المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما يحب الرجل ولده وصديقه.

ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عندهم من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله. وكل ما أُحبّ لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل" 1.

ويطلق اسم العبادة على الأعمال الشرعية التي تُفعل تقربا إلى الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"2.

2-

شروطها

العبادة الشرعية لا تكون مقبولة عند الله ومرضية إلا أن تتوفر فيها ثلاثة أصول، وإلا فهي مردودة على صاحبها غير مقبولة.

وفي بيان تلك الأصول الثلاثة يقول صاحب كتاب أضواء البيان:

"اعلم أولا أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:

الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ

1 العبودية ص44.

2 العبودية ص38.

ص: 251

فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} "سورة الحشر: الآية7".

الثاني: أن يكون خالصا لله تعالى لأن الله جلّ وعلا يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} "سورة البينة: الآية5".

{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} "سورة الزمر: الآية 14".

{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} "سورة الزمر: الآية 15".

الثالث: أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة النحل: الآية97".

فقيد ذلك بالإيمان ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح. وقد أوضح جلّ وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة كقوله في عمل غير المؤمن: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} "سورة الفرقان: الآية23".

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة هود: الآية16".

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} "سورة النور: الآية39".

وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ

ص: 252

عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} "سورة إبراهيم: الآية18

"1.

3-

أنواعها

تقدم أن معنى العبادة معنى شامل للأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فمنها العبادة القولية، ومنها العبادة العملية، ومنها العبادة الاعتقادية، فبحكم هذا التنوع تكون العبادة موزعة على القلب واللسان والجوارح، فلكل من هذه الجهات نصيب من العبادة.

فالعبادة الاعتقادية: مثل اعتقاد أن الله رب كل شيء وخالقه، ومالكه له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه لا شريك له ولا كفء ولا ند له وأنه لا معبود بحق غيره.

وكذا حب الله ورجاؤه والخوف والخشوع والإنابة والتوكل وإخلاص العمل لله وحده، فهذه المطالب هي نصيب القلب من العبادة.

العبادة القولية:

مثل النطق بالشهادتين وتلاوة القرآن في الصلاة وفي غيرها والتلفظ بالأذكار الواردة في الصلاة، والحج، ومثل الدعاء، والثناء والحمد والشكر، والاستغفار، وصدق الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فهذه المطالب هي نصيب اللسان من العبادة.

العبادة العملية:

مثل الصلوات الخمس، وما يتعلق بها وسائر أركان الإسلام من زكاة

1 أضواء البيان 3/352-353.

ص: 253

وصيام وحج، وكذا الجهاد العملي لأعداء الإسلام، وسائر الواجبات المندوبات. فهذه المطالب هي نصيب الجوارح من عبادة الله تعالى 1.

وبها البيان يتضح لنا شمول العبادة لحياة المسلم كلها المتضمنة لأقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة وما ينطوي عليه ضميره من نية وقصد.

ص: 254

‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

تقدم أن جميع الأنبياء والرسل كان أول دعوتهم إلى عبادة الله وحده والبراءة من الشرك بأنواعه وألوانه وصوره. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} " سورة النحل: الآية36".

ولقد جاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والنهي عن الشرك، وحذر منه أبلغ التحذير.

قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "2.

وسئل عليه الصلاة والسلام أي الذنب أعظم عند الله؟ فقال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك "3.

وقد أخبر الله بأن كل ذنب يغفره إن شاء ما عدا الشرك:

1 انظر مدارج السلكين 1/109-122 بتصرف.

2 تقدم تخريجه ص216.

3 أخرجه البخاري: كتاب الأدب باب قتل الولد خشية أن يأكل معه 10/433 ح6001 من طريق عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود.

ص: 254

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".

وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "سورة المائدة: الآية72".

قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده"1.

وقال صاحب تيسير العزيز الحميد: "وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح، وأظلم الظلم، إذ مضمونه تنقص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به.

قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} "سورة الأنعام: الآية1".

ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذل له والانقياد لأمره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب العالم وقامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "2.

ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس، في خصائص الألوهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء

1 تفسير ابن كثير 2/308 ط دار الأندلس.

2 أخرجه مسلم: كتاب الإيمان باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان 1/131 ح234 من طريق ثابت عن أنس بن مالك.

ص: 255

والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها لله وحده، فمن علق شيئا من ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق" 1.

فعلى كل مسلم ـ يريد أن يخلص نفسه وينجيها من الوقوع فيما ينافي ويناقض شهادته بأنه لا إله إلا الله ـ أن يعرف التوحيد من الشرك معرفة تامة، وأن يميز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فمن لا يميز بين ما هو من الإسلام وما ليس منه فقد اختلط عليه الأمر، والنتيجة التي تحصل منها انتقاض إسلامه وجهل مقاصد دينه الذي أهم مقصد فيه على الإطلاق توحيد الباري جل وعلا والبراءة من الإشراك به. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شارحا ما يروى عن أمير المؤمنين عمر بن بالخطاب رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية""وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان"2.

ثم الشرك أقسام:

شرك أكبر: وهو مناف للتوحيد بالكلية ومخرج من الملة لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وجزاؤه الخلود في النار إذا مات عليه.

1 تيسير العزيز الحميد ص115.

2 مدارج السالكين 1/344.

ص: 256

قال ابن القيم في بيان الشرك الأكبر: "وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} "سورة الشعراء: الآية98".

مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة

" 1.

وفصَّل الشيخ عبد الرحمن 2 بن حسن آل الشيخ أنواع الشرك الأكبر فقال: وهو أربعة أنواع:

النوع الأول: شرك الدعوة أي الدعاء، والدليل قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} "سورة العنكبوت: الآية65".

النوع الثاني:

شرك النية والإرادة والقصد، والدليل قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} "سورة هود: الآية15".

1 مدارج السالكين 1/33.

2 هو عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال عنه ابن بشر: "العالم النحرير البحر الزاخر

جامع أنواع العلوم الشرعية ومحقق العلوم الدينية والأحاديث النبوية

قاضي قضاة الإسلام والمسلمين

صنّف مصنفات في الأصول والفروع" ومن جملة مصنفاته فتح المجيد وقرة عيون الموحدين توفي سنة 1285هـ. انظر عنوان المجد لابن بشر 2/20.

ص: 257

النوع الثالث:

شرك الطاعة، والدليل قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} "سورة التوبة: الآية31".

وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعُبّاد في المعصية لا دعاؤهم إياهم، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ـ عدي بن حاتم ـ فقال:"لسنا نعبدهم" فذكر له: "أن عبادتهم طاعتهم في المعصية"1.

النوع الرابع:

شرك المحبة، والدليل على قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} "سورة البقرة: الآية165"2.

أما القسم الثاني من أقسام الشرك فهو الأصغر، وإنما قيل عنه كذلك لأنه لا يخرج من الملة بخلاف الأكبر.

قال ابن القيم رحمه الله في كلامه على هذا القسم: "وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

1 أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن باب من سورة التوبة 5/278 ح3905، وابن جرير الطبري في التفسير 10/114، والبيهقي في السنن 10/116 جميعهم من طريق مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم، قال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وعطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".

2 مجموعة التوحيد ص347، 348.

ص: 258

أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك " 1 وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت" و"هذا من الله ومنك" و"أنا بالله وبك" و"ومالي إلا الله وأنت" و"أنا متوكل على الله وعليك" ، و"لولا أنت لم يكن كذا وكذا".

وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت""أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده"2. وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ" 3.

1 أخرجه أحمد في المسند 2/69، 86، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/570 ح3251.

والترمذي في كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1535.

والبيهقي في السنن 10/29.

والحاكم في المستدرك 1/18.

جميعهم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ولفظه عند الترمذي والبيهقي: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". ولفظه عند الحاكم: "من حلف بغير الله كفر".

قال الترمذي على إثره: "هذا حديث حسن".

وقال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد".

وأقره الذهبي في التلخيص.

2 أخرجه أحمد في المسند 1/214.

* والبخاري في الأدب ص274 ح783.

* والنسائي في عمل اليوم والليلة ص545، 546.

* وابن ماجه: كتاب الكفارات باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت 1/284 ح2117 بنحو هذا اللفظ.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 2/136.

:"هذا إسناد فيه الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان العجلي وباقي رجال الإسناد ثقات".

3 مدارج السالكين 1/344.

ص: 259

هذا هو الشرك بقسميه فواجب على المسلم أن يحذر من الوقوع فيه حفاظا على عقيدته وتوحيده.

ص: 260

المطلب الرابع: أقوال لأبي حنيفة وبعض1 أتباعه تتعلق بالشرك وأنواعه ووسائله

جاء عن الإمام أبي حنيفة وبعض أتباعه النهي عن أنواع من الشرك الأكبر والأصغر.

كالدعاء، والاستغاثة بغير الله 2، والسجود لغير الله 3، والنذر لغير الله 4، والذبح لغير الله 5.

واعتقاد أن الأولياء لهم تصرف 6 في الكون مع الله، أو اعتقاد أن

1 كلام المتقدمين كأبي حنيفة وأصحابه الأوائل عن الشرك وأنواعه ووسائله قليل لأن بدع القبورية لم تكن موجودة وإنما كانوا يتكلمون في بعض هذه المسائل عرضا إذا وردت في النصوص بخلاف ما عليه المتأخرون من أتباع أبي حنيفة فقد بسطوا القول في تلك المسائل كما هو ظاهر من النماذج الآتية من نصوصهم.

2 انظر روح المعاني 11/98، 6/129..

3 انظر البحر الرائق 5/124، وروح المعاني 17/213، والمرقاة شرح المشكاة 2/202.

4 انظر حاشية ابن عابدين على الرد المحتار 2/439، 440؛ والبحر الرائق 2/298؛ وروح المعاني 17/313.

5 انظر تحفة الفقهاء 3/67.

6 انظر البحر الرائق 2/298، وروح المعاني 17/213.

ص: 260

أحدا يعلم الغيب 1. والحلف بغير الله 2.

قال الإمام أبو حنيفة: "لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص"3.

وقال ابن نجم الحنفي عمن حلف بغير الله: "ويخاف الكفر على من قال بحياتي وحياتك"4.

وقال محمد علاء الدين الحصكفي فيمن نذر لغير الله: "واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام، وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام؛ تقربا إليهم هو بالإجماع باطل وحرام

" 5.

قال ابن عابدين شارحا هذا النص: "قوله: تقربا إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان إن ردّ غائبي أو عوفي مريضي أو قُضيت حاجتي؛ فلك من الذهب أو الفضة أو من الطعام أو من الشمع أو الزيت كذا قوله: "باطل وحرام" لوجوه منها أنه: نذر لمخلوق، والنذر لمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك

"6.

وقال الألوسي واصفا حال المستغيثين بغير الله وتعلقهم الشديد بالأموات؛ حيث صرفوا لهم أنواعا من الطاعات كالنذر وغيره: "ويستغيثون

1 انظر الفتاوى الهندية 6/323، 325، 326؛ والبحر الرائق 3/88، 5/124.

2 انظر البحر الرائق 5/124.

3 بدائع الصنائع 3/8.

4 البحر الرائق 5/124.

5 رد المحتار مع حاشية ابن عابدين 2/439.

6 حاشية ابن عابدين على رد المحتار 2/449-440.

ص: 261

بهم في الشدة ـ أي الأولياء ـ غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل، ونجعل ثوابه للولي. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو ردّ غائبهم أو نحو ذلك.

والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا.

ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حُجَر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم. لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم. والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف. قاتلهم الله تعالى، ما أجهلهم وما أكثر افتراءاتهم.

ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة. وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه.

وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام السلف الأمة. وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى

" 1.

ويقول كذلك: "وقد رأينا كثيرا من الناس

يهشون لذكر الأموات؛ يستغيثون بهم، ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم

1 روح المعاني 17/212، 213.

ص: 262

توافق أهواءهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل

وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره. وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني قلت له: قل: يا الله فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} "سورة البقرة: الآية186".

فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء.

