الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام يقر الجدال ويضع له آدابا ومبادئ
حسن أن يتلاقى ذوو الفكر والرأي، ومن مأثور أدب اللغة العربية قولهم: مذاكرة الرجال تلقيح للألباب، ولا شك أن احتكاك الفكر بالفكر يولد الحقيقة، كما يولد الشرر احتكاكُ الحجر بالحجر.
وأحسن التقاء لذوي الفكر التقاء ذوي الفكر من ذوى الأديان، فعنده تجتمع
الحسنيان، وتلتقي الفضيلتان، وتتقارب القوتان.
قوة العقل، وقوة الدين، أو الفطرتان: فطرة التفكر، وفطرة التدين.
وفي تعاونها سلامة الدنيا، وسعادة الإنسان.
وتلك غاية، كثر ضلال (العقل) عن سبيلها، عندما نبذ - باسم التقدم - الدين والتدين!!
حسن، إذاً أن نلتقي لنتعارف، وليعرف كل منا ما عند الآخر، ولنتعاون على البر والتقوى، كما أرشد إليه القرآن الكريم، وعلى الحق والخير، كما هو رسالة الإسلام، في زمن تعاون كثير من أهله على الإثم والعدوان وعلى ظلم الإنسان، وهضم حقوقه، وبَعُد فيه البشر، من أصحاب القوة، شوطا بعيدا عن هدى السماء، فضاعت في حُمَّى الأهواء فكرة الإنسانية الجامعة، التي هي أحد مقاصد الإسلام.
حسن أن نلتقي في ساحة الفكر، وإن تناءت الأجسام، وحسن أن نلتقي على هذا السمو، وليس لقاء الطعن في دين، والإصغار لأهل هذا الدين!!
نحن لا نعلم كتابا سماويا شرع جدال المخالف في الدين، ووضع الجدال منهجا يقوم على أرفع القيم، وأنبل المقاصد كما فعل القرآن الكريم، الذي رفع مجال الجدال إلى مستوى الملأ الأعلى إذ يختصمون!
فالقرآن، في مواضع متعددة، يحكى سؤال الملائكة اللَّه - تَعَالَى - عن الحكمة من خلق هذا النوع: الإنسان، واختصاصه بالخلافة في الأرض، على ما في طبيعته من الإفساد في الأرض، وما فيها من سفك الدماء.
وكانت الملائكة - فيما يرون
أنفسهم - أحق وأجدر بهذا الاختصاص. (الآيات 30 - 33) من سورة البقرة) .
3 -
والعجب من القرآن في تقرير مبدأ الجدال حين يقرر جدال الإنسان عن نفسه، مع اللَّه سبحانه، يوم القيامة!! يقول اللَّه (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) .
ويقول: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) .
4 -
ولا يمنع القرآن الحوار في موضوع (الإيمان والدين) بل يؤسس جواز هذا الحوار، على لسان أبي الأنبياء: إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وإذا كنا جميعا - أصحاب الديانات السماوية - ننتمي إلى أبينا إبراهيم، عليه السلام، فإننا بالحوار البناء، والجدال بالحسنى، واحترام كل منا لأخيه - نجدد منهجه في الحوار الديني، حول أم حقائق الدين، والدعوة إلى الحق، وإرشاد الناس إلى اللَّه.
فإبراهيم عليه السلام كما أخبر القرآن الكريم هو مؤسس الحوار الفكري حول أسس الإيمان، ومرجع الاعتقاد، ذكر القرآن عنه ذلك في أربعة مواضع، وموضع خامس.
في سورة الأنعام 75/ - 83. وهو حوار بلغ من حسنه أنه يبدو وكأنه حديث مع النفس، بعيدا عن طرف آخر. إنه لم يتوجه إلى مخالفيه مباشرة ليقول لهم حقيقة الإيمان وأساس الاعتقاد. وإنما سلك إلى ذلك سبيل المناجاة الذاتية، التي تتمثل في حديث الإنسان مع نفسه وهو يتلمس الطريق في حيرة البحث، وتردد الشك واليقين.
فإذا كان من قومه من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من
يعبد الشمس فقد أخذ إبراهيم يعرض هذه العقائد على نفسه واحدة واحدة.
