الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرد على مَن أنكر الأسباب الظاهرة، وادّعى أن السماع محض خلق الله تعالى من غير أن يكون سببه وصول الهواء المتموِّج إلى الصماخ]
قوله
(1)
أما كون السماع بخلق الله تعالى فلا يشك فيه مسلم، وإنما الشأن في معرفة السبب الظاهر.
قوله: «أو أنه يوجد كيفية بعد كيفية
…
» إلخ
هذا هو الأقرب، وذلك أن كلَّ ما جاور الهواء الأول من الأهوية تكيف بكيفيته ثم يتسلسل هكذا حتى يضعف.
وفي ذهني أنه أورد على هذا: أنه يلزم عليه أن يتعدد السماع بتعدد الأهوية فيسمع الإنسان الصوت الواحد مرارًا.
والجواب: أن الهواء الأول المتكيف بكيفية الصوت لا يلبث متكيفًا بها إلا ريثما يتكيف بها مجاوره، ثم تزول عنه، وهكذا الأهوية المجاورة له لا تلبث متكيفة بتلك الكيفية إلا ريثما يتكيف بكل منها ما جاوره، وهلم جرًّا، وحينئذ فلا يصل إلى الأذن متكيفًا بالكيفية إلا هواءٌ واحد، فأما ما يأتي بعده فإنه يكون قد انمحى تكيُّفُه قطعًا، فتأمل.
فإن قيل: هذا بالنسبة إلى التعاقب، وبقي ما كان بالمعية، وذلك أنكم قلتم بأن المتكيِّف بتلك الكيفية ينتهي إلى أن يكون أهوية كثيرة، فالهواء
(1)
المؤلف ينقل عبارات لأحد المصنفين ــ لم يسمه ولم أهتد إليه ــ ويردّ عليه ويناقشه، وانظر نحو ما ينقله المؤلف في «المواقف»:(2/ 5 - 17) للإيجي.
الداخل في إحدى الأذنين هو غير الداخل في الأذن الأخرى؛ بدليل أنه قد يدني الشخص أذنه من أذن الآخر ثم يكون صوت فيسمعانه معًا، والهواء الواحد لا يُتصور انقسامه، بل على هذا قد تزدحم في الأذن أهوية كثيرة من هذه الأهوية.
فالجواب: أننا نسلم أن الهواء الداخل في إحدى الأذنين غير الداخل في الأخرى، وأنه قد يزدحم في الأذن هواء وأكثر، ولكنا نقول: إنها لما كانت متماثلة لم يقدح ذلك في السماع كما سيأتي.
ولا يخفى أن كل نقطة من الصوت تحتاج إلى هواء مستقل، فالهواء الواحد لا يسع إلا بقدر حرف من الحروف الآتية مثلًا، وحينئذ فنحكم أن الناطق إذا نطق بحرف من الحروف الآتية كان المتكيِّف بها ذرة من الهواء، ثم إن تلك الذرة لا تلبث أن يتكيف بها ما جاورها من ذرات الهواء وتذهب الكيفية عنها، ثم إن تلك الذرات لا تلبث أيضًا أن يتكيف بها ما جاورها من الذرات الأخرى، وينمحي عنها وهلمّ جرًّا. ونعني بقولنا: ما جاورها، أي من الجهة البُعْدى عن المصوِّت، لا الجهة الدنيا، والسبب أن التكيف إنما هو بالدفع، ولذلك اختلف السمع بالقرب والبُعْد وشدة الصوت وضعفه، والدفع إنما هو إلى الخارج.
بقي أن يقال: إنه إذا كانت إحدى الأذنين أقرب إلى المصوِّت من الأخرى يلزم سماع الصوت مرتين، وذلك أن الهواء يدخل الأذنين متعاقبًا لا دفعة.