وسمعت بعضهم أنه قال: "الولي أسرع إجابة من الله عز وجل"، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان

" 1.

وكذا ورد عن أبي حنيفة وبعض أتباعه النهي عما هو من وسائل الشرك، كتجصيص 2 القبور وتعليتها3، والكتابة عليها 4، والبناء

1 روح المعاني 11/24.

2 تجصيص القبر منهي عنه عند الإمام أبي حنيفة.

انظر حاشية رد المحتار لابن عابدين 2/237؛ والفتاوى الهندية 1/194؛ والبحر الرائق 2/194؛ والمبسوط 2/62؛ وبدائع الصنائع 1/320؛ ومعارف السنن 3/306؛ وحاشية مراقي الفلاح ص405؛ وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص335.

3 انظر تبيين الحقائق للزيلعي 1/264؛ وفتح القدير 2/141؛ وفتح الملهم 2/506؛ وروح المعاني 15/237.

4 كره أبو يوسف الكتابة على القبر. انظر بدائع الصنائع 1/320؛ وتحفة الفقهاء 2/256؛ وتبيين الحقائق 1/264؛ حاشية مراقي الفلاح 405.

ص: 263

عليها 1، واتخاذها مساجد 2، إسراجها 3، واستقبالها للدعاء 4.

قال محمد محيي الدين بن محمد الكندهلوي الحنفي: "وأما اتخاذ المساجد عليها فلما فيه من الشبه باليهود باتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم، ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعبدة الأصنام

وأما اتخاذ السُرُج عليها، فمع ما فيه من إسراف في ماله المنهي عنه بقوله تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} "سورة الإسراء: الآية27".

ففيه تشبه باليهود، فإنهم كانوا يسرجون المصابيح على قبور كبرائهم وتعظيم للقبور واشتغال بما لا يعنيه

" 5.

وقال الألوسي الحنفي: "ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك

وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإبداع

1 كره الإمام أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلَّم بعلامة.

انظر بدائع الصنائع 1/320؛ وتحفة الفقهاء 2/256؛ والمتانة 1/320؛ والمتانة ص301؛ وفتح الملهم 2/121، 122، ومعارف السنن 3/305، 307؛ وحاشية الطحطاوي على مراقي الفرح ص335.

2 انظر تبيين الحقائق 1/264؛ وروح المعاني 15/237؛ والمرقاة في شرح المشكاة 2/202، والكوكب الدري 1/316، 317.

3 الكوكب الدري 1/317.

4 كره أبو حنيفة استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقت الدعاء.

انظر كتاب التوسل والوسيلة ص293؛ وروح المعاني 6/125؛ ومجمع الأنهر في شرح ملقتى الأبحر 1/313.

5 الكوكب الدري 1/316-317.

ص: 264

دين لم يأذن به الله عز وجل

ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل قبر على وجه الأرض

والوقوف على أفعالهم في زياراتهم له، والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام.

فتتبع ذاك وتأمل وما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك

" 1.

هذا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن هذه الأمور، فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون بخمس، وهو يقول:"إني أبرأ إلى الله أن يكون لبي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك"2.

وروى عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه"3.

1 روح المعاني 15/239-240.

2 أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد 1/377، 378 ح532.

3 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز من صحيحه باب النهي عن تجصيص القبر 2/667 ح970.

وأبو داود: كتاب الجنائز باب في البناء على القبر 3/552 ح3225.

والترمذي: كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية تحصيص القبور والكتابة عليها 3/359 ح1052.

وابن ماجه: كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور =

ص: 265

وروي عن أبي الهياج الأسدي 1 قال: " قال علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سوّيته"2.

وروى البخاري ومسلم عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق 3 يطرح خميصة 4 له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه. فقال، وهو كذلك:"لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا 5.

= وتجصيصها والكتابة عليها 1/498 ح1562.

والنسائي: كتاب الجنائز باب الزيادة على القبر 4/86 ح2027.

جميعهم من طرق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله.

1 هو حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي. قال عنه ابن حجر: "ثقة من الثالثة".

تقريب التهذيب 1/208؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 3/67.

2 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز من صحيحه باب الأمر بتسوية القبر 2/666 ح969.

والترمذي: كتاب الجنائز باب ما جاء في تسوية القبور 3/357 ح1049.

والنسائي: كتاب الجنائز باب تسوية القبور إذا رفعت 4/88 ح2031.

جميعهم من طريق أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي.

3 طفق: يقال طفق يفعل كذا أبي جعل يفعل. الصحاح 4/1517.

4 خميصة: الخميصة كساء له أعلام، انظر النهاية 2/80-81 وغريب الحديث لابن سلام 1/266، 227.

5 أخرجه البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه باب 55، 1/532 ح436.

ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه باب النهي عن بناء المساجد واتخاذ صور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد 1/3787 ح531.

كلاهما من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة وابن عباس.

ص: 266

‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

التوسل إلى الشيء في عرف أهل اللسان: هو التقرب إليه، واستعمال السبب الموصل إليه، وهو الوسيلة.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".

قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "الوسيلة هي الفعيلة من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه

وقوله: وابتغوا إليه الوسيلة يقول: واطلبوا القرب إليه بالعمل بما يرضيه" 1.

وقال الجوهري: "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل

"2.

1 انظر جامع البيان 6/226، ط الحلبي.

2 الصحاح 5/1841.

ص: 267

أما التوسل في الشرع فهو خاص بالتقرب إلى الله تعالى.

ويقسم العلماء التوسل إلى الله إلى قسمين:

أولا ـ توسل مشروع.

ثانيا ـ توسل ممنوع.

فالتوسل المشروع ما قام عليه دليل من الشرع وهو ثلاثة أنواع:

"أ" التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا:

وصفته أن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي.

ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

ومن السنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" 1.

1 أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة باب الدعاء 2/167، 168 ح1495.

بنحوه والنسائي: كتاب السهو باب الدعاء بعد الذكر 3/52 ح1300.

وابن حبان كما في موارد الظمآن ص592 ح2382، والحاكم في المستدرك 1/503، 504، جميعهم من طرق حفص عن أنس وابن ماجه: كتاب الدعاء باب اسم الله الأعظم 2/1268 ح3858 من طريق أنس بن سيرين عن أنس بن مالك. =

ص: 268

ويوجد في كلام أبي حنيفة ذكر هذا النوع من التوسل كما في قوله: "ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180"1.

أما النوعان الآخران للتوسل المشروع فلم أقف له على قول فيهما.

"ب" التوسل بالعمل الصالح:

وصفته كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي.

ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".

وقوله جلّ وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} "سورة الإسراء: الآية57".

وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "سورة آل عمران:16".

ومن السنة: قصة أصحاب الغار الثابتة في الصحيحين فقد توسلوا بأعمالهم الصالحة فتوسل أحدهم ببره لوالديه، والآخر

= قال الحاكم عن هذا الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.

1 الدر المختار مع حاشية رد المحتار 6/396، 397.

ص: 269

بعفته عن الفاحشة، والثالث بإحسانه إلى أجير كان عنده 1.

"ج" التوسل بدعاء الصالحين:

ودليل مشروعيته ما ورد في صحيح مسلم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: "قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، فقالت: فادع الله لنا بخير. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به، آمين، ولك بمثل" 2.

وقد كان الصحابة يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومنه قول الأعرابي حين أصابت سَنَة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا

" 3.

1 أخرجه البخاري: كتاب البيوع باب إذا اشترى أشياء لغيره بغير إذنه فرضي 4/408 ح2215.

ومسلم: كتاب الذكر والدعاء باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال 4/2099 ح2743.

كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.

وأحمد في المسند 2/116 من طريق سالم بن عبد الله عن ابن عمر.

2 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب 4/2094 ح2733.

وابن ماجه: كتاب المناسك باب فضل دعاء الحاج 2/967 ح2895 كلاهما من طريق أبي الزبير عن صفوان بن عبد الله بن صفوان.

3 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة 2/507 ح1014=

ص: 270

فالصحابة توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم بعد وفاته توسلوا بدعاء عمه العباس، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال فيُسقَون"1.

فالصحابة عدلوا عن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء العباس، فدل على أن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع بموته، فلو كان التوسل بالرسول بعد موته جائزا لما عدل الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس، وهذا من الوضوح بحيث لا يخفى على ذي لب.

أما التوسل الممنوع:

فهو ما لا دليل عليه من كتاب أو سنة، وهو ثلاثة أنواع:

1-

التوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهو نوعان:

"أ" أن يدعو المتوسَّل به:

ذلك بأن يدعوه، ويستغيث به، ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله ولو يجعله واسطة فيما يطلبه من الله. وهذا النوع من التوسل هو من الشرك الأكبر لأنه دعاء لغير الله، والتجاء إليه في المهمات وهو من صرف العبادة

= ومسلم: كتاب الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء 2/612 ح897 كلاهما من طريق شريك عن أنس بن مالك.

1 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا 2/494 ح1010.

وابن سعد في الطبقات الكبرى 4/28، 29.

كلاهما من طريق ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك.

ص: 271

لغير الله، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} "سورة المؤمنون: الآية117".

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} "سورة الأحقاف: الآية 5".

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء يجتلبون المنافع ويجتنبون المضار"1.

فلم يأمرنا الله أن نستغيث بالصالحين من عباده أو ندعو أنبياءه حتى تستجاب لنا المسألة، بل قال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "سورة غافر: الآية60".

فأمر بدعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدنا بالإجابة، وتوعد من استكبر عنها بالعذاب والإهانة 2.

"ب" التوسل بالذات في دعاء الله:

هو أن يجعل ذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره وسيلة في دعاء الله كأن يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم".

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء

1 مجموع الفتاوى 1/123-124.

2 انظر تفسير كلام المنان 6/540 بتصرف.

ص: 272

كثير من الناس. لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى

وحديث الأعمى لا جحة لهم فيه؛ فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم، لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم،

وهذا التوسل بالأنبياء ـ بمعنى السؤال بهم ـ هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز، وليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك فضلا عن أن يجعل هذا من مسائل السبب؛ فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوّز التوسل بمعنى الإقسام به أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك" 1.

وقال: "قد نُقل في منسك المروزي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قد يخرج

على إحدى روايتين في جواز القسم به ومعظم العلماء على النهي في الأمرين.." 2.

قلت: اتفق العلماء على أن اليمين بالحلف بمخلوق لا تنعقد إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عند الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه في ذلك روايتين في انعقاد اليمين به 3، والذي عليه الجمهور 4 ـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى ـ أنه لا تنعقد اليمين به عليه الصلاة والسلام

1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص114-117.

2 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص275.

3 انظر المغني 9/513، 514؛ والكافي 4/379؛ والشرح الكبير 6/78؛ وفتح الباري 11/534؛ وطرح التثريب 7/146.

4 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص273.

ص: 273

كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح. وفي هذا يقول ابن قدامة 1:

لأنه حلف بغير الله فلم يوجب كفارة كسائر الأنبياء، ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه، لعدم الشبه وانتفاء المماثلة" 2.

2-

التوسل إلى الله تعالى بحق فلان أو جاهه ونحو هذا: منع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا التوسل، وصفته أن يقول المسلم في دعائه:"اللهم إني أسألك بحق فلان عليك أو بجاهه عندك أن تغفر لي".

قال أبو حنيفة 3: "يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام".

وقال بشير بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك 4،

1 هو عبد الله بن أحمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي.

قال عنه الذهبي: "الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام" مات سنة 626هـ.

سير أعلام النبلاء 22/165-173؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 5/88-92؛ وذيل طبقات الحنابلة 2/133-1498.

2 المغني 9/514.

3 العقيدة الطحاوية ص234؛ وإتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص198.

4 كره الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يقول الرجل في دعائه"اللهم إني =

ص: 274

أو بحق خلقك"1.

وقال أبو يوسف: "وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام"2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:

أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذي يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى

بخلاف المخلوق فإن إقسامه

= أسألك بمعقد العز من عرشك".

