الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية
منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية هو منهج السلف الصالح رضي الله عنه، فإنهم أعرضوا عن مبحث الوجود والاستدلال عليه لأنه أمر مسلّم به مركوز في فطر البشر، لا يكاد أحد ينازع فيه إلا شرذمة قليلة من البشر، كالدهرية في القديم، والشيوعية ومن سايرها من ملاحدة العصر.
قال الملا علي القاري في بيانه لمنهج الإمام في تقرير الربوبية:
"أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود. ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "سورة إبراهيم: الآية10".
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "سورة الزخرف: الآية 87".
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} " سورة الروم: الآية30".
فوجود الله ثابت في فطر الخلق، كما يشير إليه قوله سبحانه
وتعالى، ويومئ إليه حديث:" كل مولود يولد على الفطرة " 1، على فطرة الإسلام. وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد.
ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة لا إله إلا الله، ولم يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: الله موجود، بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد، ثم العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل
…
" 2.
ولكن لما وجد في عصر الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من انتكست فطرته، وعميت بصيرته فشك في وجود الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ ناقشهم الإمام واستدل على وجوده تعالى:
بدلالة الفطرة:
وهذه في مقدمة الدلالات على أن الله فطر الخلق على الإقرار به وبوحدانيته؛ فما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} "سورة الروم: الآية30".
1 أخرجه البخاري: كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ 3/219 ح1359.
ومسلم: كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين 4/2047 ح2658، كلاهما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة
…
".
2 شرح الفقه الأكبر للقاري ص17.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} "سورة إبراهيم: الآية10".
فالفطرة السليمة مجبولة على الإقرار بوجود الرب الخالق، والإيمان به تعالى مغروزٌ في طبيعة البشر وفي شعور كل عاقل وضميره، وذلك لما وقر في نفوسهم من عجز المخلوقين عن الخلق والرزق والتدبير والملك. "فدلالة الفطرة على وجود الخالق مركوزة في كل نفس مؤمنة أو كافرة، والنفوس بطبعها تحسها وتشعر بها وإن غابت عنها في بعض الأحيان لسبب طارئ، فسرعان ما تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إليه عند الشدائد. ولو لم تكن النفوس مفطورة على هذه المعرفة لما تطلعت إليها بل لم تكن مطلوبة لها وصدق هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" 1، ولم يقل يسلمانه لأن الإسلام موافق للفطرة 2.
هذا وقد رجح كثير من السلف أن معرفة الله تعالى ممكنة بالفطرة من غير دليل، بمعنى أنه لو ولد إنسان بعيدا عن الناس، ولم تفسد فطرته بتعليم أبويه أو البيئة التي يعيش فيها؛ لأمكن أن يعرف الله بفطرته الصافية وبمساعدة عقله وتفكيره فيما خلق الله 3.
1 أخرجه البخاري: كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلّى عليه؟ 3/219 ح1359. ومسلم: كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/2047 ح2658، كلاهما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
2 انظر بحث دليل الفطرة في درء التعارض 8/354، 368؛ وكتاب ابن تيمية وموقفه من التأويل ص330.
3 انظر كتاب العقائد السلفية شرح الدرر السنية ص53 بتصرف.
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى أن لا عذر لأحد بالجهل بوجود الرب الخالق؛ وذلك لما جبلت عليه فطرته من وجوده تعالى، ويساعد تلك الفطرة العقل والتفكير فيما خلق الله تعالى من مخلوقات عظيمة مبثوثة في الكون، كلها تدل على وجود الرب الخالق، فقد قيل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال:"لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه"1.
فالظاهر من كلام الإمام أبي حنيفة أنه قد اشتمل على الآتي:
"أ" أن معرفة الله فطرية، وأن وحدانية الله وربوبيته تدركان بالعقل فهذا حق لا شك فيه.
"ب" أن العقل موجب لمعرفة الله سبحانه وتعالى، وأن العبد مكلف بمجرد عقله بمعرفة الله سبحانه وتعالى ولو لم تبلغه الدعوة، وأن العبد إذا لم يوحد الله سبحانه وتعالى فهو غير معذور.
فهذا الأمر على خلاف مذهب جمهور أهل السنة والجماعة من السلف الصالح. فالمتقرر من مذهبهم أن العقل وإن كان مدركا لمعرفة الله، ولكنه غير موجب، فلا تتم الحجة على العبد بمجرد عقله ما لم تبلغه دعوة الرسل. دل على ذلك قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} "سورة الاسراء: الآية15".
فهذه الآية صريحة في عدم تعذيب من لم تبلغه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وهذه هي عقيدة السلف فقد بوَّّب الإمام
1 درء تعارض العقل والنقل 9/62؛ والمسامرة مع شرحه المسايرة ص18/2؛ تحقيق محمد محيي الدين.
اللالكائي 1 رحمه الله في كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة""سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل" ثم قال: "وهذا مذهب أهل السنة والجماعة"2. فالذي في شاهق الجبال ولم تبلغه الدعوة ولم يوحد الله فهو معذور وليس بمكلف؛ لأن التكليف لا يكون إلا بالشرع ولا تتم حجة الله على عباده إلا به.
"ج" استنبط بعض الكتاب المعاصرين 3 من كلام أبي حنيفة هذا أن أول واجب هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله.
وهذا الاستنباط غير صحيح لأن أبا حنيفة لم يقل لا عذر لمن لم ينظر بل قال: "لا عذر لأحد بالجهل بخالقه". وهذا غاية ما يدل عليه أن أول واجب بالعقل معرفة الله وتقدم أن لا واجب إلا ما وجب بالشرع. فالمطلوب معرفة أول واجب بالشرع. وقد قام الدليل الشرعي على أن أول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله كما سيأتي بيانه في موضعه 4.
وكذا استعمل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى دلالة الفطرة في إثبات
1 هو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي الشافعي اللالكائي. قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ المفتي". وقال عنه الخطيب: كان يفهم ويحفظ صنّف كتابا في السنن وكتابا في شرح السنة إلى الدينور فأدركه الأجل بها في شهر رمضان سنة "410" تاريخ بغداد 14/70؛ وسير أعلام النبلاء 17/419.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/193-196.
3 انظر كتاب الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة ص355، تأليف الدكتور علي عبد الفتاح المغربي.
4 انظر ص248 من هذه الرسالة. وانظر ص207، 210.
صفة من صفات الله تعالى ألا وهي صفة العلو؛ حيث قال: "والله تعالى يُدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء
…
" 1.
فالنفوس فطرت على أن الله تعالى في العلو لا في السُّفل. واستدل الإمام على ذلك بحديث الجارية التي أجابت النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألها "أين الله؟ قالت في المساء"2.
فأجابت بما وقر في فطرتها وجبلت عليه من أن الله في العلو؛ فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بإعتاقها، ووصفها بأنها مؤمنة. هذه دلالة الفطرة على وجود الخالق ومعرفته، ويلاحظ أن هذه الدلالة ترتكز على نوعي الآيات في الأنفس الآفاق. ولقد لفت القرآن أنظار العباد إلى ذلك في مواضع
1 الفقه الأبسط ص51.
2 أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد 5/448؛ ومسلم: في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة 1/381 ح537، وأبو داود: كتاب الإيمان والنذور باب في الرقبة المؤمنة 3/587 ح3282، والنسائي: كتاب الصلاة باب الكلام في الصلاة 3/185، وابن أبي شيبة: في كتاب الإيمان ص27، وابن خزيمة في التوحيد ص21، جميعهم من طريق عطاء بن يسار عن معاوية بن حكم السلمي ومالك في الموطأ باب ما يجوز العتق في الرقاب الواجبة 2/776 ح8 من طريق عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم بدل معاوية بن الحكم، وقد عده العلماء وهما من الإمام مالك لأنه خالف جميع رواته كما أنه ليس في الصحابة أحدا بهذا الاسم. انظر شرح الزرقاني على موطأ مالك 4/84، وأخرجه أحمد 2/291، وأبو داود: كتاب الإيمان والنذور باب في الرقبة المؤمنة 3/588 ح3284، وابن خزيمة في التوحيد ص123، جميعهم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، وأورده الذهبي في العلو ص16 وقال:"هذا حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الثقات عن معاوية السلمي".
كثيرة؛ فيحسن تفصيل القول في دلالة هذه الآيات.
1-
أما دلالة الأنفس
فمثالها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} "سورة المؤمنون: الآيات من 12-15".
فهذه الآيات تلفت نظر الإنسان إلى أنه كان نطفة في الرحم فصارت النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما وعصبا وعظاما وأعضاء وحواس.
ثم يخرج بعد تلك الأطوار بشرا سويا صوِّر على أحسن صورة وخلق على أحسن خلقة، ثم تتعاقب عليه الأحوال من كبر وصغر، وضعف وقوة، وجهل وعلم، ومرض وصحة، ثم الموت والفناء لكل حي فلا بد لهذه التغيرات من مغير عالم قادر حكيم. وفي هذا المعنى يروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه سئل: ما الدليل على الصانع؟ فأجاب: أعجب دليل النطفة التي في الرحم والجنين في البطن، يخلقه الله في ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة
…
فلما رأينا امرأة تلد مرة ذكرا ومرة أنثى ومرة توأمين وطورا ثلاثة.
وتريد أن تلد فلا تلد، وتريد ألا تلد فتلد، وتريد الذكر فيكون الأنثى، وتريد الأنثى فيكون الذكر، على خلاف اختيار الأبوين؛ فعرفنا قطعا قدرة قادر عالم حكيم" 1.
1 قلائد عقود العقيان في مناقب أبي حنيفة النعمان ""ق-77-ب".
2-
وأما دلالة الآفاق
فمثالها قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} "سورة الغاشية: الآيات من 17-20".
فهذه الآيات تحث الإنسان على التأمل والتفكر في المخلوقات العظيمة التي نراه ونشاهدها في عالمنا هذا من سماء مرفوعة وأرض مبسوطة وجبال منصوبة وغيرها مما خلق الله.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "سورة آل عمران: الآيتان 190-191".
فلو تأمل الإنسان هذه المخلوقات، وتأمل صنعهما وإتقانهما، لدلّته وأرشدته إلى أن هناك خالقا لهذه المخلوقات مدبرا لهذه الأكوان، وأنه حكيم عليم. وهذه الدلالة استدل بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى حينما أراد قوم من الملاحدة البحث معه في تقرير الربوبية؛ فقال لهم:""أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره في نفسها، وتعود بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا
محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟
…
" 1. وقد تقدم قول الإمام أبي حنيفة وفيه: "
…
لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه".
فجمع الإمام أبو حنيفة في كلامه هذا بين دلالتي الأنفس والآفاق.
وهذا المسلك الذي سلكه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الاستدلال على الله تعالى بمخلوقاته وآثاره فطري لا يحتاج إلى تعليم واكتساب، يعرفه الحضري في حاضرته، والبدوي في باديته، لا يختلف فيه اثنان، بل قد استدل به الأعرابي حينما سئل عن الله فقال:"البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير"2.
وهو كذلك مسلك شرعي دعا إليه القرآن كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} "سورة الذاريات: الآيتان 20-21".
فالأرض وما فيها من جبال وأنهار وأشجار ونبات تدل المتفكر فيها المتأمل لمعانيها على عظمة خالقها وسعة سلطانه وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة ما يدل على أن له خالقا حكيما.
فالبشر على كثرتهم، خلقهم الله من نفس واحدة هي نفس آدم، قال تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} "سورة الزمر: الآية6".
1 شرح العقيدة الطحاوية ص25، 26؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص14.
2 البيان والتبيين 1/163.
أما كيفية خلقهم فهو طور بعد طور، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، خلقهم في مكان ضيق، في بطون أمهاتهم، في ظلمات ثلاث.
فإذا تقرر أن الله واحد في خلقه وملكه لا شريك له؛ فهو واحد في ألوهيته لا شريك له.
هذا وقد ذكر الله تعالى دلالتي الأنفس والآفاق في آية واحدة كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} "سورة فصلت: الآية53".
يقول مؤلف كتاب إيثار الحق على الخلق شارحا الآية وما تدل عليه من معان: "وقد جمع الله تعالى دلالتي النفوس والآفاق في ـ هذه الآية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} الآية ـ وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئا، وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها خلق بغير صانع حكيم" إلى أن قال: "وبيانه أنه خلق من نطفة قذرة مستوية الطبيعة فكيف يكون منها ما يبصر، ومنها ما يسمع، ومنها ما يطعم، ومنها ما يشم، ومنها الصلب ومنها الرخو، ومنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، كما نبّه الله عليه في كتابه الكريم. ونعلم أنها قد تغيرت بنا الأحوال وتنقلت بنا الأطوار تنقّلا عجيبا، فكنا نطفة ثم علقة ثم مضغا ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم والدم وتقويهما وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط لما فيها من القوة والمتانة، ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح..ثم انظر إلى موضع العينين ما أشبهها بهما بعيدا مما يؤذيها مرتفعا للتمكن من إدراك المبصرات في الوجه الذي لا يحتاج إلى تغطية باللباس من الجمال البديع فيهما، ولو
كان في الرأس أو في الظهر أو في البطن أو غير ذلك ما تمت الحكمة ولا النعمة بهما، وكذلك كل عضو في مكانه
…
وأما دلالة الآفاق فما يحدث ويتجدد في العالم من طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الأفلاك الدائرات والسفن الجاريات والرياح الذاريات
…
وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال، الحاملة للماء الكثير المطفئ بطبعه للنار المضادة له، وما في الجمع بينهما وإنشائها وإنزال الأمطار منها بالحكمة البالغة
…
ثم ما في اختلاف الليل والنهار والفصول والأحوال
…
" 1.
فالمقصود أن الدلالات الدالة على تفرد الله بالربوبية والخلق والتدبير كثيرة، وبالجملة هذا النوع من التوحيد لا ينكره أحد إلا مكابر معاند، ومن المعلوم أن من اعترف بوجود الله من غير إفراد له بالعبادة فإن إيمانه هذا لا ينفعه، بل لا بد مع هذا الإقرار أن يجرد التوحيد لله وحده. وسيأتي بيان ذلك في الفصل الآتي.
1 إيثار الحق على الخلق ص44، 45، 46، 49، 50 بتصرف.