الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة
إن مسائل أصول الدين قد بينها الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر؛ إذ أن أمور الاعتقاد من أعظم ما بلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وبينه للناس، بل هو أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده بالرسل الذين بينوه وبلغوه 1.
وعلى هذا جرى الصحابة على اتباع كلام الله المنزل، والاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأقواله وأفعاله.
فلم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على مسائل العقيدة سوى كتاب الله ثم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المقريزي: "لم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله
…
" 2.
فمنه استمدوا معلوماتهم عن الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره إلى غير ذلك من القضايا التي تشكل أصول الإيمان وأركانه، وكلها جميعا في القرآن والسنة. وعلى هذا المنهج جرى
1 انظر درء تعارض العقل والنقل 1/27 بتصرف.
2 خطط المقريزي 2/356.
التابعون وتابعوهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة. فالكتاب والسنة الصحيحة هما المصدران الأساسيان في قضايا الدين عامة والاعتقاد خاصة.
روى ابن عبد البر في الانتقاء عن أبي حنيفة قال: "سمعت أبا حنيفة يقول: "آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه" 1.
وفي رواية أخرى قال: قال أبو حنيفة: "إذا لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظرت في أقاويل أصحابه، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر أو جاء الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعدّد رجالا؛ فهم قوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا"2.
فالحاصل أن ترتيب الأدلة عند الإمام على الترتيب الآتي:
الكتاب ثم السنة الصحيحة، ثم الأخذ بما ورد عن الصحابة في بيان قضايا الدين عامة وفي قضايا العقيدة خاصة، ولا يخرج عن أقوالهم إلى قول غيرهم؛ وذلك لسلامتهم من الأهواء والبدع، ولصفاء سرائرهم ونياتهم مع ما فضلوا به من مشاهدة التنزيل ومعاصرة الوحي.
هذا وقد أشيع عن الإمام أنه يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقدم الرأي والقياس على السنة والآثار والمعقول على المنقول.
فنفى الإمام عن نفسه هذه التهمة حيث قال: "كذب والله وافترى علينا من يقول إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى قياس"3.
1 الانتقاء ص142.
2 الانتقاء ص143.
3 الميزان الكبرى 1/65.
وقال: "ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع ما أجمع عليه الصحابة"1.
وقال لمحمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم مجيبا عن هذه التهمة: معاذ الله أن أفعل ذلك. فقال له محمد: بل حولت دين جدي وأحاديثه بالقياس فقام أبو حنيفة بين يديه، ثم قال لأبي جعفر: "اجلس مكانك كما يحق لك حتى أجلس كما يحق لي، فإن لك عندي حرمة كحرمة جدك صلى الله عليه وسلم في حياته على أصحابه، فجلس أبو جعفر، ثم جثا أبو حنيفة بين يديه ثم قال لأبي جعفر: إني أسألك ثلاث كلمات فأجبني.
فقال له أبو حنيفة: الرجل أضعف أم المرأة؟
قال: بل المرأة.
فقال أبو حنيفة: كم سهماً الرجل وكم سهماً المرأة؟
فقال أبو جعفر: للرجل سهمان وللمرأة سهم.
فقال أبو حنفية: هذا قول جدك، ولو حولت دين جدك لكان ينبغي في القياس أن يكون للرجل سهم وللمرأة سهمان، لأن المرأة أضعف من الرجل.
ثم قال: الصلاة أفضل أم الصوم؟
فقال: الصلاة أفضل.
قال: هذا قول جدك، ولو حولت دين جدك فالقياس أن المرأة إذا طهرت من الحيض أمرتها أن تقضي الصلاة ولا تقضي الصوم.
1 عقود الجمان ص175.
ثم قال: البول أنجس أم النطفة؟
قال أبو جعفر: البول أنجس.
قال: فلو كنت حولت دين جدك بالقياس، لكنت أمرت أن يغتسل من البول ويتوضأ من النطفة؛ لأن البول أقذر من النطفة.
ولكن معاذ الله أن أحول دين جدك بالقياس فقام أبو جعفر فعانقه" 1.
بل إنه يقدم على القياس الحديث المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرى جواز القياس مع وجود أحدهما. ذكر ابن حزم في الأحكام أن أبا حنيفة قال:"الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس، ولا يحل القياس مع وجوده"2.
بل ذم القياس مع وجود النص أو القياس على غير الأصل من كتاب أو سنة صحيحة. روى الصيمري عن وكيع 3 أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "البول في المسجد أحسن من بعض القياس"4.
ولقد نفى عنه بعض الأئمة هذه التهمة، منهم المعاصرون ومنهم المتأخرون وأولئك كثير نكتفي بذكر بعض الأقوال.
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص143.
2 الإحكام في أصول الأحكام 7/54، تحقيق أحمد شاكر الطبعة المنيرية سنة 1347هـ.
3 هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي، قال عنه ابن حجر:"ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة" مات في آخر سنة 196هـ أو أول سنة 197هـ وله سبعون سنة، تقريب التهذيب 2/331، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 11/123.
4 أخبار أبي حنيفة ص13، والكامل لابن عدي 7/2476.
فمن المعاصرين له سفيان الثوري حيث قال: "كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم، ذابا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات وبالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنّع عليه قوم يغفر الله لنا ولهم"1.
ويقول زفر بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة: "لا تلتفتوا إلى كلام المخالفين؛ فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعد عليها"2.
ويقول الحسن بن صالح 3: "كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ؛ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم"4.
ومن المتأخرين عنه ابن تيمية حيث قال: "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمّدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره، فقد أخطأ عليهم، وتكلّم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما"5.
1 الانتقاء ص142.
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص75.
3 هو الحسن بن صالح بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي بضم المعجمة والفاء مصغرا الهمداني بسكون الميم قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع من السابعة" مات سنة 199هـ وكان مولده سنة 100هـ.
تقريب التهذيب 1/167؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 2/285.
4 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص11.
5 مجموع الفتاوى 20/304
وابن القيم حيث قال: "وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة؛ أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي. وعلى ذلك بنى مذهبه، ثم ذكر أمثلة على ذلك، منها:
أنه منع قطع يد السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعف، وجعل الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعف، وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه ضعف، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيه غير مرفوعة..فيقدم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي. قوله وقول الإمام أحمد وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، يل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا" 1.
ونختم رد هذه التهمة بقول ابن أبي العز: "والواجب أن يقال لمن قال: إن أبا حنيفة خالف سيد المرسلين: هذا القول كذب وبهتان، وسب لهذا الإمام الجليل يستحق قائله الردع والزجر عن هذه المقالة الباطلة، إن أراد أنه خالفه عن قصد، وإن أراد به أنه خالف عن تأويل أو ذم القول، ولم يذكر قائله، فهو هين كما يوجد في كلام المختلفين في مسائل الاجتهاد
…
".
إلى أن قال: "مخالفة النص إذا كانت عن قصد فهي كفر، وإن كانت عن اجتهاد فهي من الخطأ المغفور؛ فلا يجوز أن يقال عن أبي حنيفة ولا عمن دونه من أهل العلم فيما يوجد من أقواله مخالفا للنص أنه خالف الرسول صلى الله عليه وسلم قصدا بل إما أن يقال: النص لم يبلغه 2، أو لم يظهر له
1 أعلام الموقعين 1/77.
2 عاش الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في عصر لم يكتمل فيه جمع السنة وفي =
على ذلك الحكم، أو عارضه عنده دليل آخر أو غير ذلك من الأعذار" 1، وكان رحمه الله متثبتا في علمه؛ فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعْدُه إلى غيره.
روى ابن عبد البر بإسناده عن أبي حمزة السكري 2 أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذنا به، ولم نعده"3.
فدل هذا النص على أن الإمام إذا جاءه الحديث الصحيح الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به وصدق وأخذ به بدون تفرقة بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد؛ فيثبت العقائد بهما من غير تفريق، فكيف لا وهو القائل:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"4.
وهو القائل: "وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من
= ذلك يقول البيهقي: "وهذا الخلاف إنما هو لقربه من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل انتشار السنن في البلدان ووقوع جميعها أو أكثرها إليه بلوغا ظاهرا يقع له بها هذا الإتقان في تركها وقد رجع أبو يوسف ومحمد إلى السنة في مسائل معدودة منها مسألة الوقف والتكبير في العيدين ونصاب الحبوب والثمار وسهم الفارس وغير ذلك" قال أبو يوسف لما رجع عن هذه المسائل: "لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت".
مناقب الشافعي للبيهقي 1/172. وانظر مجموع الفتاوى 20/304.
1 الاتباع ص28، 29، 30.
2 هو محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري، قال عنه ابن حجر:"ثقة فاضل" مات سنة 167هـ أو 168هـ.
تقريب التهذيب 2/212؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 9/486.
3 الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص144.
4 حاشية ابن عابدين 1/67 ورسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 1/4، وإيقاظ الهمم للفلاني ص62.
مغربها، ونزول عيسى عليه السلام من السماء، وسائر علامات يوم القيامة هي على ما وردت به الأخبار 1 الصحيحة حق كائن" 2.
وسئل الإمام أبو حنيفة هل تشهد لأحد من أهل الجنة سوى الأنبياء؟ فقال: "كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة بخبر صحيح"3.