لعدم وجود النص في الإذن به، وأما أبو يوسف فقد جوز لوقوفه على نص من السنة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه:"اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدِّك الأعلى وكلماتك التامة".

وهذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير كما في البناية 9/382، ونصب الراية 4/272، 273.

وفي إسناده ثلاثة أمور قادحة:

1-

عدم سماع داود بن أبي عاصم من ابن مسعود.

2-

عبد الملك بن جريج مدلس ويرسل.

3-

عمر بن هارون متهم بالكذب.

من أجل هذا قال ابن الجوزي كما في البناية 9/382 "هذا حديث موضوع بلا شك وإسناده محبط كما ترى".

انظر تهذيب التهذيب 3/189، 6/405، 7/501؛ وتقريب التهذيب 1/520.

1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر شرح الفقه الأكبر ص198.

2 إتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص234.

ص: 275

بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"1.

وأما الثاني: وهو السؤال المعظَّم كالسؤال بحق الأنبياء، فهذا فيه نزاع وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز، ومن الناس من يجوّز ذلك" 2.

قلت: من هؤلاء: العز بن عبد السلام حيث قال: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: "قل: اللهم إني أقسم عليك بمحمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة".

وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيها على درجته ومرتبته" 3.

قلت: لفظ الحديث هو: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ" 4.

1 تقدم تخريجه ص259.

2 التوسل والوسيلة ص83، 99.

3 فتاوى العز بن عبد السلام ص126.

4 أخرجه أحمد في المسند 4/138.

والترمذي: كتاب الدعوات باب 119، 5/569 ح3578، وابن ماجه كتاب إمامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/441 ح1384 والحاكم في المستدرك 1/313. جميعهم من طريق عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف.

ص: 276

وليس فيه "إني أقسم عليك بمحمد"، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في دواوين السنة النبوية.

وهذا الحديث حكم عليه أئمة هذا الشأن بالصحة كالطبراني 1، والبيهقي 2، وشيخ الإسلام 3، والحاكم4، والذهبي 5، والسيوطي 6، والمناوي 7، والألباني 8.

وليس في هذا الحديث متمسّك لمن يرى جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه؛ فإن الحديث صريح في أن الغرض من مجيء هذا الرجل، وهو ضرير البصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس التوسل بذاته أو جاهه، ولو أراد غير ذلك لجلس في بيته ودعا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم:"ادع الله أن يعافيني".

ورد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ".

فتبين مما سبق أن الحديث ليس فيه ما يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته إذ قوله: "بنبيك" على تقدير المضاف أي بدعاء نبيك أو بشفاعته 9.

1 المعجم الصغير 1/184.

2 دلائل النبوة 6/167؛ وانظر التوسل والوسيلة ص187.

3 التوسل والوسيلة ص187.

4 المستدرك 1/313.

5 تلخيص المستدرك 1/313.

6 الجامع الصغير 1/227..

7 فيض الباري 2/124، 125.

8 التوسل أنواعه وأحكامه ص70.

9 التوسل والوسيلة ص259 ط/ السلفية.

ص: 277

3-

الإقسام على الله تعالى بالمتوسَّل به: وهذا التوسل منعه الإمام أبو حنيفة 1 رحمه الله تعالى، وصفته أن يقول المسلم في دعائه:"اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي".

فالقسم والحلف بالله من تعظيمه، وتعظيمه عبادة، وإنما يكون الحلف بالله من تعظيمه مع الصدق وحفظ الإيمان عما يتضمن الاستهانة بالله. وقد تقدم قول الإمام أبي حنيفة:"لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص"2.

ومن صرف هذه العبادة لغير الله فقد أشرك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"3.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت"4.

1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر روح المعاني 6/126.

2 بدائع الصنائع 3/8.

3 أخرجه أحمد في المسند 2/69، 86، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/570 ح3251.

والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1535.

والبيهقي في السنن 10/29.

والحاكم في المستدرك 1/18.

جميعهم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ولفظه عند الترمذي والبيهقي: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". ولفظه عند الحاكم: "من حلف بغير الله فقد كفر".

قال الترمذي على إثره: "هذا حديث حسن".

وقال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد".

وأقره الذهبي في التلخيص.

4 أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذر باب لا تحلفوا بآبائكم 11/530 ح6646، ومسلم: كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله 3/1267 ح1246، والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1534 جميعهم من طريق نافع عن ابن عمر.

ص: 278

فإذا كان الحلف بمخلوق شركا، فكيف بالحلف بالمخلوق على الخالق؟ فالمقصود أن الدعاء عبادة كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 1.

فلا يتوسل إلى الله بشيء إلا ما جعله الله وسيلة فيه كالتوسل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وسائر أنواع التوسل المشروع؛ فالعبادات مبناها على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ووفق شرعه والإخلاص بالنية والقصد، لا على الهوى والابتداع. فالواجب على المسلم أن يتثبت في هذا فلا يعبد الله إلا بما شرع وأمر به وأذن فيه.

وأن يحرص كل الحرص في أن يميز السنة والبدعة، والتوحيد من الشرك، والحق من الباطل، حتى يخلص وينجو من الوقوع فيما ينقض التوحيد.

هذا هو آخر الحديث عن توحيد الألوهية وبه نهاية الفصل الثاني، ويليه الفصل الثالث وهو في توحيد الأسماء والصفات.

1 أخرجه أحمد في المسند 4/267، والبخاري في الأدب المفرد ص249، وأبو داود كتاب الصلاة باب الدعاء 2/161 ح1479، والترمذي: كتاب الدعاء باب ما جاء في فضل الدعاء 5/456 ح3372، وابن ماجه: كتاب الدعاء باب فضل الدعاء 2/1258 ح3828، والحاكم في المستدرك 1/940.

جميعهم من طريق يسيع الكندي الحضرمي عن النعمان بن بشير، قال الترمذي على أثره:"هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

ص: 279

‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:

تمهيد: طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات.

المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات عند الإمام أبي حنيفة إجمالا.

المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها.

المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها.

ص: 281

‌تمهيد

طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات

قبل الحديث عن طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات، يحسن ذكر أمور لا بد في هذا المقام من معرفتها:

أولا ـ معنى توحيد الأسماء والصفات

هو اعتقاد انفراد الله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة، كالإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، وأنه على العرش استوى، وهو مع عباده أينما كانوا، هذا مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله 1.

وهذا التوحيد أجلُّ المعارف لأنه معرفة بالله بأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تبنى العبادة. فإذا لم يعرف العبد ربه فكيف يعبده؟ كيف يعبد إلها يجهله؟ لذا استفاضت الأدلة بذكره والتنويه به؛ لأنه كلما كان الأمر مهما كثر إيضاحه وبيانه.

1 انظر بتصرف تيسير العزيز الحميد ص34، 35؛ والكواشف الجلية ص417، 418.

ص: 283

ثانيا ـ ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات

يقدح في هذا التوحيد خمسة أمور كلها من ضروب الإلحاد في أسمائه الذي ذمه الله وأهله في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

وهذه القوادح هي التشبيه، والتعطيل وتسميته، ووصفه بما لا يليق به. قال ابن القيم:

الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع:

أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الآلهة والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها" الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة.

وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: يد الله مغلولة وأمثال ذلك.

رابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني.

خامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا1.

1 بدائع الفوائد 1/169، 170.

ص: 284

ثالثا ـ مذاهب الناس في الأسماء والصفات

الناس في باب الأسماء والصفات على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول ـ المعطلة:

وهم الذين عطلوا الرب عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات. والتعطيل على ثلاث مراتب، ذكرها شيخ الإسلام في التدمرية وهي:

"1- وصف الله بسلب النقيضين وهو مذهب غلاة المعطلة؛ فإنهم يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت لأننا لو وصفناه بالإثبات لشبهناه بالمخلوقات، ولو وصفناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات.

2-

وصف الله بالسلب والإضافة دون صفات الإثبات، وهو مذهب المعطلة من الفلاسفة والجهمية، وهؤلاء كلهم ينفون الأسماء والصفات.

3-

إثبات الأسماء دون الصفات، وهو مذهب المعتزلة ومن تعبهم" 1.

والمعطلة قسمان:

أهل تأويل، وأهل تجهيل.

أما أهل التأويل: فهم الذين يصرفون معاني نصوص الكتاب والسنة عن معانيها الظاهرة بغير حجة وهذا هو التحريف بعينه 2.

أما أهل التجهيل: فهم الذين ينكرون معاني الأسماء والصفات، ويثبتون ألفاظا لا معاني لها3.

1 مجموع الفتاوى 3/7، 8. بتصرف.

2 درء تعارض العقل والنقل 1/8، 9.

3 مختصر الصواعق ص54.

ص: 285

الصنف الثاني ـ المشبهة:

وهم الذين يشبهون صفات الله بصفات المخلوقين، كقول بعضهم: لله سمع كسمعي وبصر كبصري.

قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون تشبيه إذا قال: يدٌ كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فهذا هو التشبيه"1.

وقال ابن تيمية: "من قال: علم كعلمي أو قوة كقوتي أو حب كحبي أو رضاء كرضائي أو يدان كيديّ أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات"2.

ومن التشبيه التعرض لكيفية صفات الرب وحقيقتها التي لا يعلمها إلا الله 3.

قال ابن القيم عن إلحاد المشبهة: "فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم إلحاد وتفرقت بهم طرقه"4.

الصنف الثالث ـ المؤمنون الموحدون:

وهم الذين يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله

1 جامع الترمذي 3/50، 51..

2 مجموع الفتاوى 3/16.

3 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص4 بتصرف.

4 بدائع الفوائد 1/170.

ص: 286

قال الصابوني: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة

يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيُه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله منها ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعتقدون فيها تشبيها لصفاته بصفات خلقه..ولا يحرفون كلاما عن مواضعه، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعليل والتشبيه، واتبعوا قول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11"

" 1.

وبعد هذا العرض لمذاهب الناس في الأسماء والصفات إجمالا، نتناول مذهب السلف في ذلك بشيء من التفصيل.

رابعا ـ طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات

1-

طريقتهم في الإثبات:

الإثبات عندهم هو إثبات بلا تشبيه وبيان ذلك في الآتي:

"أ" الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات:

يجب الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة.

قال ابن خزيمة: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى

1 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص3، 4.

ص: 287

عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه صلى الله عليه وسلم مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف" 1.

وقال أبو بكر الإسماعيلي 2: "اعلموا رحمني الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله وصحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا معدل عما ورد به، ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضمونا لهم الهدى فيهما مشهودا لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم، ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم

" 3.

فجميع نصوص الأسماء والصفات يقرونها صريحة على ظواهرها كما أتت، ويسلمون لما تقتضيه تلك الصفات من كمالات تليق بالله، من غير تحريف ولا تكييف.

فكل ما نص عليه كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به. فمن أنكر أو ألحد فإنه يخشى عليه الكفر بعد ثبوت الحجة عليه كما قال الشافعي: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها،

1 ذم التأويل لابن قدامة ص140 ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.

2 هو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الجرجاني أبو بكر. قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام" مات سنة 371هـ.

تذكرة الحفاظ 3/947. وانظر ترجمته في طبقات الشافعية 3/7.

3 ذم التأويل لابن قدامة ص139، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.

ص: 288

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل" 1.

"ب" أن أسماء الله عز وجل وصفاته كلها عندهم توقيفية:

فلا يطلقون على الله شيئا منها إلا بإذن من الشرع، فما ورد من الشرع وجب إطلاقه، وما لم يرد به فلا يصح إطلاقه، قال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي 2:"لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن"3.

وقال السجزي: "قد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف

ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم" 4.

وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون وحي الله.

"ج" إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية:

سئل الإمام مالك عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "سورة طه: الآية5".

1 ذم التأويل ص143.

2 هو عبد الرحمن بن قاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم المهملة وفتح المثناة أبو عبد الله البصري. قال عنه ابن حجر: "الفقيه صاحب مالك ثقة من كبار العاشرة". مات سنة إحدى وتسعين ومائة تقريبا. تقريب التهذيب 1/495؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 6/252.

