الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعداد الخطبة
إن الخطيب البارع هو الذي يحدد خطبته ويحضر موضوعها تحضيرًا دقيقًا؛ حتى تكون خطبته مركزة ومنظمة معالجة للمشاكل المعاصرة، وحتى يربط بين الدين والحياة. ويبدأ بتحديد موضوع الخطبة ثم يرتب عناصرها وأفكارها، ثم يشرحها مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية، ويستخلص النتائج والدروس التي تناسب الأحداث التي يعيشها الجمهور، وبذلك يشد انتباههم ويقنع عقولهم ويستميل وجدانهم، أما إذا لم يحدد الخطيب موضوعًا بدا وكل الدلائل تشير إلى أنه شارد الذهن، مشتت الفكر يشرق ويغرب، ويأتي بأفكار من هنا ومن هناك، بل ربما يبدو فيها التضارب والتناقض مما يؤدي بالجمهور إلى الملل والانصراف عنه، وكل ذلك نتيجة اعتماد الخطيب على الكلام المرتجل، الذي قد يخطر على بال صاحبه دون سابق تحضير، ولا يستطيع الإنسان أن يشعر بالارتياح حين يواجه مستمعيه إلا بعد أن يفكر مليًّا، ويخطط ويعرف ما الذي سيقوله في خطبته. إنه إن لم يفعل ذلك سيكون كالأعمى الذي يقود أعمى في مثل تلك الظروف، فالواجب على الخطيب أن يكون واعيًا لنفسه وأن يشعر بالندم والخجل لإهماله.
كتب "تيدي روزفيلد" في مذكراته يقول: "انتخبت إلى المجلس التشريعي في خريف سنة 1881، وقد وجدت نفسي أصغر رجل في المجلس، ومثل سائر الشبان والأعضاء غير المتمرسين وجدت صعوبة بالغة في تعلم الخطابة، وقد استفدت كثيرًا من نصيحة رجل ريفي عجوز يقول فيها: لا تتكلم حتى تتأكد أن لديك ما تقول، واعرف عما ستتحدث ثم قله واجلس".
كلمة جميلة حكيمة يجب على كل خطيب أن يرددها على مسامعه حتى يحفظها.
وهنا نصيحة حكيمة من العميد "براون" في جامعة "بيل"، الذي كان يدرب الآخرين على الخطابة، وكيفية الإلقاء وتحضير الخطبة، وتوزيع بعض النصائح التي تفيد الخطيب إذا كان بائع قماش أو صانع أحذية. يقول "براون" في نصيحته:"احتضن دراستك. احتضنها حتى تصبح يانعة، فمن خلالها تحصل على قطيع كامل من الأفكار الناجحة، مثلما تسبب ذرات الحياة الصغيرة في الانتشار والنمو، ويستحسن أن تستمر هذه العملية فترة طويلة، وحين تنهمك في جمع مادة علمية لإلقاء خطبة في احتفال معين اكتب جميع الأفكار المتعلقة بالمادة التي تخطر ببالك. دَوِّن جميع أفكارك ببضع كلمات كافية لتثبيت الفكرة، ودع عقلك يبحث عن المزيد منها. تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرب العقل على الإنتاج، وبها تبقى عملياتك الذهنية نشطة وبناءة. دَوِّن كل هذه الأفكار التي دَوَّنها تفكيرك من دون أي مساعدة، فهي بالنسبة لتغذيتك الفكرية أثمن من الياقوت. دَوِّنها على قطع من الورق، وستجد من السهل ترتيب هذه القطع حين تنظم مادتك. ثابر على كتابة جميع الأفكار التي ترد إلى تفكيرك. ليس عليك الإسراع في هذه العملية؛ فهي أهم عملية فكرية سيتاح لك الانهماك فيها. إنها الوسيلة التي تدفع العقل للنمو لكي يصبح قوة حقيقية منتجة".
إنها نصائح غالية حقًّا، خلاصة هذه النصائح: أن الخطيب لكي ينجح في مهنته لا بد من تحضير موضوع الخطبة، وإعداده إعدادًا دقيقًا. وإعداد الخطبة وتحضيرها ليس عيبًا يشين الخطيب؛ فإن كبار الخطباء ومشهوريهم -في القديم والحديث في الشرق والغرب- كانوا وما زالوا يقضون وقتًا في إعداد خطبهم، قبل أن يخرجوا بها إلى الناس، مع قدرتهم البالغة على الكلام في أي موضوع من واقع تجربتهم، وخبرتهم السابقة في مجال الخطابة والإلقاء.
ومن أشهر خطباء العصر الحديث في الغرب العالم الغربي "دوتلي مودي". كيف حضر هذا العالم خطبه التي جعلته مشهورًا عبر التاريخ؟ قال مجيبًا عن هذا السؤال: "ليس لدي أي سر حين أختار موضوعًا أكتب اسمه على مغلف كبير، لدي الكثير من تلك المغلفات، فإذا وجدت أثناء القراءة شيئًا جيدًا حول الموضوع الذي سأتحدث عنه أنقله إلى المغلف الصحيح وأضعه جانبًا، ودائمًا أحمل معي دفتر ملاحظات، فإذا استمعت إلى عبارات أثناء أي احتفال -تلقي ضوءًا على الموضوع- أسجلها ثم أنقلها إلى المغلف، وربما تركته جانبًا لمدة سنة أو أكثر. وحين أريد أن ألقي خطبة أتناول ما أكون قد جمعته، فأجد مادة كافية مما أجده هناك، إضافة إلى اجتهادي الخاص".
ويقول "آدوين جايبس": "إن الخطب المجيدة هي تلك التي تتسلح بمادة احتياطية وافرة وفائضة، وهذه المادة الاحتياطية من المعلومات لا تتم ولا تتوطن عند الخطيب؛ إلا بتحضير موضوع الخطبة تحضيرًا دقيقًا، وإعداده إعدادًا جيدًا قبل مجيء موعد الخطبة بوقت كاف، وهذا التحضير والإعداد لموضوع الخطبة يعطي الخطيب فرصة كبيرة للتأثر بخطبته، والتأثير بها في غيره، كما يعطي الخطبة بهاءً وجمالًا من حيث أسلوبها وكلماتها.
أما الأساليب الخطابية المرتجلة فهي أقل بهاء ورونقًا من المُعَدَّة والمحضرة، وكذلك الأفكار المرتجلة فهي فجة مبتسرة، إذا قيست بالأفكار المدروسة الناضجة المختمرة. ثم إن ظهور الخطيب بمظهر المجازف الذي لم يعد الخطبة فيه اعتداد بالنفس، واستهانة بالحاضرين، وتبجح بعدم الاهتمام، ودعوى أن خاطر الخطيب أسرع من خواطر الناس، وهذه كلها صفات لا ترتضيها الجماعات.
ولقد يعسر على المرتجل تفكيرًا وتعبيرًا أن يعالج الموضوع، وأن يصل منه إلى نتيجة، فهو كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح، أو كهائم لا يعرف وجهته ولا المسالك إليها، ويرتجل الكلام وليس فيه سوى الهذيان من حشو الخطيب".
وإذا كان الخطباء المعاصرون المشهورون يحضرون خطبهم ويعدونها إعدادًا دقيقًا، فقد كان البلغاء القدامى المشهورون يحضرون خطبهم، ويهذبونها ويتمرنون على إلقائها. هكذا كان يفعل "شيشرون"، وكان "كانتليان" من أساتذة الخطابة عند اللاتين، يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في آخر عمره، بعد أن يكون قد تدرب وتمرن. وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون يوضح أن جميع خطباء "أثينا" كانوا ينمقون العبارات قبل أن يلقوا خطبهم، لذا تتراءى فيها آثار التعمل والتنقيح والإعداد، وكان محظورًا على غير المتقاضين أن يترافعوا في المحاكم.
وقال البعيث الشاعر وكان أخطب الناس: "إني والله ما أرسل الكلام قضيبًا خشيبًا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك". وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة، فقال:"وما أنا والرأي الفطير والكلام القضيب". يريد بالرأي الفطير الأمر المستعجل الذي لم يبلغ نضجه. وقيل لابن التوأم: "تكلم فقال: ما أشتهي الخبز إلا بائتًا". وقال أحد الشعراء لرجل: "أنا أقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك؟ فقال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانك". كأنه يقول له: إن المهم ليس هو كثرة القصائد، وإنما المهم هو مدى تجويدها وتحضيرها وإعدادها.
وكان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه كان يمكث حولًا كاملًا في إعدادها وتنقيحها. كذلك فعل خطباء وشعراء العروبة والإسلام؛ لأنهم يدركون أهمية الإعداد والتحضير في الشعر والنثر، ولأنهم يعلمون أن الإعداد والتحضير سمة للإنتاج البليغ.
وفي الحقيقة أن الناس لا يسألون عن هذا الإنتاج في كم يوم تم، وإنما يعجبون به ويمتدحون صاحبه، وما من أحد يسأل: كم ساعة أو يومًا كان يقضيها المتنبي وشوقي في نظم القصيدة، أو علي بن أبي طالب والحجاج بن يوسف في تنسيق الخطبة، أو الجاحظ والمنفلوطي في تحضير المقالة، فرب بيت منقح خير من قصيدة ألف بيت، ورب سطر مجيد خير من كتاب.
والخطيب البادئ يحتاج إلى مجهود كبير في إعداد خطبته، ولكنه لا يتم تكوينه خطيبًا إلا بهذا المسلك، وبعض الخطباء يرون أنفسهم قد نجحوا غير مرة في خطبهم، فيعتمدون على شهرتهم، ويقصرون في إعداد خطبهم وصيانة نفوسهم، فيسقطون وينصرف عنهم السامعون. فعلى الخطيب أن يعلم أن مجهوده في بناء نفسه أول أمره -مهما كان كبيرًا- أسهل من مجهوده في إعادة بنائه إذا سقط. ومعنى هذا أنه ينبغي أن يكون حذرًا من السقوط مهما كانت رتبته.
وعلى هذا فإن من أعظم العوامل لنجاح الخطيب في مهمته، والتي تعلي كعبه وترفع قدره عند مستمعيه، ويتلهفون على لقائه، ويشدون إليه الرحال للاستفادة منه والاستماع إليه في ساعتهم الراهنة، والتحضير الجيد الذي يلم بالموضوع من جميع جوانبه، وأن يراعي ترتيب الموضوع ترتيبًا ويضع كل عنصر في موضعه الذي يناسبه، فلا تجد شيئًا حول الموضوع إلا قد ألم به وأفاده، وأن يكون للخطبة موضوع محدد، كل آية وكل حديث وكل أثر وكل قصة
وكل فكرة وكل بيت شعر وكل كلمة حكمة، تكون لبنة في بناء الموضوع ودعمًا قويًّا للفكرة المراد توصيلها وإقناع الناس بها، ولا يقدم ما ينبغي تأخيره ولا يؤخر ما ينبغي تقديمه، ويبدأ خطبته هادئًا في ثقة بسيطًا في عمق، والإلقاء يكون جيدًا خلابًا يأخذ بتلابيب القلوب ويشنف الآذان، ويستميل المستمعين إلى الخطيب وإلى ما يدعو إليه.
إن التخطيط والتحضير الجيد للخطبة من الأهمية بمكان، كما يفهم من تصريح عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة حيث قال:"لقد زورت كلمات أعجبتني -أي: حضرتها في نفسي وأعددتها- فقال لي أبو بكر: على رِسْلِك يا عمر، فوالله لقد جاء عليها كلها". يقول عمر: لقد جاء أبو بكر على تلك الكلمات التي زورها في نفسه. فهذا عمر الملهم، وعمير سفير في الجاهلية وملهم ومُحَدَّث في الإسلام، يزور كلمات يواجه بها الموقف، فمن لم يبال بهذا العمل فإنه لا يسلم من الفشل. وقد قال الجاحظ:"إنما يجترئ على الخطبة الغر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره".
ثم إن الإعداد والتحضير يؤدي إلى تحسين وتجويد التصوير والتفكير، ولأن تجويد التصوير يستدعي تجويد التفكير في نظر "فلوبير" الكاتب الفرنسي المتفنن، فقد كان لا يكرر صوتًا في كلمة ولا يعيد كلمة في صفحة، وكان يتلو ما كتب بصوت إيقاعي ليؤلف بين الحروف والكلمات، ويوفق بين السكنات والحركات.
وإذا كان الارتجال ضروريًّا في بعض الخطب الاضطرارية، فإن الإعداد ضروري في بعضها الآخر، على تفاوت في طريقته والحاجة إليه، فالخطب السياسية لا
مندوحة من إعدادها، وأي خطيب سياسي لا يعد خطبته إيجادًا وتنسيقًا فالإخفاق نصيبه. على أن بعض الخطب السياسية يعوزها الإعداد إيجادًا وتنسيقًا وتعبيرًا؛ لحاجتها إلى دقة التعبير ووزن الألفاظ، كخطب المعاهدات وبعض خطب المؤتمرات الدولية، فهذه تعد إعدادًا كاملًا. والناحية التطبيقية على القانون في الخطبة القضائية لا بد من إعدادها إعدادًا كاملًا أيضًا، تتجلى فيه الثقافة القانونية والثقافة العامة. ومن الخير للخطيب أن يجمع بين الارتجال والتحضير، فيعد موضوعًا ثم لا يتقيد بما أعد، بل يتصرف كما تملي عليه الظروف، وحينئذ تمده ذاكرته بما قد أعده وتسعفه بديهته بالجديد الذي لم يعده.
فمتى يحسن التحضير؟ ومتى يحسن الارتجال؟
يقول الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله: "إن الخطيب يلقي خطبته إما بعد تحضير وإعداد وإما على البديهة والارتجال، ولكل مواضع ومحاسن؛ فالتحضير يحسن -بل يكون لازمًا- إذا كانت معلوماته في الموضوع الذي هو بصدد القول فيه لا تسمح له بالقول على البداهة، وإن تكلم قال كلامًا مبتسرًا لا يقيم حقًّا ولا يخفض باطلًا ولا يجذب نفسًا ولا ينفر من أمر، فهو يدرس الموضوع من كل نواحيه ويقتله بحثًا ودرسًا؛ ليستطيع أن يدلي فيه بحجته فيصيب المحز ويدرك الشأن وينال السبق، وكذلك يعمد إلى التحضير إذا كانت عنده فسحة من الوقت، يستطيع فيها أن يبدي ويعيد وأن يتثبت فيما يقول، ويختار لمعانيه أجود الألفاظ ويتجه إلى أقرب الطرق التي يصل منها إلى النفوس، ويهز بها أوتار القلوب هزًّا رفيقًا أو عنيفًا كما يريد. ويعمد إلى التحضير أيضًا إذا
كان بين قوم يتسقطون هفواته، ويتتبعون سقطاته يحصونها عليه إحصاء، ويحاسبونه عليها حسابًا عسيرًا، فهو يتقدم إليهم بسلاح التحقيق مستندًا على متكأ من الحقائق، فلا يسقط إن حاولوا أن يأخذوا عليه ما يسقط، ولا يعثر ولا يزل ولا تنزلق قدمه في مزالق الخطر ومداحض الزلل.
ولذلك كان أكثر خطباء اليونان والرومان يهيئون خطبهم قبل إلقائها، ولا يجرؤ واحد منهم مهما تكن ثقته بنفسه قوية، ومهما يكن صيته ذائعًا ومعروفًا باللسان والبيان على الوقوف من غير سابقة تحضير، وإلمام تام بما يقول؛ خشية أن يأخذ عليه النقاد شيئًا، أو يسقط بين أديب سقطة تذهب برواء قوله وحسن مذهبه وما يدعو إليه. ولا يتوهمن متوهم أن في تحضير الخطبة ما يعيب مقدرته، فإن العيب أن يقول كلامًا مبتذلًا لا قيمة له ومعناه تافه صغير. ولتكن له أسوة حسنة في كثير من كبار الخطباء الأقدمين والمُحْدَثين، فإن كثيرين منهم مع قدرتهم التامة على الارتجال يأخذون للموقف الأهبة ويعدون له العدة، عالمين بأن الخطيب كالمجاهد لا يخوض غمار الحرب من غير أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لها لأمتها، ويتخذ لها شوكتها، وليس ذلك في الخطيب إلا بالتحضير والتهيئة والاستعداد للموقف من كل نواحيه.
وإن الذي يتعرض للخطبة من غير سابق تحضير ولا تهيئة، ولم يكن ذا إلمام سابق بالموضوع يجيء كلامه ضعيفًا في معناه ومبناه، بل إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير بما يقول إن لم يراجع نفسه آنًا بعد آنٍ، ويفكر طويلًا فيما يعتزم قوله وقتًا بعد آخر يضعف أسلوبه الخطابي وتلين عباراته، وينحدر إلى منزلق سحيق، وتتجه معانيه اتجاهًا سطحيًّا، وتفقد قوة التأثير في المشاعر والأهواء".
وطرق التحضير كثيرة متشعبة؛ فمن الخطباء من يكتفي في تحضيره بدراسة الموضوع دراسة تامة، ثم يجمع عناصرها في خاطره ويرتبها بينه وبين نفسه، ويستحضر الألفاظ اللائقة بالمقام والعبارات الجديرة بالموضوع. وهذه طريقة لا يتبعها إلا المتمرن على المواقف الخطابية الذي اندرج في سلك الخطباء. وكثير من الأدباء يعد الخطبة التي تحضر وتلقى على هذه الشاكلة مرتجلة، ولكنا نرى الارتجال أن تقال الخطبة على البداهة، من غير أي تحضير للموقف السابق.
ومن الخطباء من يدرس الموضوع ويهيئ معاني الخطبة ويرتبها ترتيبًا محكمًا، ثم يكتب عناصرها وأجزاءها في مذكرة يستصحبها عند الخطبة؛ لتكون مرجعًا له وضابطًا وليحفظ المعاني والأفكار، من أن تضيع بضلال الذاكرة، وذلك النوع من الخطباء كثير. وفي الأخذ بهذه الطريقة مزايا كثيرة لما فيها من ضبط للأفكار، وجمع للخواطر وإحكام للمعاني، وهي كسابقتها لا يتجه إليها إلا الخطباء الذين تمرنوا على القول، وعرفوا مقاتله ومواضيع التأثير فيه، وأصبحت لهم طرق خاصة في الإلقاء يتجهون إليها من غير قصد، بل بمقتضى الإلف والاعتياد.
ومن الخطباء من يطلع على الموضوع ويدرسه بعناية، ثم يتكلم فيه بينه وبين نفسه بصوت مرتفع في غرفة قد انفرد فيها، أو في مكان خلوي أو يتكلم على بعض الناس، ومثل ذلك النوع من الخطباء مثل المطربين، إذ يلحنون القطع التي هم بصدد ترتيلها والتغريد بها في وسط الناس، ويتمرنون على ذلك أمدا غير قصير، حتى تستقيم لهم النغمات فكذلك هذا النوع من الخطباء.
ومن الخطباء من يكتب الخطبة، ويتحرى في الكتابة أبلغ الأساليب التي توصله إلى غايته، وتؤدي به إلى ما يريد ويحكم معانيها، ويحملها كل ما ينبغي من
وسائل التأثير وطرق الإقناع، التي يصوبها نحو هدفه ويرمي بها إلى غرضه، وبعد الكتابة يقرأ ما كتب مرارًا وينقحه في كل مرة، وبهذه القراءة التي يتحرى بها جودة الإلقاء وحسن النطق تعلق معاني الخطبة، مرتبة ترتيبًا تامًّا بذاكرته، ويحفظ كثيرًا من ألفاظها وعباراتها. وهذه الطريقة يتبعها كثير من المحامين، في القضايا ذات الشأن التي تحتاج إلى تحضير كبير، وجمع لعدة نصوص قانونية.
ومن الخطباء من يكتبون خطبهم ويحسنون تحبيرها، ثم يحفظونها حفظًا تامًّا، ومنهم من يتحلل أحيانًا مما حفظ إن وجد المقام يدفعه إلى غيره. ومن الناس من يكتب ويحفظ بدون أن يغير شيئًا كما كان يفعل. ومن الناس من يكتب الخطبة ثم يلقيها بالقراءة في الورقة التي كتبها فيها، وهذه الطريقة في الحقيقة لها آفات وعيوب كثيرة، فلن تستحل الأفكار دمًا يجري في عروق الخطيب إلا إذا مارس الحياة، وذاق حلوها ومرها وعاش التجربة التي يحكيها، عندئذٍ يمكنه أن ينقل الأفكار إلى الآخرين بكل ما حولها من انفعالات وإيجابية، تحمله على تنفيذها في دنيا الواقع.
أما خطيب الورقة فهو محروم من هذا كله، بعيد عن هذه الساحة الحافلة بالحركة والنشاط. إن اللفظ والصوت والإشارة بل والهيئة كل أولئك عوامل تأثير لا بد منها؛ كي تحول المستمعين من وضع إلى وضع، وتنقلهم من التلقي الرتيب لينهضوا مسارعين إلى ما دعاهم إليه الخطيب. وخطيب الورقة بنبرته الرتيبة ووصفه الآلي لا يصل إلى ما ينبغي أن يكون. إن صوته يمضي بالمستمع على نبرة واحدة، تفرض عليه النوم أحيانًا. إنه مشغول بالنظر إلى ما خطه قلمه في الورقة خشية الزلل، وإذًا فلا تلتقي عينه بالمستمع الذي يحس بأن شخصًا آخر
يحدثه غير هذا الخطيب الذي يراه، فلا رابطة بين الخطيب وبين المستمع، وإذا دعت الضرورة للاختصار فلن يستطيع كاتب الورقة أن يختصر؛ لأنه مرتبط بالنص المكتوب.
وقد تكون الضرورة مما لا يمكن التساهل فيه وحينئذٍ تزيد الهوة اتساعًا، وقد تصل هذه الظروف الطارئة إلى حد تغيير موضوع الخطبة بكامله، ولا يستطيع الخطيب أن يغير الموضوع؛ لأنه ليس له إلا ما كتبه.
فنصيحتنا للخطباء أن يهتموا بتحضير الخطبة، ولا مانع من كتابتها كتابة عناصر أو كتابتها كاملة، ولكن لا بد من ترديدها وحفظها حتى يرتجلها على المنبر ولا يقرأها من الخطبة. وإذا كنا قد أوجبنا التحضير والتهيئة، فليس معنى ذلك أن الخطيب لا يحتاج إلى الارتجال، إذ القدرة على الارتجال ألزم الصفات للخطيب، بل لا يعد الخطيب خطيبًا ممتازًا إلا إذا كان من القادرين على الارتجال.
إن حاجة الخطيب للارتجال واضح، فقد يحضر الخطيب، ثم يرى من وجوه السامعين وحالهم ما يحمله على اتجاه آخر، فإن لم تسعفه بديهة حاضرة وخاطر سريع ومران على الارتجال طويل ضاع هو وما يدعو إليه، واتقاه الناس بالبكاء والتصدية والصفير والسخرية والاستهزاء في كل مكان. وقد يخطب الخطيب فيعترض عليه بعض الناس في خطبته، فإن لم تكن له بديهة حاضرة ترد الاعتراض وتقرعه بالحجة القوية ذهبت الخطبة وآثارها.
وقد كان العرب أيام ازدهار الخطابة فيهم من أقوى الناس على الارتجال. قال الجاحظ في وصفهم: "وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة".
ولكن على الخطيب حتى يتعود على الارتجال عليه أن يتربى بسماع الخطباء المرتجلين الممتازين؛ لأن السماع يحفز من عنده استعداد الكلام إليه، ولأن فكر البشر يتغذى بالتقليد والمحاكاة، وبأن يأخذ نفسه من وقت لآخر بالكلام مرتجلًا، ويغشى الجماعات ويتقدم إلى القول؛ ليفك عقدة لسانه ويزيل حبسة الحياء. ومن أمثل الطرق أن يجتهد في أن لا يخطب من ورق، وأن يعرف ملخص ما يقول بعد تحضيره، فإذا دأب على ذلك واتته فطرة قوية واستعداد قويم على القول على البديهة، من غير تحضير عند الاقتضاء. وعلى مريد الخطابة أن يستنصح رفيقا له يدله على عيوبه، كما أن عليه أن يراقب نفسه مراقبة تامة، ويأخذ نفسه بالإصلاح، ولا يترك عادة لا تستحسن تثبت وتنمو، وعليه أن لا يتقيد بعبارات خاصة، ولا أثار سخرية الناس وما التمكين خصومه من العبث بسمعته البيانية.
هذا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.