وعندما يتبين له أنها يعتريها التغيّر، والانتقال من حال إلى حال، وما كان كذلك بطل أن يكون إلها معبودا.
يعرض كل ذلك وكأنه مجرد نظرات وتأملات تلوح له
وهو في عالم تفكره الذاتي، ويمضي في مراحل هذا التأمل الشخصي، إلى أن يصل إلى الحقيقة الكلية، التي تظهر على أنها قضية من قضايا البداهة التي لا تحتاج إلى دليل، وإنما حسبها أن يشار إليها، ويستلفت النظر إليها! تأمل ذلك في قول القرآن
الكريم: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) .
وفي سورة مريم 41 - 48 تقرأ حوار إبراهيم مع أبيه.
وفي سورة الأنبياء 51 - 73 تقرأ حواره مع السلطة والقوة التنفيذية.
وفي سورة الصافات 83 - 98، حواره الكاشف عن غفلتهم، إذ يعبدون ما ينحتون.
وهناك حوار خامس له أهميته الخاصة؛ لأنه مع رأس السلطة وهو ملك البلاد، تقرأه في سورة البقرة:258.
ومن هذا العرض الموجز يتبين أن ذكر القرآن حوار إبراهيم لم يكن تكرارا لموضوع واحد، في مواضع متعددة، كما ظن المعترضون، في شبهاتهم، فهو مرة مع نفسه، ومرة مع أبيه، وهو صانع أصنامهم، ورأس من رءوس قومه الكافرين، ومرة مع السلطة القضائية والتنفيذية، يقيم عليها الحجة العقلية الكاشفة، حتى إنهم ليعترفون ببطلان ما يعبدون، ثم نكسوا على رءوسهم خضوعا للتقليد الأعمى. ومرة يبين أن
إبراهيم على ملة الدين الحق الذي جاء به رسول اللَّه نوح، ويبين لقومه وأبيه بالدليل العملي الواقعي بطلان ما يعبدون، وكاشفا عن غفلتهم إذ يعبدون ما ينحتون، وليس هناك غفلة في الاعتقاد أشد من أن يصنع الإنسان شيئا بيديه، ثم يسميه إلها يعبده.
نجد أن هذه الحوارات في مواضعها المتعددة تمثل - إذا جمعت - حوارا واحدًا
متكامل الأجزاء، يذكر القرآن منها، في كل موضع، ما يناسب سياق الموضع، وليس ذاك تكرارًا للفكرة الواحدة؛ إذ ليس في القرآن تكرارٌ أصلا، كما أن ليس فيه ما يسمى في علم النحو العربي، بعطف التفسير، فمن ظن في القرآن تكرارًا يعيبه به فإنما أتى هو من قبل سوء فهمه للقرآن.
ثم يأبى له سوء فهمه إلا أن يكشف عن عورته لمن يتهمهم.
هذا وسوف يأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الإجابة عن
شبهتهم السادسة.
5 -
وإذا كان القرآن الكريم قد ذكر نماذج متعددات للحوار منسوبا إلى أطرافه، فإنه يذكر نموذجًا آخر غير منسوب إلى أطرافه بأعلامها المشخصة، إنما يذكر الحوار نفسه فقط، مما يوحى بأن المهم إنما هو: تقرير المبدأ، في ذاته، بصرف النظر عن أشخاصه، وذلك كما في سورة الكهف: 32 - 42: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) .
6 -
وعلى منهج شيخ الأنبياء. إبراهيم سار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحاجّ المشركين فيما يعبدون، كما جاء في سورة الأعراف 191 - 195:(أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) .
وحاجهم في القرآن، كما في سورة الطور: 30 - 36: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) .
وحاجهم في النبوة، كما في سورة يونس:(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
وحاج المشركين في موضوع كوني، يتعلق بأسلافكم وتاريخكم، أيها المشبهون.
وذلك في نصر اللَّه للروم أهل الكتاب على أعدائهم من الفرس، وذلك ما سجله القرآن في الآيات الأولى من سورة الروم:(الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) .
وكذلك حاج النبي صلى الله عليه وسلم، أهل الكتاب من اليهود والنصارى: حاجّ اليهود في أسباب التحريم في شريعتهم لبيان أنه كان عقابا لهم، كما في سورة آل عمران:
(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) .
وحاج النصارى في طبيعة المسيح وحقيقة قصته، كما في سورة آل عمران:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) .
ومن عجائب هذا الحوار، وأخلاقه الإسلامية: قصة نصارى نحران، من أهل اليمن، الذين قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم في مسجده، وسلموا عليه فردّ عليهم السلام، ولما حانت صلاتهم قاموا ليصلّوا، في مسجده، فهمّ الناس بمنعهم، فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوهم!! ثم إنهم ناظروه، وقالوا له: أتريد أن نعبدك، أوَ ذلك تريد يا محمد؟ قال لهم: معاذ اللَّه أن أعبد غير اللَّه، أوآمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ربي، ولا أمرني.
وفي ذلك نزلت الآية 79 من سورة آل عمران: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) .
دعاهم إلى إلهية اللَّه وحده فما آمنوا.
دعاهم إلى المباهلة فرفضوا.
دعاهم إلى كلمة سواء: ألا يعبدون إلا اللَّه فأبوا. . وما أصابهم، لرفضهم.
وإصرارهم على دينهم، أذى بالفعل أو بالقول، ولا أكرهوا على ما رفضوا، وترك ما هم عليه. بل عادوا إلى - بلادهم ومعهم (أمان) وعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا يؤذوا في
دينهم، ولا في كنائسهم. ..
وبهذا التوجيه القرآني، وتطيقاته تقرر في الإسلام مبدأ الحوار مع المخالف في الرأي والفكرة، والمخالف في الدين ودوّنت هذه المحاورات، وصارت جزءا من تاريخ المسلمين، يصورّ وجها من وجوه حضارة الإسلام، تجده في كتب الأدب العرب،
وفي كتب العقائد، وفي كتب الفلسفة الإسلامية.
وعلى ضوئه ألف المسلمون كتبا صارت علما مستقلا، عُرف في تاريخ الفكر
الإسلامي باسم: "أدب البحث والمناظرة" يدرسه طلاب العلم في الأزهر، فيما يدرسون من علوم الإسلام.
لقد بلغ من استقرار منهج الحوار في نفوس المسلمين أن علماءهَم تناظروا في أحكام الفروع.
ونقل عن الشيخ ابن قدامة، صاحب (المغني) أنه أقام مدة يقيم حلقة يوم
الجمعة، بجامع دمشق يناظر فيها، وأنه كان لا يناظر خصمه إلا وهو يبتسم، حتى قال بعضهم عنه: هذا الشيخ يقتل بتبسّمه خصمه!!
وقد دعا عبد اللَّه بن عباس، الصحابي الجليل، والملقبُ بحبر الأمة - إلى المباهلة، في مسألة فرعية من مسائل الفقه.
ودعا الإمام الأوزاعي، فقيه الشام، الإمام سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين عند الإحرام للصلاة، وعند الركوع، والاعتدال منه. . . وهي مسألة من (هيآت)
الصلاة، التي لا تبطل بتركها الصلاة، ولا تبلغ مبلغ سننها.
والمباهلة هي. أن يجتمع المتناظران، بعد ظهور الحجة، وعدم خضوع الطرف الآخر لها، ثم يجتهد الفريقان في دعاء الله، أن يهلك الكاذب منهما، والذي لا يخضع للحق بعد ما تبين.
وأصل المباهلة في القرآن الكريم، عندما عرض حقيقة المسيح، ثم طلب من الرسول، عليه السلام أن يباهل من حاجه في حقيقته بعدما بينها اللَّه في القرآن حق البيان.
نبئونا بعلم، هل تجدون مثل هذا المنهج الحواري في غير القرآن؟
وهل تجدون تطيقه عند غير المسلمين؟ إنه معلم من معالم الحضارة الإسلامية، التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وأنقذتهم من التعصب البغيض إلى الانحياز للحق، الذي بلغ من سموه عند المسلمين الثقة بأن اللٌه يرعاه، وينصر أهله، ويهلك الراغب عنه، المكابر فيه!!
7 -
قواعد الحوار
عندما ندرس المحاورات التي سجلها القرآن العظيم نجده قد أرسى جملة قواعد
للحوار.