3 أصول السنة لابن أبي زمنين 1/212.

4 كتاب الحرف والصوت ص139.

ص: 289

كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"1.

فبين أن الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيفية. وهكذا بقية الصفات يقال فيها ما قيل في الاستواء.

قال أبو سليمان الخطابي: "فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته؛ إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف"2.

وقال الحافظ أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات

وعلى هذا مضى السلف كلهم" 3.

وقال السجزي: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير يخالف الظاهر، فهي على ما يعقلونه"4.

وقال السرخسي الحنفي 5: "وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ـ أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية ـ وتوقفوا

1 تقدم تخريج هذا الأثر ص25.

2 الأربعين في صفات رب العالمين ص117؛ والعلو ص173، كلاهما للذهبي.

3 الحجة في بيان المحجة ص34.

4 الحرف والصوت ص183.

5 هو أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي نسبة إلى سرخس بفتح السين والراء بلد بخراسان، قال عنه القرشي:"كان إماما علامة حجة متكلما فقيها أصوليا" مات سنة 490هـ، انظر الجواهر المضية 3/78؛ والفوائد البهية ص158.

ص: 290

فيما هو المتشابه وهو الكيفية، ولم يجوزا الاشتغال في طلب ذلك" 1.

وقال البزدوي الحنفي 2: "إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة"3.

"د" الإثبات عندهم يكون على وجه التفصيل:

وهذه هي طريقة القرآن، فالإثبات للصفات في كتاب الله يكون مفصلا، والنفي يكون مجملا.4

ومن شواهد الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "سورة الحشر: الآيتان 23-24".

والمراد بالتفصيل:

التعيين والتخصيص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوصا عليها، لا مجملة في لفظ عام، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

1 شرح الفقه الأكبر ص60.

2 سيأتي التعريف به في ص299.

3 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعلي الدين البخاري 1/60، 61.

4 شرح العقيدة الطحاوية ص53.

ص: 291

"هـ" صفات الله كلها كاملة عندهم:

ما ورد في الكتاب والسنة وصفا لله تعالى إنما هو عندهم من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، ولو لم يتصف بها للزم النقص في حقه تعالى وتقدّس. ومما يدل على هذا أن الله تعالى ذكر أن الأصنام لا توصف بالكلام، ولا بالنطق، ولا بالنفع، ولا بالضر، وهذا دليل على عدم إلهيتها. وإذا كان كذلك فهذه الصفات صفات كمال، والفاقد لها لا يستحق أن يكون متصفا بالألوهية.

قال تعالى عمن عبد العجل من دونه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} "سورة الأعراف: الآية148".

وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} "سورة طه: الآيتان88-89".

"و" وأسماء الله كلها حسنى عندهم:

أسماء الله جميعها حسنى؛ لأنها دالة على صفات كمال عظيمة، ولو كانت أعلاما محضة لم تكن حسنى1، لذلك أمر الله عباده أن يدعوه بها لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها 2.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

1 انظر مجموع الفتاوى 3/8.

2 انظر تيسير كلام المنان 3/120، 121. 5/145.

ص: 292

فكل اسم من أسماء الله دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، ودلالة الأسماء على الذات والصفة تكون بالمطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله، وبالتضمن إذا فسرناه ببعض مدلوله، وبالالتزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم، مثال ذلك الرحمن، دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمن لأنها داخلة في الضمن، ودلالة الأسماء التي لا توجد إلا بثبوتها كالحياة والعلم والقدرة ونحوها دلالة التزام1.

فالمقصود أن أسماء الله أعلام وأوصاف دالة على معانيها، وكلها أوصاف مدح وثناء.

2-

طريقتهم في التنزيه:

التنزيه الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف هذه الأمة هو تنزيه بلا تعطيل، لما أثبت الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة من التنزيه في شيء 2 بل هو عين التنقص.

1 انظر بدائع الفوائد1/162 بتصرف.

2 خالف المتكلمون السلف في مفهوم التنزيه حيث جعلوه معولا لهدم بنيان صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة. وأول من أدخل النفي في التنزيه هم الجهمية فقد نقل عنهم الإمام أحمد أن توحيدهم غالبه سلوب وتابعهم بعد ذلك المعتزلة فقد نقل عنهم الأشعري في المقالات أنهم أجمعوا على:

"أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبه ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا == بذي يمين وشمال وأمام وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه الزمان ولا يجوز عليه الماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق. فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شاركهم هذه الجملة الخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الشيعة.

قال ابن أبي العزَّ الحنفي في بيان فساد هذه الأمة: " والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات ولا يتدبرون معانيها ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده

والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب ليس بكذا ليس بكذا وأما الإثبات فهو قليل وهو أنه عالم قادر حي وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتي الذات فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".

ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله".

انظر كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد ص105؛ مقالات الإسلاميين ص155؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص54؛ وراجع أيضا مجموع الفتاوى 11/483، 484.

ص: 293

والنوم والذل والسفه والنسيان والغفلة والحاجة والتعب واللغوب، أو كان منفصلا؛ كالشريك والظهير والشفيع بدون إذنه والولد والوالد واتخاذ صاحبة والكفؤ والند والولي من الذل.

قال ابن القيم:

توحيدهم نوعان قولي وفعلي

كلا نوعيه ذو برهان

فالأول القولي ذو نوعين أيضا

في كتاب الله موجودان

إحداهما سلب وذا نوعان

أيضا فيه مذكوران

سلب النقائص والعيوب جميعها

عنه هما نوعان معقولان

سلب لمتصل ومنفصل هما

نوعان معروفان أما الثاني

سلب الشريك مع الظهير مع

الشفيع بدون إذن المالك الديان

وكذاك سلب الزوج والولد الذي

نسبوه إليه عابدو الصلبان

وكذاك نفي الكفء أيضا والولي

ما سوى الرحمن للغفران

والأول التنزيه للرحمن عن

وصف العيوب وكل ذي نقصان

كالموت والإعياء والتعب الذي

ينفي اقتدار الخالق المنان

والنوم والسِّنَة التي هي أصله

وعزوب شيء عنه في الأكوان

إلى أن قال:

وكذاك ظلم عباده وهو الغني

فما له والظلم للإنسان

وكذاك غفلته تعالى وهو علام

الغيوب فظاهر البطلان

وكذلك النسيان جل إلهنا

لا يعتريه قط من نسيان

وكذاك حاجته إلى طعام ورز

قٍ وهو رازق بلا حسبان

هذا وثاني نوعي السلب الذي

هو أول الأنواع في الأوزان

تنزيه أوصاف الكمال له

عن التشبيه والتمثيل والنكران

ص: 295

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا

إن المشبه عابد الأوثان 1

"ب" النفي عندهم مجمل:

تقدّم أن الإثبات عند السلف يكون إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. أما النفي فهو مجمل عندهم كما في القرآن الكريم.

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".

وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "سورة الإخلاص: الآية4".

والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل: هو الذي لا يتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة، فقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، هو نفي مجمل لأنه نفي للمماثلة في جميع الصفات، فلم يقل ليس كمثله شيء في علمه أو في قدرته أو في سمعه أو في بصر. وما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب؛ وإلا فإنه قد يأتي النفي مفصلا، كما قد يأتي الإثبات مجملا. فالأول، كقوله تعالى:{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".

وقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".

والثاني كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "سورة الفاتحة: الآية2".

1 القصيدة النونية المعروفة بالكافية الشافية ص145.

ص: 296

"ج" لا يصفون الله بالنفي المحض:

ومع نفيهم عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فهم يثبتون ضد الصفات المنفية، كقوله تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".

فهم يثبتون كمال عدله.

وكقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} "سورة سبأ: الآية3".

فهم يثبتون كمال علمه.

وكقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} "سورة ق: الآية38".

فهم يثبتون كمال قدرته.

وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".

فهم يثبتون كمال حياته وقيّوميته، لأن النفي الصرف عندهم لا مدح فيه ولا كمال لأنه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء 1.

1 انظر الرسالة التدمرية ص57، وشرح العقيدة الطحاوية ص52.

ص: 297

‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

"أ" يثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما أثبت الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، يدل على هذا قوله: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه.

ونصفه كما وصف نفسه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، حي قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيدهم، ليست كأيدي خلقه، ووجه ليس كوجوه خلقه" 1.

وقوله: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن، من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أونعمته؛ لأن فيه إبطالَ الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال

" 2.

1 الفقه الأبسط ص56.

2 الفقه الأكبر ص302.

ص: 298

قال البزدوي 1: "العلم نوعان علم التوحيد والصفات، وعلم الشرائع والأحكام، والأصل في النوع الأول هو التمسُّك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنة والجماعة، وهو الذي عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعامة أصحابهم. وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر، وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله"2.

"ب" الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتمد على الرأي والمقايسات العقلية في إثبات الصفات بل يثبت الصفات بالكتاب والسنة، يدل على هذا قوله:"لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين"3.

فصفات الله لا تعلم بالعقل فقط بل لا تعلم على التفصيل إلا بالوحي؛ فإنها من الغيب، والعقل قاصر وعاجز عن معرفة الغيب على التفصيل، بل العقول عاجزة عن تكييف صفات الرب سبحانه وتعالى؛ لأن الشيء إنما تعرف كيفيته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، والله تعالى لا نظير له. وإذا كانت عاجزة عن تكييف بعض المخلوقات كالروح

1 هو علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي نسبة إلى بزدة قلعة حصينة على ستة فراسخ من نسف.

قال عنه ياقوت: "الفقيه بما وراء النهر صاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة. روى عنه صاحبه أبو المعلى محمد بن نصر بن منصور المديني الخطيب وابنه القاضي أبو ثابت الحسن بن البزدوي" مات سنة 488هـ، معجم البلدان 1/409؛ والجواهر المضية 2/594.

2 أصول البزدوي ص3، كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/7، 8.

3 شرح العقيدة الطحاوية 2/427 تحقيق د. التركي وجلاء العينين ص368.

ص: 299

والجنة 1 وغيرها من المغيبات، فهي عن التكييف لذات الرب وصفاته أعجز. وفي هذا يقول الشافعي:"حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحد، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمَّق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم"2.

وقال ابن عبد البر: "لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة، وهم أهل الفقه والحديث في نفي القياس في التوحيد، وإثباته في الأحكام"3.

"ج" الصفات عند الإمام أبي حنيفة معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وليس عنده التفويض المطلق، دلّ على ذلك قوله لما سئل عن النزول الإلهي قال:"ينزل بلا كيف"4.

قال الملاّ علي القاري بعد ذكره قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول

": "اختاره إمامنا الأعظم وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات من ذكر اليد والعين والوجه ونحوها من الصفات. فمعاني الصفات كلها معلومة وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقل الكيف فرع العلم لكيفية الذات وكنهها. فإذا كان ذلك غير معلوم؛ فكيف يعقل لهم

1 الرسالة التدمرية ص46، 47، 50-57، والحموية ص110، 112، ومجموع الفتاوى 3/28، 30-34، 5/115، 116.

2 ذم التأويل ص143، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية رقم 3.

3 جامع بيان العلم وفضله ص74.

4 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص42، ط، دار السلفية، والأسماء والصفات للبيهقي ص456، وسكت عليه الكوثري، وشرح الطحاوية ص245، تخريج الألباني، وشرح الفقه الأكبر للقاري ص60.

ص: 300

كيفية الصفات، والعصمة النافعة من هذا الباب أن يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات، وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه، ونفيك منزها عن التعطيل. فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبّهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبّه، ومن قال الاستواء ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزِّه" 1.

"د" الإمساك عن التأويل مطلقا:

طريقة الإمام أبي حنيفة في الصفات، الإمساك عن التأويل مطلقا لأنه يفضي إلى إبطال الصفة وتعطيل معناها اللائق بالله. دل على ذلك قوله:"ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال صفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال"2.

وقال: "وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوباه"3.