ويجاب بتسليم ذلك، ولكنه لسرعة اندفاع الهواء وقلة التفاوت لا يشعر
السامعُ بذلك، بل يظنه سماعًا واحدًا. وهذا كما إذا نظرت إلى كوكب من الكواكب مثلًا وأخذت بيدك عودًا وجعلته بين نظرك وبين الكوكب فإنه يمنع النظر، فإذا حَرَّكته بسرعة من اليمين على الشمال خُيِّل إليك أن رؤيتك للكوكب متصلة، وأن ذلك العود لم يقطعها، وما ذلك إلا لسرعة الحركة، فلا يصل المثال المأخوذ بالرؤية الأولى إلى الحس المشترك حتى يتبعه الآخر فيمتزج به، وعلى نحو هذا يقال في السمع، والله أعلم.
قوله: «على أن الظاهر تكيف جميع الهواء
…
» إلخ.
استظهاره في محله على ما بينَّاه آنفًا.
قوله: «ويلزم اجتماع مثلين
…
» إلخ.
أقول: إن أراد بالاجتماع الاجتماع على جهة الامتزاج، فغير مسلَّم؛ لأننا نقول: إن الهواء المتكيف بكيفية الصوت لا يقبل التكيف بكيفية صوت آخر حتى يتلاشى الأول. وإن أراد على جهة الازدحام فنعم، ولكن المسموع حينئذ هو القدر المشترك بين الصوتين، فإن كانا متماثلين كان السماع صحيحًا، كما إذا رمى جماعةٌ ببنادقهم دفعة واحدة، فإنه يسمع صوت بندق أندى من الصوت المعروف للبندق الواحد. وعلى نحو هذا يقول الشاعر
(1)
:
فقلتُ ادْعي وأدعوَ إنَّ أندى
…
لصوتٍ أن ينادِيَ داعيان
(1)
هو دِثار بن شيبان النمري. والبيت من قصيدة له في «الأغاني» (2/ 159)، وهو من شواهد «الكتاب» (3/ 45). ونسب فيه إلى الأعشى ولم يرد في ديوانه.
وإن كانا مختلفين كان السماع مشوشًا، فتأمل.
قوله: «على أنه يسمع من بعد
…
» إلخ
ممنوع بدليل أنه إذا كان إنسان بعيدًا عنك يرمي ببندق إلى هدف، فإنك ترى وقع الرصاصة قبل سماع البندق، وإن كان بجنبك كان سماعك للصوت قبيل رؤيتك وقوع الرصاصة.
قوله: «مع أن لعبة الصبيان
…
» إلخ
إن أراد بصوت الحصى أو الصوت الناشئ من قرع بعضها لبعض بدون مماسة لباطن اللعبة، فهذا ممنوع.
وإن أراد به صوت الحَصَى في قرعه لباطن اللعبة أو في قرع بعضه لبعض مع اتصال المقروع بباطن اللعبة، فهذا مُسلَّم، ولكن لا نسلم أن السماع حينئذ من وراء حجاب، بل السماع هنا بواسطة انقراع الحجاب المتصل بالهواء، وذلك أن الإنسان إذا كان في مكان، وكان آخر في مكان مجاور له، فإنه لا يسمع أحدهما كلام الآخر ما لم يكن هناك نافذة بخلاف إذا قرع أحدهما الجدار المشترك بين المكانين ولو قرعًا خفيفًا، فإن الآخر يسمع ذلك القرع، وذلك أن الصوت يسري في الأجسام المتصلة فيتكيف به جزء بعد جزء، كما يتكيف الهواء. وهذا البحث يحتاج إلى تحقيق.
بقي أن يقال: إن الإنسان إذا أطبق فمه وأمسكَ بمنخريه وسد أذنيه ثم صوت بأسنانه أو غيرها مما يمكن التصويت به داخل الفم فإنه يسمع.
والجواب: أن هذا من سريان الصوت في أجزاء الجسد فيتصل بالمسامع.
قوله: «إنا نعرف جهة الصوت ونحزر بُعدَ مسافته
…
» إلخ.
الجواب: أن الأذن تميز بين الأهوية التي تقرعها قوة وضعفًا وكيفيّةً، وذلك أن للصوت الذي يكون من مصوت بعيد كيفيةً غير كيفية الذي يكون من قريب، ألا ترى أن بعض الناس يريد أن يغالط السامع القريب منه فيوهمه بأنه يصوِّت مِن بُعْد فيمكنه ذلك بأن يخرج صوته على كيفية غير الطبيعية. وهكذا كل مصوِّت من المصوِّتات لصوته العالي كيفية غير كيفية صوته الأدنى، ومن هنا استطاع السامع أن يعرف جهة الصوت ويحزر بُعد مسافته.
أما معرفة جهته، فلأَنَّ الجهة إذا كانت مسامتة للأذن كان سماع الأذن للصوت على طبيعته مِن ذلك البُعد، فتعرف أن هذا الصوت من الجهة المسامتة لها. وإن كان من غير المسامتة، كان سماع الأذن له ضعيفًا نوعًا ما، مع أن كيفيته الدالة على المسافة بحالها، فتعرف الأذن أنه من جهة غير المسامتة، وتقدرها بقدرها.
وأما معرفة المسافة، فلِمَا ذكرنا أن للصوت كيفياتٍ متعددةً بتعدد المسافات. وقد يستطيع الإنسان أن يتكلَّف إيقاع بعضها في موقع غيره كما مر، وهذا مثلما أنَّ لصوت كل إنسان من الناس كيفيةً يمتاز عن صوت غيره، والسمع يميز بين ذلك، وقد يتكلف بعض الناس تقليد صوت غيره فيتم له ذلك.
قوله: «واستظهر بعضهم
…
» إلخ.
قد بينَّا أن الصوت يسري في الأجسام كما يسري في الأهوية، ولكن
شرط سريانه في الجسم وقوعه به أو بجسم يلاصقه، وأما الهواء فلا يشترط ذلك بل قد يكتسبه من الجسم كما قلناه سابقًا في الرجلين الكائنين في مكانين متجاورين فإنه إذا تكلم أحدهما لم يسمعه الآخر؛ وذلك لأن كلامه إنما تكيف به الهواء أولًا فلم يمكن أن يكتسبه الجدار منه، بخلاف ما إذا قرع أحدهما الجدار المشترك فإن الآخر يسمعه، وذلك أن الصوت تلقَّاه الجدار أولًا فسرى فيه حتى جاور الهواء الكائن في الجهة الأخرى، فسرى في الهواء لِلُطف الهواء بخلاف الأجسام. نعم، قد يمكن إذا كان الصوت شديدًا جدًّا أن يتلقاه الجسم عن الهواء، وذلك لشدة ضغط الهواء على الجسم حتى صار كأنه جسم آخر يضغط عليه. وحينئذ فالصدى هو عبارة عن هواء يتكيف بكيفية الهواء الذي ذهب حتى جاور الجبل، وذلك أن سلسلة ذرات الهواء إذا اتصلت بالجبل مثلًا دفعها الجبل إلى خلف، وبدفعه لها ينعكس التكيّف فتتكيف بتلك الذرات اللاتي دفعها الجبل الذراتُ التي وراءها، وهكذا حتى ترجع إلى المصوِّت.
فإن قيل: فإن الصدى قد يكون أشد من الصوت الأصلي.
فالجواب: أن شدة القَرْع قد تورث صوتًا آخر يلتبس بالصدى، وهذا كما يقع في القُبَب المحكمة البناء.
قوله: «وهل لكل صوت صدى؟ خلاف» .
الظاهر ترجيح الإيجاب، والله أعلم بالصواب
(1)
.
(1)
أرّخ المؤلف تاريخ كتابتها بـ (7 شعبان سنة 1344 في بانور كارْوا).