له، وأَضعفَكم عندي القوي حتى آخذَ الحق منه. أقول قولي هذا وأَستغفر الله لي ولكم".
ولما ارتد مَن ارتد من العرب ومنع بعضهم الزكاة عزم رضي الله عنه على قتالهم وراجعه عمر في ذلك فقال: "والله لو منعوني عناقًا كانوا يوأدونها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه". وخطب الناس فقال: "أيها الناس، من كان يعبُد محمدًا؛ فإنّ مُحمّدًا قد مات، ومن كان يَعْبُد اللهَ؛ فإنّ الله حيُّ لا يموت، أيها الناس، أن كَثُر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون قوله الحق ووعده الصدق:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18)، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249).
أيها الناس؛ والله لو أفردت من جمعكم، لجاهدتم في الله حق جهاده؛ حتى أبْلُغ من نفسي عذرًا، أو أقتل مقتلًا. أيها الناس؛ والله لو منعوني عقالًا لجاهدتم عليه، واستعنت بالله إنه خير معين".
وإذا أخذنا نقرأ في خطبه رضي الله عنه وجدنا جمهورها وعظًا يستمد مادته من القرآن الكريم وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله في خطبة له: "إنّ الله عز وجل لا يَقْبَلُ من الأعمال إلّا ما أُريد به وجهه؛ فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أنّ مَا أخْلَصْتُم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها وحظ ظفرتم به وضرائب أديتموها، وقدمتم من أيامكم الفانية لأخراكم الباقية، اعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم؛ أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون؟ أين الذين بنوا المدائن وحصنوا بالحوائط، وجَعَلُوا فيها الأعاجيب قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مَساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزًا.
ألَا إنّ اللهَ لا شريك له، ليس بنيه وبين أحد من خلقه سببٌ يُعطِيه به خيرًا، ولا يَصْرِفُ عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأنّ ما عِنْدَه لا يُدرك إلا بطاعته، أمّا أنّه لا خَيْرَ بِخير بعده النار، ولا شَرّ بِشَرٍّ بعده الجنة".
واستن بجانب مثل هذه الموعظة سنة الوصية للجيوش الفاتحة، وهو في وصاياه يصدر عن روح الإسلام السمحة، وتعاليمه السامية في معاملة المسلمين فيمن يغلبون عليهم؛ إذ يطلب إليهم ألا يخونوا ولا يغدروا، ولا يُمثلوا ولا يَقْتُلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا يفسد زرعًا، ولا يستحلُّوا مالًا، ولا يتعرضوا لرُهْبَان النّصارى.
وتصور ذلك كله وصيته لجيشِ أسامة بن زيد حين سيره إلى مشارف الشام، وفيها يقول: "يأيّها الناس، قِفُوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي: لا تخونوا ولا
تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلًا، ولا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمأكل، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
وواضِحٌ فيما تمثلنا من خطابة أبي بكر رضي الله عنه أنه لم يكن يلهج بسجع، إنما كان يلهج بكلام فصيح جزل واضح الدلالة عما في نفسه، وكان يتخير لفظه؛ ورُبّما كان من الأدلة على ذلك ما يُروى من أنّه عرض لرجل معه ثوب؛ فقال له: أتبيعُ الثّوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله. فتأذى أبو بكر بما يوهمه ظاهر اللفظ؛ إذا قد يُظَنُّ أنّ النفي مُسَلّط على الدعاء، فقال له: لقد عُلّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله.
وكان من صواب رأيه وصحة فراسته رضي الله عنه اختياره عُمر خليفة من بعده، وكان على شاكلته نَفَاذُ بَصِيرة وصِدْقُ عَزم، وبلاغة لسان؛ كما كان صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعز الله به الإسلام في مكة حين أعلن ولاءه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال منقطعًا إليه، والرسول يقربه منه ويتخذه موضع مشورته؛ حتى تُوفي وخلفه أبو بكر رضي الله عنه فكان له نعم الظهير والمعين.
ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها في راجحة عقل، حتى إن أحدًا لم يرد عليه رأيًا واحدًا ولا عملًا واحدًا، وما زال يوطئ الأمر بسعة حلم وشدة عزم، مُجندًا الأجناد حتى فُتِحَتْ فارس، وتَمّ فتح الشام، وفتحت مصر وهو على ذلك كله نعم الكالئ والحافظ لرعيته.
وكان بيانه في مِقْدَارِ عَقْلِه قوة وسداد، إذ كانَ في مَرتبة رفيعة من البلاغة والفصاحة؛ حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج "الضاد" من أي شدقيه شاء،
فما هو إلا أن يقف بين الناس واعظًا، أو يقوم في الجنود ناصحًا؛ حتى يهدر بكلامه، وحتى تنصاع له القلوب انصياعًا.
ومن خطبه رضي الله عنه بعد أن ولي الخلافة، أنه قام في الناس خطيبًا فقال: "إن الله عز وجل قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يُلهمني العَدْلَ في قَسْمِكُم كالذي أمرني به، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل ولن يُغير الذي وليت خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إنّ عُمَرَ تَغَيّر منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأُبَيّن لكم أمْرِي؛ فأيُّما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، أو عتب علينا في خُلق فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم.
فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي؛ فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيبٌ إليّ صلاحُكُم، عزيز عليّ عنتكم، وأنْتُم أناسٌ عامّتكم حضر في بلاد الله، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه، وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كثيرة، وأنا مسئولٌ عن أمانتي، وما أنا فيه، ومُطّلعٌ على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله تعالى".