وللقرآن عناية خاصة بإرساء قواعد السلوك الإنساني، في الفكر.
والمعاملات، والأخلاق، لتعالج على هديها الجزئيات الحادثة، في بعدها المكاني والزماني.
ومن القواعد التي أسسها في موضوع الحوار هذه المبادئ:
1 -
رفض أن يكون التقليد أساس الحوار.
والتقليد: اتباع على غير دليل.
ومن الطرائف في هذه المسألة ما ذكره الإمام الماوردي، في كتابه: أدب الدنيا والدين: أنه كان يناظر آخر في مسألة علمية، وذكر لها أدلتها الكاشفة، فما كان من ذاك الآخر إلا أن أنكر هذه الحجج، وقال: إنها باطلة، فلما سأله عن سبب بطلانها، فما كان منه
إلا أن قال: لأن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره شيخي فهو باطل!!
فالتفت الإمام الماوردي إلى من على جواره وقال: أفحمنى بجهله!!
هذا هو التقليد الذي حذر منه القرآن العظيم.
أليس القرآن كتاب حضارة، كما هو كتاب دين؟!!
لقد أكد القرآن على رفض التقليد، والتحذير منه، وبيان أنه مناقض للعقل وللعلم.
اقرأ في بيان مناقضته للعقل الآيتين 170 - 171 من سورة البقرة:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) .
وفي بيان مناقضة التقليد للعلم الآية 104 من سورة المائدة.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) .
2 -
ومن تلك القواعد رفض القرآن في أن يكون مقصد المحاور الغلبة ولو كانت
بالباطل، أو بقصد إبطال الحق، تقرأ ذلك في سورة الأنفال: 8، وفي سورة
الكهف 56، وفي سورة غافر 5.
3 -
ومنها: التجرد من كل اعتقاد سابق، وتخليص الفكر؛ لطلب الحقيقة. نقرأ ذلك في سورة سبأ 43 - 49.
وهذه القواعد الثلاث أشبه بعملية تنظيف فكري ومنهجي من طريق الحوار؛ ليسلم الطريق من الشوائب المعوّقة، ثم تأتي القواعد الذاتية في الحوار.
4 -
اعتبار (الحق) أمرا (محتملا) وجوده لدى أحد الطرفين.
بمعنى أن يدخل كل فريق حَلْبة الحوار ولديه (افتراض) أن ما عنده يحتمل الخطأ، وأن ما عند محاوره يحتمل الصواب.
قرر ذلك القرآن في الآية 24 من سورة سبأ.
5 -
ويترتب على هذه القاعدة قاعدة مهمة، هي عدم اعتبار (الشك) عيبا، بل اعتباره خطوة مهمة في طريق التمحيص العلمي، حتى يكون موضع اعتبار لدى القرآن العظيم، فيخاطب اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) .
إن (الشك) نوع من التفكير، وهو لذلك مقبول، مقرر في القرآن الذي يحض على: التفكير والتعقل؛ لذلك لا عجب أن يعتبره بعض علماء أصول الدين، في الإسلام - أول الواجبات على المكلّف؛ ليخطو منه خطوات فكرية نحو (اليقين) الذي يُبنى عليه (الإيمان) في الإسلام.
وليس هذا الشك شكا منهجيا، للبحث العلمي فقط، مع احتفاظ صاحبه بعقيدته السابقة، على نحو ما كان (ديكارت: 1596 - 1650) في بحوثه الفلسفية والعلمية، مع احتفاظه التام بعقيدته الكاثوليكية.
إنما (الشك) في منهج البحث الإسلامي، والذي هو أول واجب على المكلف - هذا الشك شك حقيقي، يبتدئ منه الإنسان، لينطلق منه باحثا عن الحق المجرد، متجردا من كل اعتقاد سابق، وإيمان موروث!!
وقد حفظ تاريخ الفكر الإسلامي، قديما وحديثا وقائع عملية لهذا الشك الحقيقي، الذي يتوقف فيه الإنسان عن قبول الحكم أو رفضه، في قضية ما، حتى وإن كانت من قضايا الإيمان، أو هي قضية الإيمان نفسه حفظ ذاك التاريخ حالة الشك التي عاش فيها. . . الإمام الغزالي؛ بحثا عن طريق الحق بعد أن شك في جميع طرقه المعروفة والموروثة، فلسفية وعقلية ودينية، وبعد أن ألف في كل هذه الطرق تأليف العالم المتخصص، والإمام المحقق، ثم لن قصور كل هذه الطرق، وهو على بصيرة بها.