وهذا هو ما قرره الطحاوي في العقيدة التي كتبها في بيان عقيدة الإمام وصاحبيه حيث يقول: "وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان حق. وقال في موضع آخر: وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول فهو كما قال
…
وقال
…
نؤمن بما جاء من كرامتهم وصح عن الثقات من رواتهم" 4.
وهذا هو ما كان عليه الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن دل على هذا قول أبي يوسف: "وقد أمرك الله أن تؤمن بكل ما أتى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} "سورة الأعراف: الآية158".
فقد أمرك الله بأن تكون تابعا سامعا مطيعا" 5.
1 أثبت أبو حنيفة رحمه الله هذه العقائد المذكورة آنفا عن طريق الحديث الصحيح الواحد حيث لم يتوفر تتبع طرق الأحاديث بعد حتى يقال إنها تواترت في زمانه وإن كانت تلك الأحاديث بعد تدوين السنة وتتبع الطرق وجمعها صارت من المتواترات.
2 الفقه الأكبر ص306.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص26-27، 43، 59.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص26-27، 43، 59.
5 الحجة في بيان المحجة للتيمي ص321.
فهذا النص صريح في الإيمان بكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون قيد التواتر 1، وقال محمد بن الحسن:"هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها" 2، فدل هذا النص على إثبات الصفات بالأحاديث الصحيحة، دون فرق بين أن تكون متواترة أو مشهورة 3، أو أخبار آحاد4، بعد أن كانت مروية عن الثقات.
ثم ذكر إجماع الفقهاء على ذلك حيث قال: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه
…
" 5.
هذا هو ما كان عليه السلف 6 الصالح، وهو الحق لا ريب فيه؛
1 المتواتر هو ما نقله جمع يحصل العلم بصدقهم بضرورة ولا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أول الإسناد إلى آخره. تقريب النواوي مع شرح تدريب الراوي 2/176.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/433.
3 المشهور: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر. تدريب الراوي 2/173.
4 أخبار الآحاد جمع خبر الواحد. وهو لغة ما يرويه شخص واحد، واصطلاحا: ما لم يجمع شروط المتواتر
انظر نزهة النظر ص18؛ وفتح الباري 13/233.
5 شرح أصول أهل السنة والجماعة 3/432-433.
6 ذكر الشافعي إجماع السلف على حجية خبر الواحد فقد قال في كتابه الرسالة ص453، 457:"أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته" وقال قبل ذلك: "ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل".
إذ التفرقة بين المتواتر والآحاد بدعة 1 دخيلة على الإسلام. وكذلك من مصادر التلقي عند الإمام أبي حنيفة الفطرة؛ فقد استدل أبو حنيفة بالفطرة على علو الله تعالى فقال: "إن الله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء"2.
1 أحدث هذه البدعة طائفة من المتكلمين ثم دبّ إلى بعض الفقهاء والأصوليين. قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتابه الانتصار كما في مختصر الصواعق: "قولهم إن أخبار الآحاد لا تقبل
…
رأي سعت به المبتدعة في رد الأخبار إذ أن الخبر إذا صح ورواته ثقات وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم وهذا قول عامة أهل الحديث
…
وأما هذا القول المبتدع فقول القدرية والمعتزلة..، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابتة ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول
…
".
قال ابن القيم في الرد عليهم: "ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجزمون لما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من أهل الإسلام بعدهم يشك فيما أخبر به أبو بكر الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود ولا غيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ولم يقل أحد منهم يوما واحدا من الدهر خبرك هذا خبر واحد لا يفيد العلم. وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقال فيه ذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين
…
"
إلى أن قال: "فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية الرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء وإلا فلا يعرف لهم سلف في الأمة بذلك".
انظر مختصر الصواعق 2/504-5204، 2/473-475 بتصرف.
2 الفقه الأبسط ص51.
فالفطرة والشرع هما ما سلكه السلف في الاستدلال على العقائد قال العلامة المعلمي: "ومن تدبر القرآن وتصفح السنة والتاريخ؛ علم يقينا أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين 1 السلفيين، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من الحض على ذلك.
وهذا يقضي قضاء باتا بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيد أن فيه عندهم القطع، ويظنون ما لا يفيد أن فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك، وهذا هو الذي تبيّنه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن أكابرهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم، وأتبعهم لهم، وهلمّ جراًّ.
وهذا هو قول السلفيين في عقيدة السلف ويوافقهم عليه أكابر النُّظار
…
" 2.
هذا آخر الكلام عن مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة. أما موقفه من علم الكلام فسأتناوله في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.
1 يعني الشرع والفطرة.
2 التنكيل 2/344، والقائد إلى تصحيح العقائد ص172.