ومن مواعظه رضي الله عنه أنه قال ذات يوم: "إنّ الله -سبحانه وبحمده- قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه؛ فخَلَقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا
شيئًا؛ خَلَقَكُم لعِبَادَته، وسَخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم سمعًا وبصرًا.
ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم، ومنها نعم اختص بها أهل دينكم؛ ثم صارت تلك النعم خواصها وعوامها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلّا لو قُسِمَ ما وصل إليه منها بين الناس كلهم، أتعبهم شُكْرُها، وفَدَحهم حَقُّهَا إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله.
فأنتم مُسْتَخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد؛ فنَسْأَلُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته".
وسار عمر رضي الله عنه في خلافته سيرة أبي بكر رضي الله عنه في تشييع الجيوش بالخطابة محرضًا على الجهاد، حتى ينتشر الدين الحنيف في أقطار الأرض، وهو لا ينتشر إلّا بالقُوّة التي تُعِزّ الحَقّ وتعلي سلطانه، إنّها معركة الإسلام، معركة النفوس المؤمنة التي وعدها الله أن ترث الأرض ومن عليها.
وما زال عُمرُ رضي الله عنه يبرز هذه المعاني محاولًا أن يرتفع العرب في جهادهم عن ضعف المخلوق، ويصبحوا قوة من قوات الخالق يقول رضي الله عنه في بعض هذه الخطب: "أين الفقراء المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنّ اللهَ سُبحانه قال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33)، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولى أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون.
ولما اجتمع الجيش أمّر عليه أول من أجابه حينئذ إلى الجهاد؛ وهو أبو عُبيد ابن مسعود، وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر، ولا
تَجْتَهد مُسرعًا حتى تتبين؛ فإنّها الحرب، والحرب لا يُصلحها إلّا الرّجُل المكيث الذي يَعرف الفُرصة والكف".
وتوفي عُمر رضي الله عنه وخلفه عثمان رضي الله عنه وكان يهبط درجة عنه، وعن أبي بكر في الفصاحة والبيان، ويروى أنه رضي الله عنه ارتج عليه يومًا، وقد أراد الخطابة في الناس فقال:"إنّ أبا بكر وعمر كان يعدان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمام عادل، أحوج منكم إلى إمام خطيب".
وليس معنى ذلك أن عثمان رضي الله عنه كان يرتج عليه دائمًا؛ فقط كان يخطب أحيانًا فيملأ النّفس بمواعظه، على شاكلة قوله حين بايعه أهل الشورى والناس: "إنّكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أوتيتم صبحتم أو مسيتم ألا وإن الدنيا طويت على الغرور؛ فلا تَغُرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا؛ فإنه لا يغفل عنكم أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها، ومُتّعوا بها طويلًا ألم تلفظهم! ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلًا فقال عز وجل:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 45، 46).
وامْتُحن عثمان رضي الله عنه في آخر أيامه بالثّورة عليه؛ فلم تنحرف نفسه بل ظل صابرًا يتلو القرآن، ويدعو الناس إلى ألا يُحدثوا فتق هذه الفرقة، وهو في أثناء ذلك يعظهم ألا تبطرهم الدُّنيا، وأن يؤثروا ما بقي على ما يفنى؛ فيلزموا الجماعة، ولا يتخاذلوا فيصبحوا أحزابًا.
وولي علي رضي الله عنه الخلافة بعد عثمان، والفتنة تموج بالناس وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعًا- يؤلبون عليه أهل البصرة، ومعاوية يؤلب أهل الشام، فاصطدم
بهم جميعًا، وانتقل إلى الكوفة يجمع الناس ويحاربهم، وانتصر على الثلاثة الأولين؛ ودَخَل مع معاوية في حروب صفين؛ ثم كانت خدعة التحكيم.
وخرج عليه فريق من جيشه فاضطر إلى حربه، وهو في كل ذلك يخطب واعظًا حينًا وداعيًا إلى جهاد خصومه حينًا آخر، وكان علي رضي الله عنه خطيبًا مفوهًا لا يُشَقُّ غباره.
ومن مواعظه رضي الله عنه قوله: "إنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم والسِّباق غدًا. ألا وِإنكم في أيام أمل، ومِن وراثة أجل، فمن أخْلَص في أيام أمله، قبل حُضور أجله، نفعه عملُه، ولم يَضره أملُه؛ ومن قَصر في أيام أمله، قبل حُضور أجله، خَسِر عملُه، وضَره أمله. ألا فاعملوا الله في الرغْبة، كما تَعملون له في الرَّهبة؛ ألا وإني لم أرَ كالجنَة نام طالبها، ولا كالنَار نام هاربها".
وطبعي أن تكثر خطب عليه في حروب خصومه؛ فقد ظَلّ نحو أربع سنوات يجاهدهم، ويَخْطُب في أصحابه حاثًّا على الجهاد، ومن قوله في خطبة له بآخرة من أيامه وقد تقاعس بعض جنوده، وأخذ جنود معاوية تغير على أطراف العراق فقد خطب رضي الله عنه فقال: "إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء ولزمه الصغار، وسيم الخسف ومنع النصف؛ ألَا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.
فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريًّا حتى شنت عليكم الغارات، فيا عجبًا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! حتى صرتم غرضًا يُرمى، وفيئًا ينتهبْ يُغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، قد ملئتم صدري غيظًا وجرّعتموني الموت أنفاسًا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان".