الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(العلم) وهو إدراك الشيء إدراكا مطابقا للواقع، مع إقامة الدليل عليه.
فها هنا ثلاثة أمور: إدراك - مطابقة - دليل، فإن كان إدراك ومطابقة للواقع مع العجز عن الدليل فهذا هو التقليد.
فإن كان الإدراك الذهني غير مطابق للواقع فهو: الجهل.
ولا مجال هنا لذكر الدليل نفيا أو إثباتا، إذ الجهل لا دليل معه، ولا دليل له، وحسبك أنه: الجهل.
فإن كان الإدراك الذهني متساوي الطرفين، نفيا وإثباتا، بين المطابقة وعدمها فهذا هو الشك.
وإن كان إدراك أحد طرفي الإثبات أو النفي راجحا على الآخر فهذا هو: الظن.
وإن كان نفي المطابقة أرجح، والنفي لا يطابق الواقع فهذا هو الوَهْم.
والإسلام ينفي أن يكون الإيمان بعقائده: من قبيل: الجهل، أو التقليد أو الشك أو الوهم أو الظن.
هذه خمسة مناهج في (الإيمان) يرفض الإسلام بناء الاعتقاد عليها، ولا يرتضي
الإيمان به إلا على أساس: (العلم) والعلم وحده.
فماذا تنقمون منا؟
وأي عذر للمرتد عنه؟
أيرتد عن (العلم) إلى الظن؟ بَلْه الجهل!!
إذا كان (الإيمان بالإسلام) هذا أساسه، وبناؤه، فهل يتصور - عقلا - الرجوع عنه لأمر صحيح؟ وهل يصح أن يكون هذا الرجوع (رأيا) .
* * *
26 - ما الرأي
؟
مأخذ الرأي من الرؤية والوؤية نسبية ليست مطلقة وكذلك (الرأي) فإنه نسبي لا مطلق، فما تراه ليس بالضرورة يكون حقا مطابقا للحقيقة.
والإسلام (علم) مطلق، ليس نسبيا.
فبأي مقياس يجعل النسبي كفوا للمطلق؟
إذا من المستحيل - علما وعقلا - أن تكون الردة عن الإسلام المؤسس على العلم، رأيا سليما، ولن تكون إلا هوى، أو عبثا.
27 -
لكن من الحق أن تكون الردة عن (شبهة) لم يستطع صاحبها جلاءها، وهنا يأتي واصا الدولة المسلمة، لا إقامة الحد، بل جلاء الشبهة.
وما دام المشتبه صادق النية، مخلصا للبحث، متطلعا لطلب الحق، فلا بد أن تزول الشبهة، فيرجع إلى الحق..
وقد سجل تاريخ المسلمين أمثلة لذلك، من ذلك:
حوار المأمون مع نصراني أسلم ثم ارتد، فدار بينهما هذا الحوار:
المأمون: لأن أستحييك (أبقى على حياتك) بحق أحب إليَّ من أن أقتلك بحق.
ولأن أقبلك بالبراءة أحب إليَّ من أن أدفعك بالتهمة، فخبرنا عن الشيء الذي أوحشك من الإسلام، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، وإن أخطأك الشفاء كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، وتعلم أنك لم تقصر في اجتهاد، ولم تفرط في الحزم.
الموتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم.
المأمون: لنا اختلافان: أحدهما: كالاختلاف في الأذان، وتكبير الجنائز، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك من فرعيات وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف.
فمن أخذ بهذا أو ذاك لم يأثم، لا يتعايررن ولا يتعاييون.
وأنت ترى ذلك عيانا، وتشهد عليه تبيانا.
والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، مع إجماعنا على
أصل التنزيل.
فإن كان الذي أوحشك هذا، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع
التوراة والإنجيل متفقا على تأويله، كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين
جميع النصارى واليهود اختلاف في شيء من التأويلات.
وينبغي عليك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها.
ولو شاء الله أن ينزل كتبه، ويجعل كلام أنبيائه، وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل.
ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية.
ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت
المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل.
وليس على هذا بنى الله الدنيا.
قال المرتد: أشهد ألا إله إلا الله، وأنه واحد لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا!!
فأقبل المأمون على جلسائه.
فقال: احفظوا عليه عرضه، ولا تبروه في يومه، كيلا
يقول عدوه: إنه أسلم رغبة وطمعا، ولا تنسوا بعدُ نصيبكم من بره، وتأنيسه، ونصرته، والعائدة عليه.
* * *
28 -
ولو ذهبنا نحلل هذا الحوار لطال بنا الاستنباط، فيما يتعلق بآداب الإسلام، وشريعته، وطبيعة مجتمعه..
ولكن حسبنا من ذلك القليل من الكثير:
تأمل قول الخليفة: أحب إليَّ أن أبقي حياتك. . لم يكن بالخلفاء رغبة في الدماء، بل كان حفظ الحياة بحق أحب إليهم من القتل بحق.
إنهما حقان لكنهم تركوا حقا إلى حق هو أحق منه وأحب.
وتأمل رغبة الخليفة في براءته عن الرغبة في اتهامه وتأمل سؤاله عن الشيء الذي أوحشه من الإسلام.
إنه بذلك يفتح بابا من العلاج النفساني، حيث يفضي مريضه
بما في خاصة نفسه، وهذا يضفي عليه نوعا من الأمان، يجعله صريحا في عرض شبهته، مما يأخذ بيده إلى الجواب الصحيح.
وعلى ذلك يفضي المرتد بشبهته، ويأخذ الخليفة في بيان الحق، فيطمئن النافر، ويعود الشارد.
ثم لا تغفل وصيته لخاصته برعايته، وبره بل ونصرته، مع التحذير من معايرته،