المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌29 - هل الارتداد حرية رأي حقا - الرد الجميل على المشككين في الإسلام من القرآن والتوراة والإنجيل والعلم

[عبد المجيد حامد صبح]

فهرس الكتاب

- ‌قصة هذا الكتاب

- ‌القسم الأولالأسئلة مجموعة

- ‌القسم الثانىموقف القرآن من جدال المخالفين

- ‌الإسلام يقر الجدال ويضع له آدابا ومبادئ

- ‌7 - ثانيهما: هي روح الحوار، في جميع مراحله هي:

- ‌8 - من آداب الحوار:

- ‌9 - فلسفة الحوار الإسلامي:

- ‌انتبهوا من فضلكم

- ‌10 - ثمرة هذا المنهج:

- ‌11 - السؤال الآن:

- ‌12 - عتاب موجِّه:

- ‌لا جديد تحت الشمس

- ‌7 - ماذا كان مصير هذه الفرى

- ‌11 - وفي كل ما تقدم عبرة لأولي الألباب:

- ‌13 - هذا هو اتجاه المؤسسات الرسمية، والاجتماعية، وهو يتفق، في ظاهره، مع موقف المنصفين من المستشرقين، فأين نضع شبهاتكم، وطعونكم من هذه الدعوة العالمية

- ‌مقاصد هذه الأسئلة

- ‌القسم الثالثبعض ما عندكمبيان بعض ما في الأناجيل من تناقضات

- ‌بعض ما عندكم

- ‌7 - وخلاصة مما تقدم، أننا ندرك جملة حقائق بدهية، لا شك فيها، منها:

- ‌مسألة صلب المسيح:

- ‌3 - تقرير عقيدة الصلب:

- ‌11 - تناقض في روايات الصلب:

- ‌11 - مسألة نسب المسيح:

- ‌12 - مشابه لافتة تدعو إلى العجب

- ‌الإسلام حق بيِّنٌ بذاته

- ‌السؤال الأول: لماذا يقتل المرتد عن الإسلام

- ‌العقوبات في الإسلام:

- ‌الطبيعة القانونية لليهودية والمسيحية:

- ‌7 - فكرة الخلود

- ‌10 - الإله

- ‌14 - المسيحية والدولة:

- ‌15 - ما موقف المسيحية من العقل والحكمة

- ‌16 - موقف المسيحية من السعي للمعاش

- ‌17- وماذا عن صلة الرحم

- ‌18 - المسيحية والكنيسة:

- ‌20 - هذا تحليل علمي تاريخي يبين تميزّ الإسلام، وصلاحيته لأن يكون نظام حياة

- ‌21 - وحد الردة من هذه السياسة المشروعة لحفظ هذا الكيان

- ‌23 - عمّ يرتد من يرتد عن الإسلام

- ‌25 - الإسلام دين وعلم:

- ‌26 - ما الرأي

- ‌29 - هل الارتداد حرية رأي حقا

- ‌43 - أما مسألة اختلاف علماء المسلمين:

- ‌فما شأن الأناجيل

- ‌السؤال الثانيلماذا حرم على غير المسلم دخول مكة والمدينة

- ‌9 - نخلص مما تقدم إلى جملة حقائق منها:

- ‌11 - الحرية حق ووظيفة:

- ‌السؤال الثالث:لماذا العقاب في الإسلام غير منطقي

- ‌10 - فقه الخلود في القرآن:

- ‌السؤال الرابعلو كان الإسلام دينًا حقا - كما تزعمون - لما كان أتباعه من المسلمينأسوأ الناس، وأحطهم سلوكا وأخلاقا، ومظهرا، ولما كانت بلادهمفي منتهى التأخر والفوضى والظلم، والهمجية، والقذارة

- ‌مأثورات

- ‌لا بد من معيار:

- ‌10 - هذا عرض موجز للجهد الفكري الإنساني للتعرف على المقياس الذي نحتكم إليه في التقدم والتأخر، أو الخير والشر، ومنه نتبين ما يأتي:

- ‌12 - فماذا عن الإسلام

- ‌أخلاق المسلمين

- ‌17 - ما مقياس الأخلاق

- ‌23 - وهذه خاتمة لكم

- ‌24 - وهذه خاتمة للمسلمين لكم فيها عبرة:

- ‌السؤال الخامس:كيف حدث هذا في السعودية

- ‌السؤال السادس:قرآنكم عندما قرأناه وجدنا فيه متناقفات كثيرة، ولم نجد ديه وحدةالموضوع، نجده يقفز من موضوع إلى آخر، وفيه تكرار كثير جدا.وتقولون إنه معجزة. فكيف هذا

- ‌6 - من خصائص أسلوب القرآن

- ‌أما ما زعمتم من وجود التكرار في القرآن

- ‌السؤال السابع:القرآن غير مستقر في وصف أهل الكتاب:

- ‌6 - تعالوا إلى كتابكم:

- ‌والخلاصة

- ‌السؤال الثامن: الإسلام حط من شأن المرأة في قضايا كثيرة: فهي تعامل كشيء مملول منه، وأنها مواطن من الدرجة الثانية

- ‌7 - المنطلق الفلسفي للرؤية الإسلامية:

- ‌9 - مسألة القوامة

- ‌10 - أما مسألة شهادة المرأة:

- ‌11 - أما مسألة الميراث:

- ‌مسألة ترث فيها المرأة أكثر من الرجل

- ‌12 - فما بال مسألة الحجاب:

- ‌15 - أما عدم زواج المسلمة من غير المسلم

- ‌السؤال التاسع9 -قرآنكم يحض على الزنا، حتى النبي لوط، في قول القرآن عن لوط:(هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

- ‌السؤال العاشر:إلهكم - بحسب القرآن - هو الذي يهدي ويضل فكيف يعاقبالإنسان بخلوده في النار

- ‌5 - مسألة القدر والاختيار من أقدم مسائل الفكر، ومن أوغل مسائل الإيمان في كل الأديان

- ‌9 - شواهد من اليهودية

- ‌10 - شواهد من المسيحية:

- ‌11 - والنتيجة:

- ‌السؤال الحادي عشر:ما هو جواب الإسلام عن هذا السؤال؟لماذا خلقنا؟ تقولون: لنعبد الله. وهل يحتاج الله لعبادتنا

- ‌5 - فكرة التناسخ

- ‌أما لماذا خلقنا اللَّه

- ‌السؤال الثاني عشر:لو كان الإسلام دين حق لما رأينا في علمائه: الضعف، والعجز.والنفاق

- ‌السؤال الثالث عشر، والأخير:نحن في عصر التقدم والعلم والحسابات الدقيقة، والصعود إلىالقمر، وتدّعون أن الإسلام دين حضارة وعلم وتقدم.والمسلمون - حتى اليوم - لا يزالون مختلفين في بداية الشهور العربية (القمرية) وخاصة شهر رمضان

- ‌أما مسألة أوائل الشهور القمرية:

- ‌خاتمة

الفصل: ‌29 - هل الارتداد حرية رأي حقا

وتنفيره، بل العمل على تأنيسه، ودفع التهمة عنه!

وهذه - بلغة عصركم - غاية الحرية، والديمقراطية، وهي - في الوقت نفسه - إقرار لحرية البحث، وجواز الشبهة، والرفق في علاجها.

وذلك حسبكم، إن كنتم تريدون الحق مجردًا.

إنها (الدولة) ذاتها، تقوم بهذه الرعاية، ولو شاءت لقتلت، ولكنها سنة الإسلام، في طريق السلام!!

* * *

‌29 - هل الارتداد حرية رأي حقا

؟

إذ تبين أن الإسلام علم، وأن العلم مطابقة للواقع، ومع هذه المطابقة لا بد من إقامة الدليل، التي بدونها لا يكون علما - إن كان ذلك فمن المحال أن يكون الخروج عن الإسلام (رأيا) ، وإنما يكون خروجا عن الدولة بكل نظامها الأساسي، من شخص لا يرى إلا أنه غير منسجم وهذا النظام، أو له عداء له، فهو يلتمس معابته، والطعن فيه.

ومن الناس من يعيب الحَسَن بحُسْنه، وينقص الكامل بكماله، ويأخذ الفاضل

بفضله.

فكيف يعتذر من حسناته سيآته، ومحامده معايبه؟!

وعندئذ لا يكون (خروجه) رأيا، بل يكون هدما للحق، ونقضا لدولته، وزعزعة لأمنها!

فمن الملوم؟

الهادم الذي استدعى العقوبة لنفسه.

أم (المحافظ) على كيان الأمة؟!

* * *

3 -

لو أن هذا (الخارجي) قصر خروجه على نيته، فلا حرج عليه، فالإسلام لا يحاسب الناس على نياتهم.

ولو أنه قصر ضرره على نفسه لجاز للحاكم ألا يقيم عليه الحد؛ إذ الحد يقام

لمصلحة الأمة، ومنع الضرر عنها، فما دام لا ضرر من المرتد على الأمة، جاز للحاكم إرجاؤه مع مداومة حواره واستتابته، لمصلحته هو.

ص: 109

وقال الإمام الشافعي، رضي الله عنه: لو أن قوما أظهروا برأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وأكفروهم - لم يحل بذلك قتالهم.

بلغنا أن عليا كرم اللَّه وجهه سمع رجلا يقول: لا حكم إلا لله، في ناحية المسجد: فقال علي رضي الله عنه:

كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فيها اسم اللَّه، ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.

والإمام ابراهيم النخعي يرى عدم قتل المرتد، ويرى استتابته أبدا.

وفي رواية عن عمر بن الخطاب أن المرتد يستتاب أبدا، ويودع السجن.

قال أنس بن مالك: بعثني أبو موسى الأشعري بفتح تُسْتُر إلى عمر، فسألني عمر، وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين.

فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟

قال: فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم.

فقال. ما فعل النفر من بكر بن وائل؟

قلت: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل.

فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلما أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس.

قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟

قال: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن!!

ولعل هذا مستند إبراهيم النخعي، وكذلك روي عن سفيان التوري.

هذا عمر بن الخطاب، وأولئك نفر من أئمة التابعين يرون عدم قتل المرتد، وهو ما يسقط تلبيسكم، ويأتي على بنيانكم من قواعده.

ومن مجموع ما تقدم يظهر أن المسألة منوطة بمصلحة الجماعة، فما دام ارتداد فرد لا يضر بالأمة، فلا حرج من تركه، لذلك تقاتل الجماعة المرتدة، ذات الشوكة؛ لأن ضررها، لا محالة واقع بالدولة وبالأمة.

* * *

31 -

إن الثورة الفرنسية، وقد قامت على ثلاثة مبادئ: الإخاء والحرية والمساواة - قد أعدمت الكثيرين أثناء قيامها، بل بعد استقرارها، ومن قبل قيامها واستقرارها!

ص: 110

وكانت هذه الكلمات الثلاث: الحرية والإخاء والمساواة - محور الخلاف القديم بين الأنصار والخصوم.

كانت (الحرية) غرضا مقصودًا، ومبدأ مختلفا عليه، إذ كان

الملكيون يزعمون أن الملك يحكم بالحق الإلهي، فليس للرعية حرية مع راعيها - بينما يرى الثائرون أن مشيئة الشعب هي قوام الحكم. "

هذا في عصر، زعمتم أنه عصر التنوير، فما بالكم نسيتم ذلك؟

أما مبدأ الإخاء فقد كان الاختلاف عليه مجزرة قضى فيها على أكثر من مائة ألف فرنسي قبل جيلين، وأوجبت هجرة الملايين إلى غير بلادهم قبل عصر الثورات بسنوات!

فما بالكم نسيتم هذا، وتشبهون بقتل واحد مرتد لا، بل كانت العقيدة الغالبة: أن الخلاف بين المذهب الكاثوليكي، والمذهب البروتستاني خلاف بين الأبرار والأشرار، وأنه لا هوادة بين الفريقين، إلا كما تكون الهوادة بين حزب اللَّه وحزب الشيطان، وفي سبيل ذلك سالت الدماء بين الفريقين. وصدرت الأوامر الصريحة بنفي كل فرنسي يدين بنحلة غير النحلة التي ارتضاها ولاة الأمور.

لماذا تناسيتم هذا؟

32 -

أم حسبتم أننا نجهل ما كان عندكم من مآسي تاريخكم.

وكل هذا فيما سميتموه عصور التنوير، فما بال عصور الظلام؟!

في عصور التنوير سجن (فليتر) ، زعيم الأدباء الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وقضى أيام سجنه في سجن (الباستيل) الشهير وكان سجنه بأمر رجال الدين ورأي الكنيسة.

ولا خرج من السجن آلى على نفسه أن يجعل مواهبه وقفا على هدم تلك

الأسوار، أسوار (الباستيل) التي تحصّن من ورائها رجال الكنيسة والملك. وأصبح (فلتير) في عصره يدعى: رسول التسامح والإصلاح.

وكان هذا اللقب في نظر الكنيسة والملك يعني: الإلحاد والثورة.

3 -

والثورة التي قامت للإخاء والحرية والمساواة، هذه الثورة كان من أعمالها ما

ص: 111

يجعل الولدان شيبا:

تألفت محكمة ثورية لمحاكمة أعداء الثورة، وكانت أحكامها نهائية، وصدرت

الأوامر بالقبض على كل من حامت حوله الشكوك.

وفي سبتمبر 792 1م أرسل رجال الثورة عصابات مسلحة طافت بالسجون

وأعدمت من فيها من الأشراف ورجال الدين، يقول المؤرخ الإنجليزي:

(. . .) في كتابه: (تاريخ أوربا في العصر الحديث) : وبقي هؤلاء الجلادون يزاولون عملهم الفظيع، وكلما تعبوا قدمت إليهم المرطبات، حتى إذا استعادوا قوتهم عادوا إلى عملهم الذي كان يسميه الثوار: تحرر فرنسا. وكان نساء باريس الشريرات يشاهدن ذلك بالتهليل ويحملن الطعام إلى أولئك الجزارين.

واستمرت تلك المجزرة الشنيعة أربعة أيام سرى أثناءها في غوغاء باريس روح سفك وظلمإٍ للدماء تقشعر منه الأبدان ".

ولما أعدم الملك (لويس السادس عشر) كانت الملكة: (ماري انطونيت) ما تزال في السجن مع ولدها، فصدر قرار لجنة الأمن في يوليو سنة 1793 بأن يفصل عنها ولدها، فانتزع منها ولدها غصبا، وعهد به إلى رجل يدعى (سيمون) وصناعته إسكاف!! وبقي الصبي المسكين وحيدا في حجرة ستة شهور لم يخلع فيها قميصه.

وكانت فاتحة أعمال لجنة الأمن العام هذه: وضع قانون المشبوهين الذي يقضي بسجن كل من يشتبه في أفكاره السياسية"

وكان من نتائج ذلك اكتظاظ السجون بالمعتقلين، وللتخلص من هذه المشكلة شكلت (محكمة الثورة) التي كانت تستدعي المقبوض عليهم جماعات، وتحكم عليهم بالإعدام، بدون محاكمة، ثم يرسلون للإعدام في ميدان الثورة.

* * *

34 -

وهل أتاكم نبأ ما فعلت فرنسا بشعوب أفريقيا لتخرجهم من الإسلام، ولا سيما ما كان منها في الجزائر؛ وهل أتاكم ما فعلت في لبنان من إشعال حرب أهلية،

ص: 112

دامت أكثر من خمسة عشر عاما، تأييدا (للمارونيين) ضد المسلمين؟!

أين كانت (الحرية) في هذا التاريخ المضرجة صفحاته بدم الأبرياء.

حقا إن الهوى يعمي ويصمّ.

ألا تسألون أنفسكم: أين كانت الحرية، التي تتباكون عليها يوم كان الغرب

الأوربي يسوق ملايين الأحرار من الأفارقة سوق البهائم، يبيعهم للسخرة

والمهانة؟!.

لقد كان الإحصاء الرسمي لهؤلاء المخطوفين غصبا أنه خمسة عشر مليونا، وما

كانت الإحصاءات الرسمية يوما بصادقة، تزور الواقع لمصلحة أهله.

35 -

في القرن الثامن عشر، وهو من عصور التنور، بذلت الحكومة الروسية جهودا جدية لتنصير التتار الذين ارتدوا عن المسيحية إلى الإسلام، وبذلت كثيرا من ضروب التحويل لتعميدهم من جديد.

ففي سنة 1778 أمرت الإمبراطورية (كاترين) الثانية بأن يوقع كل من هؤلاء الحديثي العهد بالمسيحية على إقرار كتالي يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية، وتجنب كل اتصال بالكفار المسلمين، والتمسك بالدين المسيحي

وفي القرن التاسع عشر، وفي نصفه الأخير بذلت جهود

أخرى لتنصير هذه القبائل الإسلامية.

إن الاضطهاد الديني له صفحات سود في تاريخ الغرب، لا يصعب على طالبه

الوصول إليه، سواء في بلاد الغرب أم فيما حط فيه الغربيون من بلاد.

أين، ثم أين؟

ألستم أحق بقول القرآن الكريم: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) .

في بلدنا يقولون: مات الذين يستحون بل من قول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:

"إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".

ص: 113

36 -

أما بعد:

فسوف أزيدكم عجبًا وإعجابا بفقه المسلمين:

في بحوثهم في مسألة الردة سؤال: هل الردة مقصورة على خروج المسلم عن

الإسلام؟ أم تتناول غير المسلم إذا ترك دينه إلى غيره من الأديان الأخرى؟

من وجوه ذلك الفقه: أنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أقر عليه، ولا يعد مرتدا.

وإن انتقل إلى أنقص منه لم يُقر، ويعد مرتدا، فإذا انتقل اليهودي إلى

النصرانية، فقد انتقل إلى مثل دينه الذي كان عليه، من حيث إنهما، في الأصل، دينان سماويان، وكذلك يقرّ المجوسي إذا انتقل إلى اليهودية أو النصرانية" لأنه انتقل إلى ما هو أعلى!

وإذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى المجوسية لم يُقر، ويعد مرتدا؛ لأنه انتقل إلى ما هو أدنى!!

انظروا، إنه الفقه العادل القائم على الحق!

انظروا إلى تقديس فقهاء المسلمين لأديان السماء.

ثم انظروا إلى انسجام الأحكام والاجتهاد فيها عند فقهاء المسلمين!

فهل من مدّكر؟

* * *

37 وأيم الحق ما كان بنا حاجة في الخوض في هذه الصحائف السود.

لولا أن دفعنا إلى ذكرها الافتراء الجهول على الحق البين لكل ذي قلب سليم.

إن حرّ هذا التاريخ ممتد إلى الحاضر، في أرجاء الأرض: ماذا كان موقف فرنسا من فوز الإسلاميين في انتخابات الجزائر؟

وماذا كان الموقف، وما زال، من مسلمي الفلبين؟

وماذا كان - وما زال موقف أمريكا من حقوق الفلسطنين؟

وماذا كان موقفها من الثورة الإيرانية؟

وماذا كان موقفها من الحكم الإسلامي في السودان؟

وهل نذكر دسائسها لإحداث فتنة طائفية في مصر؟

ص: 114

ماذا نذكر وماذا ندع؟

وهل (فكرة العولمة) إلا أسلوب جديد للهيمنة على العالم، ومحاولة إخضاعه للفكر الأمريكي وقيمه الاستهلاكية؟

رحم اللَّه امرأ شغله عيبه عن عيوب الناس "!!

وإلى توابع سؤالكم

38 -

في سبيل هدفهم في الطعن في الإسلام، والتشكيك في كتابه ونبيه، قالوا: إن القرآن يغيّر رأيه، فكلما سألنا عن آية قالوا: هذه منسوخة.

يقولون: ونبيكم غيرّ رأيه، حين أباح زيارة القبور، بعدما منع النساء منها، وكما حرّم زواج المتعة بعد ما أباحه.

يقولون: وعلماء المسلمين يغيّرون رأيهم.

قلت: وهذا الاعتراض جهل بأمرين مهمين: جهل بأسلوب التربية الصحيح، وجهل بحكمة الإسلام في التشريع، وموافقة حكمته لأحد مناهج التربية.

كان منهج القرآن في التشريع، على أساس المنهج التربوي، هو: التدرج في تغيير العادات، والتدرج في فرض العبادات، وهذه حقيقة يعلمها من علم مناهج التربية، ومن درس تاريخ التشريع.

39 -

وعلى أساس هذا المنهج ترك القرآن أشياء كان عليها الجاهليون، تركها مدة، حتى

تتمكن العقيدة في نفوسهم ثم أخذ يتدرج في التحريم، كما أخذ يتدرج في

الفرائض، وذلك حرصا على تأليفهم، والرفق بهم في اقتلاعهم من عاداتهم.

وتربيتهم على تحصيل الأفضل فالأفضل، وتقديم الفاضل على المفضول.

وذلك كما قدم الإيمان بالله ومعرفته على ما سواه، لأنه الأصل، ولذلك تأخرت الواجبات عند ابتداء الإسلام، ترغيبا فيه، فإنها لو وجبت في الابتداء لنفروا من الإيمان، لثقل التكاليف.

ولذلك أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء.

وكذلك أخر الصيام والزكاة إلى ما بعد الهجرة، لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد

ص: 115

تنفيرا؛ لغلبة الضِّنة بالأموال.

وكذلك لو وجب الجهاد في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين، وكثرة الكافرين؛ ولأنهم لو أذن لهم به لتصرفوا بحماس وشِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، كما جاء في الحديث، وبذلك تفتر هممهم، وتضَعف عزائمهم.

وفي هذه التريية توجيه للمتحمسين من شباب اليوم، الذين يلوكون كلمة (الجهاد) وهم لا يفقهون فقهها، ولم يقرنوا هذا الفقه بالواقع، ومقايسة الواقع على قدراتهم وما يستطيعون!

ومن فوائد هذا التدرج المربي قوله صلى الله عليه وسلم:

"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"

فقد ذكر الترمذي أن الإمام الزهري سئل عن هذا الحديث، فإن ظاهره كفاية هذه الشهادة في دخول الجنة دون عمل، فقال الزهري، إنما كان هذا في أول الإسلام، قبل نزول الفرائض والأمر والنهي.

ومن المعروف المشهور أن الإسلام سكت عن شربهم الخمر؛ لتمكنها من عاداتهم، ثم أخذ في تحريمها على التدرج.

ومن ذلك نهيه عن زيارة القبور، وكانوا يعظمونها، فلما تمكنت العقيدة من قلوبهم أباحها.

ومن ذلك نهيه عن قراءة كتب أهل الكتاب ثم إباحتها، بقوله صلى الله عليه وسلم:

"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.

وقد نُقل إلى عبد اللَّه بن عمرو حمل بعير من كتب أهل الكتاب فقرأه، وطالع كثيرا من الكتب القديمة، وكان يكتب بالسريانية وبالعربية.

قلت: وفي هذا درس لمن يقولون: لا نقرأ غير الكتاب والسنة ولا نتعلم من اللغات غير العربية!!

وعلى هذه السنة التربوية والتشريعية جرى شأن زواج المتعة.

ص: 116

40 -

وهنا ملحظ مهم يتعلق بمسألة التدرج في الشريعة، ذلك أن (التدرج) صفة لازمة للشريعة لا تفارقها أبدا، وليس خاصا ولا مقصورا على عصر التنزيل وزمن الرسول صلى الله عليه وسلم

ولكن هذا التدرج الدائم يتفاوت بحسب حال المكلفين وظروفهم الخاصة، وأحوال بيئتهم، فالداخل في الإسلام حديثا، والناشئ في بلاد غير المسلمين، كالأوربيين والأمريكانيين، وكثير من هؤلاء لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ومنهم من لم يسمع حتى اسمه - هؤلاء يلقنون أصول الدين وأركان الإسلام، ثم يتدرج به إلى الشرائع، ولا يلقن منها إلا الأهم فالأهم، ولا سيما ما يتصل - بواقع بيئته، كحرمة الزنا والربا والخمر ولحم الخنزير.

وكذلك السلم الذي لم يكن له حظ من الالتزام بشريعة الإسلام وآدابه.

ولا يتوهمن أحد أن هذا المنهج التدرجي أنه إقرار لبعض المحرمات، وتفريط في بعض الواجبات، إنما هو التزام بصفة لازمة للشريعة.

يقول الإمام ابن تيمية، في فتاويه (25 / 59 - 65) : "فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما.

كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئا.

ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأتِ الشريعة جملة، كما يقال. إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.

فكذلك المجدد لدينه والمحصي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به. كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها.

وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد لا يمكن، فى أول الأمر، أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن

الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط.

فتدبر هذا الأصل فإنه نافع".

ص: 117

41 -

قلت: ونحن مع شيخ الإسلام ابن تيمية في لزوم تدبر هذا الأصل، ووجوب التزامه في الدعوة في أيامنا هذه، فإن قوما ممن يتصدون للدعوة في هذه الأيام يرفضون هذا الأصل الملازم للشريعة والدعوة إليها، بحجة أن الدين قد كمل، وأنه من الواجب العمل به كله، غافلين، بل يجهلون طبائع النفس البشرية في نفورها من أصل التكليف، بله ثقله، فإذا جاءهم من يريد أن يسلم، أو من يريد أن يتعرف على الإسلام أكثروا عليه القول، حتى ينفر.

ومنهم - بتجربتي - من يبدأ، مع الغربيين، بمسائل من الشكل والفرعيات. ومنهم من يبدأ في تعريفهم بالإسلام، من الحدود ومنهم من يبدأ بالتعريف بتحريم الخمر والخنزير.

وقد قصدت قصدا إلى نقل عبارة الإمام ابن تيمية، لعلمي أنهم يقدسون قوله

تقديسا، ولا يردون له قولا، فها أنا أذكر قوله الواعي الناضج في فهم الشريعة والدعوة إليها على مدى الدهر، وكرّ الغداة ومر العشي، وهأنا أحدد مكانه تحديدا من مجلدات فتاواه.

والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.

قال الإمام: ولا يعترض على هذا أن الدين قد كمل، والنعمة به قد تمت، وبكماله وتمام نعمته قد انتهى التدرج، لأن هذا الاعتراض يسلب الشريعة خاصتها التي بيّنت، ويكلف بما لا يطاق من العلم والعمل، وقاعدة التكليف في شريعة الإسلام هي: التكليف بما في الوسع، لا بما هو فوق الطاقة

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. . . . . . .) .

42 -

هذا، وكاتبُ هذه السطور ينفي نفيا قاطعا أن يكون في القرآن الذي تركه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وكتبه عنه كتاب الوحي، وعارضه معه جبريل عليه السلام، سنتين من

آخر عمره، حتى إذا كانت الأخيرة عارضه معه مرتين، والمدون في المصحف

بإجماع الصحابة، والذي حفظوه في الصدور قبل حفظه في السطور.

أقول هذا

ص: 118

القرآن، الذي بين أيدينا، والمنقول إلينا بالتواتر، هذا القرآن ليس فيه منسوخ لا آية، ولا أكثر، هذا مع علم صاحب هذه السطور بأن مسألة النسخ من مسائل علوم القرآن، وموضوعات الفقه وأصوله، حتى إن منكر النسخ يتهم بالعظائم، فإذا كان من العلماء من يحدث هؤلاء المشبهين بأن هذه الآية أو غيرها منسوخة، فإنما يجيبون على قدر علمهم.

ولا تثريب عليهم إلا تمحيص العلم، وعدم أخذه تقليدا.

إنهم يقلدون ولا يملكون الدليل.

فكل آية في المصحف محكمة.

وقد وصف اللَّه القرآن وآياته بأنها محكمة: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) .

كما أن اللَّه أمر بالرجوع إلى القرآن.

ولو كان فيه منسوخ لاستثناه (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .

والرسول، في حجة الوداع (حجة الإسلام) في خطبته الجامعة، التي هي منهج الدستور العملي للأمة المسلمة، قال:

"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب اللَّه وسنتي"

"كتاب اللَّه وعترتي" ولم يستثن.

ولو كان فيما تركه من القرآن منسوخ لقال، مثلا: إلا ما كان منه منسوخا.

ولو كان فيه المنسوخ، مع هذا التوجيه العام المطلق، لكان ذلك موقعا في الحيرة والتخبط، ولتنافي ذلك مع قول الرسول: تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.

وما من آية، في القرآن يقال عنها منسوخة إلا ولها وجه من العمل، وحال من الأحوال تطبق فيها.

أما الآية 106 من سورة البقرة، والتي يستشهد بها (المشككون) والقائلون بالنسخ عموما:(مَا نَنسَخ مِنءَايَةٍ. . .) فإن (الآية) فيها بمعنى آيات الأنبياء السابقين، وما نوّعها اللَّه، من نبي إلى نبي، حتى ختمها بآيته الفذة: القرآن الكريم.

وإذا أولت على نسخ بعض آيات الشريعة فإنما هي إشارة إلى ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم -

ص: 119

والوحي يتنزل، مما يحتمل نقلهم من حال إلى حال. ويكون ذلك تمهيدا لإخبارهم عن تحويل قبلتهم من ييت المقدس إلى ييت اللَّه في مكة.

وتأمّل قوله - تَعَالَى -، بعد قوله:(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. . .) تأمل قوله بعدها: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ. . .) .

فإن هذا الاستفهام الإنكاري (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا. . .) والذي يتوجه به

القرآن إلى المسلمين فيه تحذير لهم من أن يكونوا مع نبيهم كما كان اليهود مع موسى كلما جاءهم بأمر لم يألفوه بالامتثال، بل قابلوه بالحذر والريب وبالأسئلة الكثيرة.

وتحويل القبلة إذا كان أمرا وشيك الوقوع، فإذا وقع هذا التحويل نزعت بهم نوازع كثيرة تدعوهم إلى التساؤل: فيم كنا؟ ولم هذا؟

وهل سنحول عن القبلة الجديدة أم نبقى عليها؟

فكان هذا تحذها للمسلمين من أن يقعوا فيما وقع فيه اليهود.

فكانت آية النسخ مقدمة للدفاع في قضية تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، فكأنه يقول: إن اللَّه إذا نسخ آية: أو بدل حكما بحكم فإنما ذلك بمقتضى حكمته.

وقد نسخ اللَّه كثيرا من الشرائع السابقة، فأين شريعة نوح، مثلا، لقد أنساها اللَّه، فلم يعد أحد يذكر منها شيئا.

وأبقى ذكرها، تعليما، كما أمر إبراهيم بذبح ولده ثم

نسخه قبل وقوعه.

وعلى هذا، فإن أقرب مفهوم إلى النسخ الذي أشارت إليه الآية

(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. .) هو نسخ التوجه إلى بيت المقدس، إلى البيت الحرام. وكلا البيتين آية من آيات اللَّه، إذ قاما بأمره.

ونخلص من هذا إلى أن آية النسخ ليست موجهة إلى نسخ آيات من القرآن الكريم أخرى، وإنما إلى نسخ قبلة وإحلال أخرى مكانها.

كما أن قوله (أَوْ نُنْسِهَا) معناه تأخير الحكم الذي دعى به المسلمون إلى التحول إلى البيت الحرام مدة بلغت

ص: 120