الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تعليق على أحاديث من «صحيح مسلم»]
«صحيح مسلم»
(1)
: عن قتادة قال: سمعت أبا السَّوَّار يحدِّث أنه سمع عمران بن حصين يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
. فقال بُشَير بن كعب: إنه مكتوب في الحكمة: أنَّ منه وقارًا ومنه سكينة، فقال عمران: أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدِّثني عن صُحُفك؟!
وفي رواية
(2)
: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الحياء خيرٌ كلُّهُ» ، أو قال:«الحياء كله خير» ، فقال بُشَير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أنَّ منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرَّتا عيناه، وقال: ألا أُرَاني
(3)
أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعارض فيه؟
قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بُشير، فغضب عمران، قال: فما زِلْنا نقول فيه: إنه منَّا يا أبا نُجيد! إنه لا بأس به.
يقول كاتبه ــ وفقه الله ــ: الحياء غريزة من الغرائز تحمل صاحبها على عدم إظهار ما يُعاب، لكنه تارة يوجد تامًّا وتارة يوجد ضربٌ منه.
فالحياء الكامل (وهو المراد في الحديث) لا يأتي إلا بخير؛ لأن الحياء الكامل أن يستحيي المرء من ربه الذي خلقه ورزقه، ومن الناس أن يروا فيه عيبًا.
(1)
برقم (37/ 60). وهو في البخاري (6117).
(2)
برقم (37/ 61).
(3)
في الأصل: «أرى» ، والمثبت من «صحيح مسلم» .
فربما لا يكون هناك معارضة كالاستحياء من الزناء. وربما تكون معارضة، فإذا وُجدت المعارضة فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلِّص من العيب الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر. مثلًا: نساء الأنصار اللاتي كنَّ يسألن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تَعارضَ عندهنَّ ضربان من الحياء:
الأول: الحياء من الله عز وجل ومن نبيِّه والناس أن يكنَّ جاهلاتٍ بأحكام الله؛ الذي هو مظنّة الوقوع في معصيته.
والثاني: الحياء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حضره، أن يُظهرن ما يُعدُّ إظهاره عيبًا عند الناس. فحَمَلتهنّ غريزةُ الحياء على التخلص من العيب الأكبر، وهو الجهل ومظِنَّة الوقوع في المعصية، ولو بارتكاب العيب الأصغر.
وكذلك ما رُوي عن المأمون ــ ما معناه ــ أنه أمر عَمًّا له شيخًا أن يتعلّم. فقال عمُّه: أليس قبيحًا بالشيخ أن يتعلَّم؟ فأجابه المأمون: إذا كان [ليس]
(1)
قبيحًا بالشيخ أن يكون جاهلا، فليس قبيحًا به أن يتعلَّم! أو كما قال
(2)
.
فهاهنا عيبان: أحدهما أكبر، وهو كون الشيخ جاهلًا، والآخر كون الشيخ يطلب العلم.
فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلُّص من الأكبر ولو بارتكاب الأصغر.
وقد يمكن الجمعُ بين الأمرين، فهو حسن.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
انظر القصة في «تاريخ دمشق» : (60/ 350)، و «أدب الدين والدنيا» للماوردي (ص 30).
ومثاله ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أمره مَنْ أحدث وهو في المسجد أن يأخذ بأنفه ويخرج
(1)
. فإن هاهنا عيبين أحدهما أكبر، وهو أن يصلي وهو محدث. والآخر أن يعرف الناس أنه لم يقدر يضبط نفسه عن الحدث.
فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلص من الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر، ولكنه أرشده صلى الله عليه وآله وسلم إلى التخلص منهما معًا بتلك الحيلة.
وهذه الحيلة ليس فيها مَضرَّة على أحد، ولكنها من إيهام خلاف الواقع، وهو ضرب من الكذب، وإنما أُبيح للضرورة دفعًا لسفاهة السفهاء.
ونظير ما ذكرنا أن الغريزة نفسها تحمل صاحبها على دفع الأكبر ولو بارتكاب الأصغر = غريزة البخل. فإن البخيل إذا علم أن حاكمًا سيحكم عليه بعشرة آلافٍ، وظنَّ أنه إن رشا الحاكم بألفين مثلًا لا يحكم عليه، فإن غريزة البخل نفسها تحمله على بذل الألفين.
ومنه أمرُ عليٍّ للمقداد بسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المذي
(2)
.
وبما قرّرتُه ظهر لك واضحًا أن ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم هو الواقع المعقول.
وأما ما حكاه بُشير عن كتب الحكمة، فإن المراد به ضرب مما يسمَّى
(1)
أخرجه أبو داود (1114)، وابن ماجه (1222)، وابن خزيمة (1019)، وابن حبّان (2238، 2239) وغيرهم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا. وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله، قال أبو داود إثرَه: «رواه حماد بن سلمة، وأبو أسامة عن هشام عن أبيه عن النبى صلى الله عليه وسلم
…
لم يذكرا عائشة». وقد رجَّح الترمذي الإرسال في «العلل الكبير» (1/ 306 ط. الأقصى).
(2)
أخرجه البخاري (132، 178، 269) ومسلم (303).