ثم سجل حالة شكه، وطريق الخروج منها في كتابه اللطف:
(المنقذ من الضلال) وهو أروع ما كتب الغزالي، على كثرة ما كتب؛ إذ بلغت كتبه المطبوعة، والمخطوطة أربعة وخمسين كتابا، منها موسوعته المشهورة: إحياء علوم الدين.
والمفقود من كتبه مائة وأربعة وسبعون.
وضع الإمام الغزالي كتابه: "المنقذ من الضلال " بعد عزلة دامت عشر سنوات، عانى فيها آلاما نفسيه، وقلقا نبيلاً، للبحث عن (الطريق) شاهد الغزالي اختلاف المذاهب، وتباين الملل، فولّد ذلك في نفسه ضرورة الفحص عن عقائد الفرق.
وكان أول الشك عنده انحلال التقليد؛ لأنه لم يجد فيه علما يقينيا، ولا واسطة لتمييز الحق من الباطل.
وحقيقة العلم عنده هي التي ينكشف فيها المعلوم انكشافا
لا يبقى معه ريب، ولا يقارنها إمكان الغلط والوَهم.
يقول الدكتوران جميل صليبا وكامل عياد، في تقديمهما لكتاب (المنقذ من الضلال) : وكل من قرأ تأملات (ديكارت) ورسالته في الأصول أدرك أهمية معيار الغزالي للعلم، واشتراطه في اليقين، ووضوح الأفكار، وانكشافها للعقل انكشافا بدهيا".
هذا ما سجله التاريخ قديما، وأما في الحديث فقد عاش الفيلسوف والكاتب
الجزائري (مالك بن نبي) في هذه المحنة النفسية، التي تريد ممن ابتلي بها أن يصل إلى اليقين بنفسه من غير تقليد، حتى وصل إليها.
وعبر عن المحنة والخروج منها، بعيدا عن (الإيمان الموروث) المأخوذ بالتقليد، في كتابه:(الظاهرة القرآنية) .
وهي المحنة التي عاش فيها جيل من المسلمين في القرن العشرين، وعاش فيها
الكاتب الكبير، والعالم القدير الشيخ محمود محمد شاكر وسجل ذلك في تقديمه لكتاب مالك بن نبي.
هذا (الشك) واتخاذ خطوة إيجايية تفكيرية، والذي يقف بصاحبه موقف الحياد
من قضايا البحث - هذا الشك سجله فيلسوف المسلمين الكبير ابن سينا في خاتمة كتابه: (الإشارات) إذ يقول: "نصيحة: إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك عن العامة، هو أن تنبري منكرًا لكل شيء، فذلك طيش وعجز. وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعدُ جليتُه، دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينته.
بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك، ما لم تبرهن استحالته لك.
فالصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم
يذدك عنها قائم البرهان. . . ".
والإسلام - بمنهج البحث، البادئ من الشك الحقيقي يقرر: احترام الإنسان، ويقرر حرية إرادته، كما يقرر قدرة الإنسان على الوصول بنفسه، وجهده العلمي والفكري، على الوصول إلى الحقيقة، وذلك على عكس مذهب (الشكاك) الذين يرون عجز وسائل الإنسان.
من الحس أو العقل، عن الوصول إلى حقيقة أي شيء.
بناء على هذا المنهج الإسلامي، والملزم للإنسان أن يبحث بنفسه عن الحق وطريقه - لا يخشى المسلمون ما يذيعه المبشرون، لأنهم - على فرض نجاحهم - يضعون المسلم على درج الصعود من الشك إلى اليقين، الذي حضَّه الإسلام عليه.
وفي ختام قواعد منهج الحوار الإسلامي أكتفي بقاعدتين:
- أولاهما: تقرير أنه: لا دعوى بدون برهان، حتى ولو كانت في أصل الإيمان، وهو الإيمان بالله، وفيها يقول الله:(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ)
وفي سورة النمل (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) .
* * *