والإمساك عن تأويل النصوص بما يخالف ظاهرها هو طريقة الأئمة، كما هي طريقة الإمام أبي حنيفة. قال الألوسي الحنفي: "أنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا مع نفي التشبيه والتجسيم 4. منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك،

1 مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8/251 طبع ملتان.

2 الفقه الأكبر ص302..

3 الفقه الأبسط ص56، وسكت عليه محقق الكتاب الكوثري.

4 التجسيم: من الألفاظ المجملة المحدثة التي أحدثها أهل الكلام، فلم ترد في الكتاب والسنة ولم تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، انظر مجموع الفتاوى 3/306، ومنهاج السنة 2/135.

ص: 301

والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، وسعد بن معاذ المروزي، وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني

" 1.

"هـ" نفي التشبيه مطلقا وإثبات الصفات مع نفي التشبيه ليس من التشبيه في شيء عند الإمام أبي حنيفة:

نفى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مشابهة الله بخلقه مطلقا، فلا يماثله شيء ومع ذلك أثبت الصفات، دل على ذلك قوله: " ولا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته

" 2.

وقال: "وصفاته بخلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويتكلم لا ككلامنا

" 3.

وقال كذلك: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين"4.

وقرر الطحاوي هذا في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولا يشبه الأنام"5.

فهو سبحانه ليس كمثله شيء ولا تضرب له الأمثال ولا كفء له.

1 روح المعاني 6/156.

2 الفقه الأكبر 301.

3 الفقه الأكبر ص302.

4 الفقه الأبسط ص56.

5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص19.

ص: 302

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11"

".

وقال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} "سورة النحل: الآية74".

وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "سورة الإخلاص: الآية4".

فكل ما ثبت لله من صفات الكمال فهي مختصة به وحده، لا يشركه فيها أحد، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد كفر.

قال نعيم بن حماد: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها"1.

وقال إسحاق بن راهويه: "من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم"2.

وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة وصاحباه. دل على ذلك ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر"3. والمبتدعة تسمي من أثبت لله صفات الكمال التي لا يشترك معه فيها أحد مشبها ومجسما، وفي ذلك يقول القونوي الحنفي: "قال كثير من أئمة السلف علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد نفى

1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/532.

2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/532.

3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني 25.

ص: 303

شيئا من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبها، حتى بعض المفسرين كعبد الجبار والزمخشري وغيرهما من المعتزلة والرافضة يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات أو قال برؤية الذات مشبها. والمشهور عند الجمهور من أهل السنة والجماعة أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، بل يريدون أنه سبحانه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله كما بيّنه الإمام بيانا شافيا" 1.

فالمثبت لصفات الكمال التي لا يشترك فيها مع الله أحد ليس مشبها ولا مجسما، بل المشبه من اعتقد أن صفات الله من جنس صفات المخلوقين.

قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون تشبيه إذا قال: يدٌ كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه. وأما إذا قال كما قال لله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها. وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11"

" 2.

وقال الترمذي: "قال أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف؟..هكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه"3.

1 شرح الفقه الأكبر للقاري ص24، 25.

2 سنن الترمذي 3/42.

3 سنن الترمذي 3/41، 42، وانظر 5/251.

ص: 304

فتبين لنا من نصوص الإمام أبي حنيفة المتقدمة أنه يثبت الصفات التي وردت في الكتاب والسنة بدون تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. وإثبات الصفات عنده على هذه الطريقة ليس من التشبيه في شيء. هذا هو ما عليه السلف الصالح، أما ما عدا ذلك فهو من بدع المعطلة والمشبهة.

"و" تقسم الصفات:

أئمة أهل السنة يرون1 أن صفات الله تنقسم إلى قسمين:

أولا ـ صفات ذاتية:

وهي الملازمة للذات الإلهية أزلا وأبدا ولا تتعلق بها المشيئة 2، كالحياة والعلم والسمع والبصر.

ثانيا ـ صفات فعلية:

وهي التي تتعلق بقدرته في كل وقت وأن تحدث بمشيئته، كالنزول والاستواء والإحياء والإماتة والرضا والغضب 3.

وهذا التقسيم ذهب إليه الإمام أبو حنيفة. دل على هذا قوله:

1 انظر الأسماء والصفات ص110، والاعتقاد ص70-72ن كلاهما للبيهقي، ومجموع الفتاوى 6/99، 6/268، واجتماع الجيوش الإسلامية 300، والعلو للذهبي ص174، وممن ذهب إلى هذا التقسيم من المتكلمين أبو الهذيل العلاف من المعتزلة والباقلاني من الأشاعرة. انظر مقالات الإسلاميين 1/1654، والتمهيد للباقلاني ص262، وكذا قسّم بعض أهل السنة الصفات إلى قسمين سمعية وعقلية يظهر من كلام الإمام أحمد وابن كلاب وعبد العزيز المكي كما صرح بذلك شيخ الإٌسلام في كتاب التدمرية ص149، 150.

2 انظر التمهيد للباقلاني ص262؛ ومجموع الفتاوى 5/99، واجتماع الجيوش الإسلامية ص300، والعلو للذهبي ص174.

3 انظر مجموع الفتاوى 6/628، 6/172 ومجموعة الرسائل والمسائل 1/369، وشرح العقيدة الواسطية لهراس ص98، 99 بتصرف.

ص: 305

"وصفاته الذاتية والفعلية: أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته"1.

وقال كذلك: "ولم يزل فاعلا بفعله، والفعل صفة في الأزل، والفاعل هو الله تعالى، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق وفعل الله تعالى غير مخلوق"2.

وواضح من هذا أن الإمام أبا حنيفة لا يفرق بين الصفات الذاتية والفعلية بل يثبتها كلها لله تعالى ويثبت قيامها به سبحانه. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فلا يفرقون بين بعض الصفات وبعض، بل يثبتون كل ما أثبت الله لنفسه وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف أهل البدعة الذين يفرقون بين الصفات.

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} "سورة آل عمران: الآية7".

1 الفقه الأكبر ص301.

2 الفقه الأكبر ص301.

ص: 306

‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

أولا ـ الصفات الذاتية

1-

العلو:

الإمام أبو حنيفة رحمه الله يعتقد أن الله في السماء. دل على هذا قوله: "من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض"1.

وقال للمرأة التي سألته أين إلهك الذي تعبده؟ قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} "سورة الحديد: الآية4".

قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 2.

1 الفقه الأبسط ص49، ونقل نحو هذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 5/48، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص139، والذهبي في العلو ص1012، 102، وابن قدامة في العلو ص116، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ص301.

2 الأسماء والصفات ص429.

ص: 307

قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عز وجل في السماء"1.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب الأبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه"2.

وما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه هو اعتقاد سائر الأئمة. وقد تضافرت على إثبات صفقة العلو دلالة الفطرة والعقل والشرع. وقد تقدم ذكر استدلال الإمام أبي حنيفة بدليل الفطرة 3، وتنوعت أدلة العلو من الكتاب والسنة أوصلها العلامة ابن القيم إلى عشرين نوعا منها:

1-

التصريح بالفوقية مقرونا بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} "سورة النحل: الآية50".

1 الأسماء والصفات ص439-440.

2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص37.

3 ص239، وفي تقرير دليل الفطرة تفصيلا يقول الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة:"وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات فصار من الأرض إلى السماء إلى العرش فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا من علمه في خلقه لا يخرجون من علمه". انظر كتاب العرش لابن أبي شيبة ص51.

ص: 308

2-

ذكرها مجردة عن الأداة كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} "سورة الأنعام: الآية61".

3-

التصريح بعروج بعض المخلوقات كقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} "سورة المعارج: الآية4".

4-

التصريح بالصعود إليه وبرفعه بعض المخلوقات كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} "سورة النساء: الآية158"، وكقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} "سورة فاطر: الآية10".

5-

التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} "سورة الشورى: الآية4".

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} "سورة سبأ: الآية23".

6-

التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} "سورة غافر: الآية2".

وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "سورة فصلت: الآية2".

7-

التصريح بأنه تعالى في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} "سورة الملك: الآية16".

8-

التصريح بالاستواء مقرونا بأداة "على" مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.

9-

الإشارة إليه إلى العلو حسا كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم

ص: 309

بربه حيث قال: "أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت؟ فرفع أصبعه الكريم إلى السماء قائلا: "اللهم اشهد " 1.

10-

التصريح بلفظ الأين، كقول أعلم الخلق به وأنصحهم في أمته:"أين الله "2.

والقول بالعلو هو اعتقاد الصحابة والتابعين وجميع المسلمين قبل ظهور المبتدعة. قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرين نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة الصحيحة من صفاته"3.

قال ابن تيمية: "وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله عز وجل فوق عرشه، والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك القول"4.

وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية"5. وأقوال السلف في ذلك كثيرة. ولو ذهبت في إيراد أقوالهم لطال بنا المقام، ولكن أحيل القارئ الكريم إلى كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية للعلامة ابن القيم، وكتاب العلو للحافظ الذهبي، فقد نقلا عن أكثر من مائة إمام

1 أخرجه مسلم: كتاب الحج باب صحبة النبي صلى الله عليه وسلم 2/886 ح1218 من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله.

2 تقدم تخريجه ص233.

3 الأسماء والصفات ص408؛ وفتح الباري 13/406.

4 مجموع الفتاوى 5/39.

5 السنة لعبد الله بن أحمد ص13؛ والرد على الجهمية للدارمي ص67؛ والأسماء والصفات ص427.

ص: 310

من أئمة المسلمين كلهم يصرحون بعلو الله واستوائه على عرشه.

هذه هي عقيدة الإمام أبي حنيفة في العلو والفوقية، ولا يلتفت إلى بعض المنتسبين إلى مذهبه ممن أنكر العلو وبقية الصفات أو بعضها، فهم مخالفون في له في كثير من اعتقاداته، قال ابن أبي العز:"فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداتهم، وقد ينسب إلى مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم"1.

هذا وإن اللبيب ليعجب من حشد أنواع الأدلة 2 على قضية كهذه واضحة وضوحا ظاهرا وجلاء بينا، لولا ما تسرب لعقول كثير من المسلمين من شبهات المبتدعة التي أعمت بصائر كثير من الناس وصيرت القضايا البدهية اليقينية نظرية ظنية.

2-

صفة اليدين:

يثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يدين حقيقيتين لله تعالى تليقان به تعالى لا تشبههما أيدي المخلوقين، يدل على هذا قوله:"وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد فهو له صفات بلا كيف"3.

1 شرح العقيدة الطحاوية ص302.

2 الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه كثيرة جدا وقد تتبعها بعض أئمة السنة فوجدوها أكثر من ألف دليل.

انظر الجواب الصحيح 3/84؛ والصواعق المرسلة 4/1279.

3 الفقه الأكبر ص302.

ص: 311

وقال كذلك: "يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه"1.

ولقد ورد إثبات اليدين في عدة مواضع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ففي القرآن جاء في سورة المائدة قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "سورة المائدة: الآية64".

أما في السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} "سورة ص: الآية75".

ضمن كتاب التوحيد، أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة كلها تثبت صفة اليدين لله تعالى منها:

حديث أنس بن مالك مرفوعا في الشفاعة العظمى وفيه: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا إلى ربك

" 2.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك

" 3.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله

1 الفقه الأبسط ص56.

2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/392 ح7410 من طريق قتادة عن أنس.

3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7412 من طريق نافع عن ابن عمر.

ص: 312

ملأى لا يغيضها نفقة سحًّا1 الليل والنهار

" 2.

فهذه النصوص دالة على إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى وهي لا تحتمل التأويل بحال ولا يمكن حمل اليدين إلا على الحقيقة ومن لم يحملها على الحقيقة فهو معطل لتلك الصفة ولقد رد الإمام أبو حنيفة على من لم يحمل النصوص على الحقيقة وتأول صفة اليدين بالقدرة أو النعمة فقال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف"3.

فاليد غير القدرة عند الإمام أبي حنيفة بل هي صفة قائمة بذات الله تعالى تليق به وبجلاله وعظمته.

3-

4- صفتا الوجه والنفس:

أثبت الله لذاته المقدسة صفة الوجه في أربع عشرة 4 آية من آي الذكر الحكيم قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} "سورة الرحمن: الآية27".

وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} "سورة القصص: الآية88".

وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} "سورة الإنسان: الآية9".

وأثبت له الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الوجه في أحاديث معروفة مشهورة، منها

1 سحّا: السح هو الصب الدائم. انظر النهاية 2/345.

2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7411 من طريق الأعرج عن أبي هريرة.

3 الفقه الأكبر ص302.

4 عقيدة المسلمين 2/215.

ص: 313

حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا وفيه: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط 1 ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه 2 النور".

وفي رواية: "لو كشفه لأحرقت سبحات 3 وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"4.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بوجه الله، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال:"لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم "أعوذ بوجهك" فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أيسر" 5.

1 القسط الميزان ويسمى قسطا لأن القسط: العدل وبالميزان يقع العدل.

كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/13.

2 الحجاب في اللغة: المنع والستر، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمِّي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لبشاعتهما. كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/14.

3 السُبُحات: بضم السين والباء ورفع التاء في آخره: جمع سُبحة، ومعنى سبحات عند اللغويين والمحدثين: نوره وجلاله وبهاؤه ـ كذا شرح صحيح مسلم للنووي 3/13-14.

4 أخرجه أحمد في المسند 4/395، 400، 401، 405. ومسلم: كتاب الإيمان باب قوله عليه السلام: إن الله لا ينام 1/161 ح293، والدارمي في الرد على الجهمية ص31، وابن خزيمة في التوحيد ص75، والآجري في الشريعة ص304.

جميعهم من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري.

5 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 13/388 من طريق حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله.

ص: 314

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك "1.

وأثبت الله لذاته المقدسة صفة 2 النفس في غير ما موضع من آي الذكر الحكيم، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة.

فمن تلك الأدلة من القرآن قول الله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} "سورة الأنعام: الآية12".

وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} "سورة آل عمران: الآية28".

وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} "سورة المائدة: الآية116".

وقال أعلم الناس بربه: "أسألك بكل اسم سميت به نفسك.. ."3.

1 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/185 ح24 من طريق قيس بن عباد عن عمار بن ياسر. قال الألباني: "حديث صحيح".

2 عدَّ كثير من أهل السنة "النفس" من صفات الله تعالى. انظر الفقه الأكبر بشرح القاري ص58، وكتاب التوحيد لابن خزيمة 1/11، 12، وأقاويل الثقات ص186، وقطف الثمر ص66، وذهب شيخ الإسلام أن المراد من النفس هو ذات الله وعينه لا صفة له. انظر مجموع الفتاوى 9/192، 193، 4/196، 197، وكذا البخاري فإنه ذكر نصوص "النفس" بدون التصريح أنها صفة، ومراده أنه يجوز إطلاق النفس على الله لورود النص هكذا فسر مراده الهاشمي في شرحه لكتاب التوحيد ص70، وللشيخ عبد الله الغنيمان كلام حسن وفق بين قولي أهل السنة في "النفس". انظر شرحه لكتاب التوحيد 1/249، 255.

3 أخرجه أحمد في المسند 1/391، والطبراني في المعجم الكبير 10/209، 210، وابن حبان كما في موارد الظمآن ص589 كلهم من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود وأورده الهيثمي في المجمع 10/136، قال:"رجال أحمد وأبو يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان".

ص: 315

وقال عليه الصلاة والسلام: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

" 1.

وقال عليه الصلاة والسلام: " لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش ـ إن رحمتي تغلب غضبي"2. فما أثبته الله لذاته المقدسة من الصفات، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وجب إثباته من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.

هذا معتقد أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، يقول ابن خزيمة:"فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، ونقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجوه أحد من المخلوقين، وعزّ ربنا أن نشبّهه بالمخلوقين وجلّ ربنا عما قالت المعطلة"3.

ومن جملة تلك الصفات صفتا الوجه والنفس، فأثبتوهما لله حقيقة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل. وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به. دل على ذلك قوله:"وله يد ووجه ونفس كما ذكر الله في القرآن، فما ذكره الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف"4.

1 أخرجه مسلم: كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود 1/352 ح486 من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة.

2 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/384 ح7404، ومسلم: كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2107 ح2751. كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

3 التوحيد لابن خزيمة ص10، 11.

4 الفقه الأكبر ص302.

ص: 316

5-

6- صفتا السمع والبصر.

الله تعالى له سمع وبصر على ما يليق بجلال الله وعظمته. وهما صفتان حقيقيتان، فكما له ذات حقيقية لا تشبه ذوات الخلق، فله صفات حقيقية لا تشبه صفات الخلق، ولقد ورد إثبات صفة السمع في سبع وخمسين آية، وإثبات صفة البصر في خمسين آية من آيات الذكر الحكيم 1.

ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} "سورة البقرة: الآية127".

وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} "سورة المجادلة: الآية1".

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} "سورة النساء: الآية134".

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".

***

وأما الأدلة من السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} .

ضمن كتاب التوحيد أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة تثبت صفتي السمع والبصر لله تعالى وهي:

1-

حديث أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في

1 عقيدة المسلمين ص482-486.

ص: 317

سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: اربعوا 1 على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا بصيرا قريبا

" 2.

2-

وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك"3.

وهاتان الصفتان من صفات الكمال ونعوت الجلال ألا ترى الخليل عليه السلام كما أخبر الله عنه يوبخ أباه بقوله: {لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} "سورة مريم: الآية42".

وقال تبكيتا لعباد الأصنام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} "سورة الشعراء: الآيتان 72،73".

فدل ذلك على أن المودع في الفطر أن من شأن الإله أن يكون سميعا يجيب من دعاه، بصيرا يرى من يعبده4، فالله لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي، فيسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى كل شيء وإن خفي قريبا أو بعيدا فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار" 5.

1 اربعوا: بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة من ربع ـ الثلاثي ـ أي ارفقوا، ولا تجهدوا أنفسكم. انظر فتح الباري 11/188.

2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7386؛ ومسلم في كتاب الذكر والدعاء باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/2076 ح2704 كلاهما من طريق أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري.

3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7389 من طريق عروة عن عائشة.

4 انظر العقائد السلفية ص63.

5 الكواشف الجلية ص147.

ص: 318

فالمقصود أن الله تعالى له سمع يسمع به، وبصر يبصر به حقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته. هذا ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهذا هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به، دل على ذلك قوله:" ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا"1.

وقال في مقام تبيينه لصفة الكلام: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.

7-

العلم:

أثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، صفة العلم لله عز وجل وأنه عليم بعلم لا يشبه علم المخلوقين دل على ذلك قوله:"يعلم لا كعلمنا"3.

وعلم الله شامل جميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها. يعلم كليات وجزئيات الأمور، وعلمه محيط بجميع الأشياء في كل الأوقات، أزلا وأبدا فقد علم تعالى في الأزل جميع ما هو خالق، وعلم جميع أحوال خلقه وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، شقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار. وفي ذلك يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مبينا سعة علم الله وإحاطته لكل شيء: "يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه، ومعدوما يعلم أنه كيف يكون إذا أوجده، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما، وإذا قعد علمه قاعدا

1 الفقه الأكبر ص302.

2 الفقه الأكبر ص302. مقتبسا من القرآن الكريم سورة الشورى، الآية 11.

3 الفقه الأكبر ص301.

ص: 319

في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم ولكن التغير والاختلاف يحدثان في المخلوقين" 1.

ورد على غلاة القدرية الذين يقولون: "إن الله لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها"2.

حيث قال: "وكان الله تعالى عالما في الأزل قبل كونها"3.

وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال:

"لم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم"4.

وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص" 5.

وقال: "خلق الخلق بعلمه"6.

وما يعتقده الإمام في صفة العلم هو ما دلت عليه الأدلة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} "سورة الأنعام: الآية59".

1 الفقه الأكبر ص302، 303.

2 انظر الفرق بين الفرق ص114-116، والملل والنحل 1/45، ومجموع الفتاوى 7/381.

3 الفقه الأكبر ص302.

4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.

5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص31.

6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.

ص: 320

وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "سورة لقمان: الآية34".

وكقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "سورة البقرة: الآية282".

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} "سورة التوبة: الآية78".

وكقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} "سورة الأنعام: الآية3".

ومن السنة عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . ضمن كتاب التوحيد أورد فيه حديثين صحيحين يثبتان صفة العلم لله تعالى وهما:

1-

حديث ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله"1.

2-

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم

1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/361 ح7379، من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.

ص: 321

الغيب فقد كذب، وهو يقول:"لا يعلم الغيب إلا الله"

" 1.

وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلم السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، وقدّر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته"2.

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني"3. فالنصوص الشرعية الدالة على صفة العلم كثيرة. فأهل السنة والجماعة آمنوا بها وأثبتوا ما تدل عليه من معنى ونفوا الكيفية، أما الجهمية والمعتزلة فأنكروا أن يكون لله علم أضافه لنفسه، وجحدوا أن يكون قد أحاط بكل شيء علما، وحاربوا النصوص الدالة على ذلك. فمعبودهم على هذا الاعتقاد ليس العليم الخبير الذي هو بكل شيء عليم، وإنما يعبدون العدم.

1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/261 ح7380، من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة.

2 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب الدعاء عند الاستخارة 11/183 ح6382 من طريق محمد بن المنكدر عن جابر.

3 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت" 11/196 ح6399، من طريق أبي بردة عن أبي موسى.

ص: 322

8-

10- الحياة والقدرة والإرادة:

الحياة والقدرة والإرادة صفات ذاتية أثبتها الإمام أبو حنيفة. دل على ذلك قوله: " أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة "1.

وهي صفات حقيقية أزليّة لائقة بالله لا تشبه صفات المخلوقين قال الإمام أبو حنيفة: "لم يزل قادرا بقدرته، والقدرة صفة في الأزل"2.

وقال: "لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته"3.

وقال: " ويقدر لا كقدرتنا"4.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عله يسير لا يحتاج إلى شيء:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.

وقال: "حي لا يموت قيوم لا ينام"6.

وقال: "ولا يكون إلا ما يريد"7.

1 الفقه الأكبر ص301.

2 الفقه الأكبر ص301.

3 الفقه الأكبر ص301.

4 الفقه الأكبر ص302.

5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20، والاقتباس من سورة الشورى ص11.

6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.

7 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.

ص: 323

وما أثبته الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من اتصاف الله بالحياة والقدرة والإرادة هو ما دلت عليه النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأدلة من كتاب الله فكقول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".

وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} "سورة الفرقان: الآية58".

وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} "سورة آل عمران: الآية29".

وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} "سورة فاطر: الآية44".

وقوله تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} "سورة القمر: الآية55".

وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} "سورة الأنعام: الآية125".

وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} "سورة البقرة: من الآية185".

وأما الأدلة من السنة فكحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني

ص: 324

أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" 1.

وحديث جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم

" 2.

وحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين

" 3.

والأدلة في ذلك كثيرة نكتفي بذكر النصوص الشرعية المتقدمة. فالله "كامل القدرة، وبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئا قال له"كن فيكون"، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد"4.

فله الإرادة النافذة في جميع الموجودات، والحياة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات والكمال. فكل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فهو به أولى 5. يقول ابن أبي العز: "إن الحياة

1 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2076 ح2717 من طرق يحيى بن يعمر عن ابن عباس.

2 تقدم تخريجه ص347.

3 رواه البخاري: كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين 1/164 ح71 من طريق حميد بن عبد الرحمن عن معاوية، ومسلم: كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة 2/718 ح1037. من طريق عبد الله بن عامر عن معاوية.

4 انظر تفسر السعدي 5/624-625.

5 انظر شرح الأصفهانية ص85، وموافقة صحيح المنقول 1/14، 15.

ص: 325

مستلزمة لجميع صفات الكمال فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال حياة" 1.

فالمقصود أن الإرادة والقدرة لا تقومان إلا بالحي، فالميت والجماد لا يوصفان بالعلم والقدرة والإرادة والحياة.

ثانيا – الصفات الذاتية باعتبار والفعلية باعتبار آخر

1-

المعية:

أخبر الله سبحانه وتعالى أنه مع 2 عباده فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ} "سورة المجادلة: الآية7".

وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "سورة الحديد: الآية4".

فهو معهم بعلمه، وعلمه محيط شامل بجميع الخلق، كذلك هو مع بعض عباده، ليس بالعلم، بل بالنصر والتأييد والتسديد والتوفيق. دلّ على ذلك قوله تعالى لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} "سورة طه: الآية46".

1 شرح العقيدة الطحاوية ص72.

2 المعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة وهي ذاتية، ومعية خاصة وهي فعلية.

راجع لمعرفة أنواع "المعية" مجموع الفتاوى 5/103، 104؛ ومختصر الصواعق ص409، 410.

ص: 326

أما من السنة فحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين، ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" 1.

ولقد بين الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا منافاة بين علو الله ومعيّته لخلقه فلقد روي عنه أنه قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 "سورة الحديد: الآية4".

قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 3.

قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عز وجل في السماء"4.

2-

القيومية:

وصف الله تعالى ذاته المقدسة بالقيومية فقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".

1 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم 7/8-9 ح3653، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/1854 ح2381 كلاهما من طريق ثابت عن أنس عن أبي بكر الصديق.

2 سورة الحديد: الآية 4، تحقيق عماد الدين، ط/ دار الكتاب العربي.

3 الأسماء والصفات 2/170.

4 الأسماء والصفات2/170.

ص: 327

وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".

ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالقيومية كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف"1.

فهو الذي يقوم بنفسه، ومستغن عن جميع خلقه، وقائم بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها، فهو القائم بنفسه والمقيم لغيره 2. قرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "حي لا يموت قيوم لا ينام" 3.

3-

الكلام:

اتفق السلف على إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته، وهو يتكلم بصوت يُسمَع، ولو لم يكن الكلام المعين

1 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/511 من طريق عوف بن مالك بن نظلة عن عبد الله بن مسعود قال الحاكم على أثره: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في تلخيص المستدرك. وأخرجه الترمذي: كتاب الدعوات باب في دعاء الضيف 5/569 ح3577، وأبو داود: كتاب الصلاة باب في الاستغفار 2/178 ح1517. كلاهما من طريق يسار عن أبيه زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي على أثره: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وأورده المنذري في الترغيب 2/269 وقال عنه: "إسناده جيد".

2 تيسير كلام المنان 1/313 بتصرف.

3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.

ص: 328

قديما. وعلى هذا مضى سلف الأمة من أهل الحديث وسائر الأئمة المهتدين 1.

قال ابن تيمية: وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة، وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل، وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقا منفصلا عنه. وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ولم يقل أحد منهم إن القرآن والتوراة والإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدا، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته" 2.

وقال كذلك: "فمن قال إن حروف المعجم مخلوقة، وأن كلام الله تعالى مخلوق؛ فقد قال قولا مخالفا للمعقول الصريح والمنقول الصحيح. ومن قال نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئا من ذلك قديم، فقد خالف أيضا أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد، وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك"3.

هذا اعتقاد السلف والأئمة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ في صفة الكلام على وجه الإجمال. أما عقيدة الإمام أبي حنيفة في صفة الكلام على وجه التفصيل فيندرج تحتها الآتي:

1 العقائد السلفية ص175 بتصرف.

2 مجموع الفتاوى 12/37، 38.

3 مجموع الفتاوى 12/54، 55.

ص: 329

"أ" التكلم والتكليم.

"ب" سماع كلام الله.

"ج" القرآن كلام الله على الحقيقة.

"د" القرآن غير مخلوق.

وإليك تفضيل ذلك:

التكلم والتكليم:

يعتقد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن الله متكلم بكلام حقيقي لا مجازي، دل على ذلك قوله:"قد كان متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام"1.

وقوله: "ومتكلما بكلامه والكلام صفة في الأزل"2.

وهو كلام لائق بجلال الله وعظمته، ليس ككلام البشر. يقول الإمام أبو حنيفة: "ويتكلم لا ككلامنا

"3.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ليس بمخلوق ككلام البرية فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر"4.

"ب" سماع كلام الله:

يُسمع الله تعالى كلامه من شاء من ملائكته ورسله ويسمعه عباده في الدار الآخرة، كما أنه كلم موسى وناداه حين أتى الشجرة فسمعه موسى،

1 الفقه الأكبر ص302.

2 الفقه الأكبر ص301.

3 الفقه الأكبر ص302.

4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.

ص: 330

قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "سورة القصص: الآية30".

وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} "سورة الأعراف: الآية143".

وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} "سورة طه: الآيتان 11،12".

وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".

وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دلّ على ذلك قوله:"وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".

وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام"1.

"ج" القرآن كلام الله على حقيقته:

القرآن سوره وآياته وكلماته، كلام الله تكلم به بحروفه ومعانيه، ولم ينزل على أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعه جبريل عليه السلام وأسمعه جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم وأسمعه محمد صلى الله عليه وسلم أمته. وليس جبريل ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ والأداء، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو الذي في المصاحف يتلوه التالون بألسنتهم، ويقرؤه المقرئون بأصواتهم، ويسمعه السامعون بآذانهم، وهو الذي في صدور الحفاظ بحروفه ومعانيه، تكلم الله

1 الفقه الأكبر ص302.

ص: 331

به على الحقيقة فهو كلامه على الحقيقة لا كلام غيره، منه بدأ وإليه يعود 1.

وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دل على ذلك قوله:"والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل"2.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا وصدّقه المؤمنون على ذلك حقا وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة "3.

فكلام الطحاوي في تقريره عقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى يدل دلالة قاطعة على بطلان الكلام النفسي، فقوله:"منه بدأ" رد على المعتزلة وغيرهم الذين زعموا أن القرآن لم يبدأ منه بل من بعض مخلوقاته" 4.

فالله هو الذي تكلم به ومنه سبحانه نزل، قال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} "سورة الجاثية: الآية2".

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة الأنعام: الآية114".

1 انظر عقيدة السلف أصحاب الحديث ص77، 78، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية. العقيدة السلفية لكلام رب البرية ص64؛ ومجموعة الرسائل والمسائل 3/349، 350.

2 الفقه الأكبر ص301.

3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.

4 مجموعة الرسائل والمسائل 3/486.

ص: 332

وقال تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "ٍسورة فصلت: الآيتان1،2".

وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة النحل: الآية102".

وأما قوله: "إليه يعود" أي يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية 1 ولا في المصاحف. قال ابن ماجه: "باب ذهاب القرآن والعلم"2.

ثم ذكر فيه حديث حذيفة بن اليمان وفيه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس3 الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية

" 4.

1 شرح العقيدة الطحاوية ص152، 153.

2 سنن ابن ماجه 2/1344.

3 يُدرس: من درس الرسم دروسا إذا عفا وهلك ومن درس الثوب درسا إذا صار عتيقا.

انظر النهاية في غريب الحديث 2/113.

4 أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن باب ذهاب القرآن والعلم 2/1344 ح4049.

والحاكم في المستدرك 4/473.

كلاهما من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".

وسكت عليه الذهبي في التلخيص وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 2/307 ط/ الجنان: "إسناده صحيح ورجاله ثقات".

ص: 333

"د" القرآن غير مخلوق:

اعتقاد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في القرآن هو اعتقاد الأئمة من سلف هذه الأمة وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، من أن القرآن منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود: هذا هو نص كلام الإمام في الفقه الأكبر حيث قال: "والقرآن غير مخلوق"1.

وفي الوصية حيث قال: "ونقر بأن القرآن كلام الله غير مخلوق"2. ولم أقف له على قول في كتبه المنسوبة إليه يخالف هذا القول. ولأجل ما تقدم تتابع أهل العلم على إهمال الروايات المصرحة بأن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن، وجزموا مقرّرين بأن مذهب أبي حنيفة عدم القول بخلق القرآن كالإمام أحمد وبشر بن الوليد 3 والطحاوي واللالكائي وابن تيمية وابن حجر. فالإمام أحمد يرى أن بعض أصحاب أبي حنيفة تابعوا جهما بالقول بخلق القرآن، فقد جاء في كتابه "الرد على الجهمية":"وتبعه يعني جهما ـ على قوله رجال من أصحابي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد ووضع دين الجهمية"4. وكذا بشر بن الوليد، فقد روى ابن عبد البر في الانتقاء عن سهل بن عامر قال: "سمعت بشر بن الوليد يقول: كنا عند أمير المؤمنين فقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: القرآن

1 ص301.

2 الجواهر المنيفة في شرح وصية الإمام ص10.

3 هو بشر بن الوليد بن خالد الكندي نسبة إلى كندة بكسر الكاف قبيلة مشهورة باليمن القاضي الفقيه قال عنه الذهبي: "الفقيه سمع مالك بن أنس وتفقه بأبي يوسف

وولي قضاء مدينة المنصور إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين وكان واسع الفقه متعبدا" مات سنة 238هـ.

انظر ميزان الاعتدال 1/326؛ والفوائد البهية ص54.

4 ص104، 105 ط/ دار اللواء.

ص: 334

مخلوق وهو رأيي ورأي آبائي، قال بشر بن الوليد: أما رأيك فنعم وأما رأي آبائك فلا" 1، ويكذب عليهما 2. فهؤلاء شانوا سمعة الإمام أبي حنيفة وأصحابه 3.

وكذا الطحاوي حيث قال في بيانه اعتقاد الإمام أبي حنيفة وصاحبه: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق" 4، ولم يشر إلى خلاف هذا.

وكذا أيضا اللالكائي سمى علماء السلف الذين يقولون القرآن غير مخلوق من التابعين وتابعيهم من أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة وواسط والشام ومصر والري 5 وأصبهان وخراسان وبلخ6 ونيسابور وبخارى وسمرقند.

قال اللالكائي عن أهل الكوفة موطن الإمام أبي حنيفة: "وأما أهل الكوفة فممن تقدم من التابعين سليمان بن مهران الأعمش وحماد بن

1 الانتقاء ص166.

2 انظر اللسان 1/399.

3 انظر تاريخ بغداد 13/384.

4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.

5 الري بفتح أوله وتشديد ثانيه مدينة بخراسان افتتحها عروة بن زبد الطائي في سنة عشرين من الهجرة وقيل تسع عشرة وصفها ياقوت فقال: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات. انظر معجم البلدان 3/166.

6 بلخ مدينة مشهورة بخراسان افتتحها الأحنف بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه وصفها ياقوت فقال: "بلخ من أجمل مدن خراسان وأذكرها وأكثرها خيرا وأوسعها غلة".

انظر معجم البلدان 1/479.

ص: 335

أبي سليمان

والطبقة الأولى من الفقهاء محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسفيان بن سعيد الثوري، والنعمان بن ثابت أبوحنيفة، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن

"1.

وكذا ابن تيمية فهو يقرر أن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في القرآن هو اعتقاد 2 الأئمة الثلاثة ـ مالك والشافعي وأحمد، ويرى أن بعض أتباع الإمام أبي حنيفة قالوا بخلق القرآن.

قال ابن تيمية: "وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة"3.

وكذا ابن حجر فقد جاء في "لسان الميزان" قوله عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "هو من دعاة المأمون في المحنة بخلق القرآن، وكان يقول في دار المأمون هو ديني ودين أبي وجدي وكذب عليهما"4.

وظهر من هذا سلامة اعتقاد أبي حنيفة في هذا الباب، وقد جعله الله لسان صدق في هذه الأمة يُدعى له ويترضّى عنه ويُترحّم عليه، وهذا لا يكون مع بدعة القول بخلق القرآن، فرحمه الله ورضي عنه.

1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/277.

2 مجموعة الرسائل والمسائل 3/477؛ ومجموع الفتاوى 5/265؛ ومنهاج السنة 2/106.

3 مجموعة الرسائل والمسائل 3/360.

4 لسان الميزان 1/399.

ص: 336

‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

أولا ـ الصفات الفعلية اللازمة

1-

الاستواء 1:

الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يثبت استواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته. دل على ذلك قوله:"ونقر بأن الله تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة"2.

قال ابن أبي العز شارحا كلام الطحاوي: "والعرش والكرسي حقٌّ وهو مستغن عن العرش، وما دونه محيط بكل شيء وفوقه"3.

"وإنما قال الشيخ هذا الكلام لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد

1 معنى الاستواء في لغة العرب الارتفاع والعلو. قال ابن عباس أبو العالية الرياحي: "استوى إلى السماء أي ارتفع" وقال مجاهد استوى: علا على العرش.

انظر صحيح البخاري مع فتح الباري 13/403؛ وتفسير ابن جرير 1/191، وتفسير ابن أبي حاتم 1/104.

2 شرح الوصية ص10.

3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص36-37.

ص: 337

ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاويا للعالي محيطا به حاملا له ولا أن يكون الأعلى مفتقرا إليه فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأنا وأجل من أن يلزم من علوه ذلك بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل وفقر السافل وغناه هو سبحانه عن السافل وإحاطته عز وجل به فهو فوق العرش، مع حمله بقدرته للعرش، وحملته وغناه عن العرش وفقر العرش إليه وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق، ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا بهذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ولسلكوا خلف الدليل ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "سورة الأعراف: الآية54".

كيف استوى؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول

" 1.

ففرق الإمام مالك بين المعنى المعلوم من هذا اللفظ، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر. وهذا هو ما اختاره الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فقد قال الملاّ علي القاري بعد أن ذكر قول الإمام مالك المتقدم:"اختاره إمامنا الأعظم وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات من ذكر اليد والعين والوجه ونحوها من الصفات"2. وما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في صفة الاستواء هو

1 شرح العقيدة الطحاوية ص290، 291.

2 شرح الآمالي ص31.

ص: 338

ما دلت عليه الأدلة الصريحة من كتاب الله فقد ذكر استواء الله على عرشه في سبعة مواضع من كتاب الله، منها قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى} "سورة الأعراف: الآية54".

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} " سورة يونس: الآية3".

وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "سورة الرعد: الآية2".

وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "سورة طه: الآية5".

وكذا جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على صفة الاستواء والعلو، وقد تقدم ذكر بعضها عند الكلام على صفة العلو، من تلك الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب هو عنده على العرش أن رحمتي تغلب غضبي"1.

فالمقصود أن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في الاستواء هو اعتقاد السلف

1 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/384 ح7404، ومسلم: كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2107 ح2751. كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

والترمذي: كتاب الدعوات باب خلق الله مائة رحمة 5/549 ح3543.

وابن ماجه: كتاب الزهد باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة 2/12435 ح4295.

كلاهما من طريق ابن عميلان عن أبيه عن أبي هريرة.

ص: 339

الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. قال ابن المبارك " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية"1.

2-

النزول:

يثبت أهل السنة والجماعة نزول البر سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ومن غير تأويل 2 ولا تكييف؛ لتواتر 3 الأخبار به، فقد رواه ثمانية وعشرون صحابيا. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخرة فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له"4.

1 السنة ص13؛ والرد على الجهمية للدارمي ص67، 162؛ والرد على المريسي ص103؛ والأسماء والصفات ص427.

2 أوّل بعض المتكلمين صفة النزول بنزول أمر الله ورحمته أو نزول ملك من الملائكة، انظر الرد على هذه التأويلات في كتاب شرح حديث النزول ص197.

3 ممن قال بتواتر حديث النزول من أهل العلم؛ ابن القيم في تهذيب السنن 7/108؛ والذهبي في كتاب العلو ص73-79؛ وابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص304؛ وأبو زرعة الرازي كما في عمدة القاري 7/199؛ والكتاني في النظم المتناثر ص191؛ وعبد الرحمن بن سعدي في توضيح الكافية الشافية ص147.

4 أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/59 وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل؟ 1/435 ح1366؛ وابن أبي عاصم في السنة 1/217 جميعهم من =

ص: 340

قال أبو عثمان 1 الصابوني: "فلما صح خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها بنزول خلقه، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا"2.

وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به، فقد سئل عن النزول فقال:"ينزل بلا كيف"3.

3-

4- صفتا الغضب والرضا:

يثبت أهل السنة والجماعة صفتي الغضب والرضا من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، فيرضى عن المحسنين، ويسخط على الفسقة والكافرين، دلّ على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ

= من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة. ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء 1/521 ح758، وأبو داود: كتاب الصلاة باب أي الصلاة أفضل؟ 2/76 ح135، والترمذي: كتاب الدعوات 5/526 ح3498؛ وعبد الرحمن الدارمي في السنن 1/286.

جميعهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

1 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابوري أبو عثمان الصابوني قال عنه السبكي: " الفقيه المحدث المفسر الخطيب الواعظ الملقب بشيخ الإسلام" مات سنة 449هـ.

طبقات الشافعية 4/271؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 3/282؛ والعبر 3/219.

2 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص42.

3 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص42؛ وجلاء العينين ص353.

ص: 341

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} "سورة الأعراف: الآية152".

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} "سورة التوبة: الآية96".

وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} "سورة البينة: الآية8".

قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} "سورة الفتح: الآية18".

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله

" 1.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بيدك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا"2.

وما تدل عليه تلك النصوص من إثبات صفتي الغضب والرضا هو ما يعتقده أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به، دل على ذلك قوله:

1 أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} 6/371 ح3340، ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/184 ح327 كلاهما من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.

2 أخرجه البخاري: كتاب الرقائق باب صفة الجنة والنار 11/415 ح6549، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا 4/2176 ح2829. كلاهما من طريق عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.

ص: 342

"وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف"1.

وقوله: "وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه"2.

وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى"3.

ثانيا ـ الصفات الفعلية المتعدية

1-

المحبة:

يثبت أهل السنة والجماعة صفة المحبة لله حيث أثبتها الله لذاته المقدسة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} "سورة الصف: الآية4".

وأثبتها أعلم الناس بربه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله تعالى يحب فلانا فأحبه؛ فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"4.

1 الفقه الأكبر ص302.

2 الفقه الأبسط ص56.

3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص57.

4 أخرجه مالك في الموطأ كتاب الشعر باب ما جاء في المتحابين في الله 2/953 ح15، والبخاري في كتاب التوحيد باب كلام الرب مع جبريل 13/461 ح7485، ومسلم كتاب البر والصلة باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده 4/2030 ح157. جميعهم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

ص: 343

وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به، دل على ذلك قوله:"والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله وبمحبته وبرضاه"1.

وقال عن المعاصي: "كلها بعلمه وقضائه وتقديره، لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره"2.

ووصف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب رب العالمين حيث قال: "ومحمد عليه الصلاة والسلام حبيبه وعبده ورسوله ونبيه"3.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"وإنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين"4.

وقال: "نقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا 5 وكلم الله موسى تكليما إيمانا وتصديقا وتسليما"6.

1 الفقه الأكبر ص303.

2 الفقه الأكبر ص303.

3 الفقه الأكبر ص303.

4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص22، 23.

5 وكذا ثبتت الخلة للنبي صلى الله عليه وسلم دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".

أخرجه مسلم: كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/377 ح532.

6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 38.

ص: 344

2-

الرزق:

من صفات 1 الأفعال المتعلقة بالخلق الرزق، فالرازق والرزّاق اسمان من أسماء الله تعالى، دالان على أنه تعالى خلق الأرزاق للخلق وأوصلها إليهم، وخلق لهم أسباب التمتع 2 بها. قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} "سورة العنكبوت: الآية60".

فالله هو المتكفل بالرزق والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها 3 قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} "سورة ق: الآيتان 10".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا 4 وتروح بطانا 5"6.

ورزق الله لعباده نوعان:

رزق عام: شمل جميع الخلق أولهم وآخرهم، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.

1 فتح الباري 13/360.

2 المقصد الأسنى ص84، 85.

3 انظر الأسماء والصفات ص87، ط دار الكتب العلمية.

4 خماصا: الخماص الجياع البطون من الغذاء، قاله ابن الأثير في جامع الأصول 10/140.

5 بطانا: البطان الشِّباع الممتلئات البطون، قاله ابن الأثير في جامع الأصول 10/140.

6 أخرجه الترمذي: كتاب الزهد باب في التوكل على الله 4/573 ح2344 والحاكم في المستدرك 4/328 كلاهما من طريق أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص.

ص: 345

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم"1.

وهذا هو رزق الأبدان.

ورزق خاص: هو رزق القلوب وتغذيتها بالإيمان والعلم والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم معه بحسب حكمته ورحمته 2.

وأثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الرازق وما يدل عليه، دل على ذلك قوله:"كان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق"3.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"رازق بلا مؤنة"4.

3-

الخلق:

من صفات الله الفعلية الخلق، والخلق له معنيان:

المعنى الأول: التقدير.

1 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 13/360 ح7378 من طرق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري.

2 تفسير كلام المنان لابن سعدي 5/626، 627 بتصرف، والحق الواضح المبين ص45.

3 الفقه الأكبر ص304.

4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20.

ص: 346

المعنى الثاني: الإيجاد والإنشاء على غير سبق 1.

فالخالق والخلاق من أسماء الله تعالى.

قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} "سورة الحشر: الآية24".

وقال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} "سورة المؤمنون: الآية14".

وقوله تعالى: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} "سورة يس: الآية81".

وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} "سورة القمر: الآية49".

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب هو عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي"2.

وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به. دل على ذلك قوله: "وأما الفعلية فالتخليق والإنشاء والإبداع والصنع"3.

وقال: "كان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق"4.

وقال: "وكان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق"5.

وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"خالق بلا حاجة"6.

1 انظر كتاب شأن الدعاء ص49، واشتقاق أسماء الله للزجاجي ص166-168.

2 تقدم تخريجه ص339.

3 الفقه الأكبر ص301.

4 الفقه الأكبر ص304.

5 الفقه الأكبر ص302.

6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.

ص: 347

وقال: "كما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم"1.

4-

الإحياء والإماتة:

من صفات الله الفعلية الإحياء والإماتة، ومن أسماء الله تعالى المحيي والمميت، فالمحيي يدل على أن الله هو الذي يحيي النطفة الميتة فيخرج منها نسمة الحياة ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث، ويحيي القلوب بنور المعرفة، ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث وإنبات الرزق 2.

والمميت يدل على أن الله يميت الأحياء ويوهن بالموت قوة الأصحاء الأقوياء.

قال تعالى: {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "سورة الشورى: الآية9".

فتمدّح ذاته سبحانه وتعالى بالإماتة كما تمدّح بالإحياء ليعلم أن مصدر الخير والشر والنفع والضر من قِبَله وأنه لا شريك له في الملك، استأثر بالبقاء وكتب على خلقه الفناء 3.

قال الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: "وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا، استحق هذا

1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.

2 كتاب شأن الدعاء ص79، والأسماء والصفات ص95 بتصرف.

3 انظر كتاب شأن الدعاء ص80، وكتاب الأسماء ص96.

ص: 348

الاسم قبل إحيائهم" 1.

وقال: "مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة"2.

فالله هو الذي يحيي الخلق يوم النشور، ويبعث من في القبور، ويحصل ما في الصدور 3.

هذا وبعد ذكر هذه الجملة من صفات الله الثبوتية الفعلية منها والذاتية؛ يجد القارئ الكريم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد سار في إثبات الصفات على منهج السلف الصالح، وذلك بإثبات جميع ما أثبت الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.

1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20.

2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.

3 المقصد الأسنى ص123.

ص: 349

‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

وفيه خمسة فصول:

الفصل الأول: مسمى الإيمان عند أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل؟.

الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه.

الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان.

الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان.

الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبير.

ص: 251