المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

؟

الإيمان في اللغة:

مادة أَمِنَ معناها في اللغة وثِق واطمأنَّ، والأمانة الوثوق 1.

قال أبو زيد: "ما أمنت أن أجد صاحبَه أي ما وثِقْت"2.

أما معنى الإيمان: فهو التصديق مع الانقياد. وهو تارة يتعدّى بالباء وتارة باللام. فمن الأول يقال: آمن به قوم3 وكذّب به قومٌ، ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} "سورة البقرة: الآية3".

أي يصدقون بأخبار الله عن الجنة والنار 4.

ومن الثاني قوله تعالى حكاية عن اليهود: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} "سورة آل عمران: الآية73".

1 انظر القاموس المحيط 1/182؛ والمعجم الوسيط 1/28.

2 كتاب الأفعال للمعافر ي 1/76؛ واللسان 13/21.

3 مفردات القرآن ص25.

4 انظر مادة أمن في الصحاح 5/2071؛ ومجمل اللغة 1/102؛ والقاموس المحيط 4/197؛ ولسان العرب 13/21؛ وكتاب الأفعال للمعافري 1/75.

ص: 353

أي لا تقروا ولا تصدقوا 1.

ومن قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".

أي بمصدق لنا 2.

والفرق بينهما أن المتعدي بالباء هو تصديق المخبر به والمعتدي باللام هو تصديق المُخْبِر 3.

قال الحليمي: "فمن الناس من قال: آمنت به وآمنت له لغتان يعبَّر بهما عن معنى واحد. والصحيح ما خالف هذا وهو قولهم آمنت به: يراد إثباته وتحقيقه والتصديق بكونه ووجوده، وقوله آمنت له: إنما يراد اتباعه وموافقته

والإيمان له القبول عنه والطاعة له" 4.

الإيمان عند أبي حنيفة:

أما معنى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة فهو إقرار باللسان وتصديق بالجَنان 5، والأعمال ليست داخلة فيه. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:"والإيمان هو الإقرار والتصديق"6.

وقال في كتابه الوصية: "الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، والإقرار وحده لا يكون إيمانا"7.

1 انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/97؛ ومعاني القرآن للفراء 1/222.

2 تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص213؛ ومعجم مقاييس اللغة 1/125.

3 مجموع الفتاوى 7/298-292.

4 المنهاج في شعب الإيمان 1/21.

5 الفصل 2/111؛ التمهيد 9/238.

6 الفقه الأكبر ص304.

7 كتاب الوصية مع شرحها ص2.

ص: 354

وقرَّر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجَنان"1.

أدلة الإمام أبي حنيفة:

استدل الإمام أبي حنيفة على مذهبه بما يلي:

أولا: أنه في كثير من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن، ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان 2.

ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من الله تعالى، وكان الداخل في الإسلام مؤمنا بريئا من الشرك ثم نزلت الفرائض بعد ذلك على أهل التصديق3.

ثالثا: أن المضيِّع للعمل ليس مضيِّعا للتصديق؛ فلو كان المضيِّع للعمل مضيعا للتصديق لانتقل من اسم الإيمان بتضييعه للعمل 4.

رابعا: أن الهدى في التصديق ليس كالهدى في الأعمال، قال الإمام أبو حنيفة:"إن الهدى في التصديق بالله ورسوله ليس كالهدى في ما افترض من الأعمال"5.

هذا ما استدل به الإمام أبو حنيفة. أما أصحابه فاستدلوا بما هو آت:

1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 42.

2 كتاب الوصية مع شرحها ص6.

3 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

4 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

5 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

ص: 355

أولا: أن الإيمان في اللغة التصديق؛ وعمدتهم في ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".

قال النسفي: "الإيمان معروف أنه عند أهل اللسان التصديق لا غير"1.

وحكى الباقلاني الإجماع عليه فقال: "فإن قال وما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق"2.

ثانيا: أن الله فرق بين الإيمان والعمل في غير موضع من كتابه قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "سورة العصر: الآية3".

والعطف يقتضي المغايرة.

قال النسفي: "يدل عليه أن الله تعالى فرَّق بين الإيمان وبين كل عبادة بالاسم المعطوف عليه ما فرَّق بين العبادات بالأسماء المعطوفة المفعولة لها، على ما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} "سورة التوبة: الآية18".

فقد عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان، ولا شك في ثبوت المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه"3.

1 تبصرة الأدلة "ق-346/أ"، وانظر التمهيد ص99، 100، وانظر كتاب التوحيد للماتريدي ص373-377؛ والعمدة لحافظ الدين النسفي 17/أ؛ والبداية للصابوني ص152؛ وشرح العقائد النسفية ص119-123؛ وشرح المقاصد 5/2176 كلاهما للتفتازاني، وانظر الطوائع ص373، 374.

2 التمهيد للباقلاني ص346، 347..

3 التمهيد للنسفي ص99-100؛ وتبصرة الأدلة "ص336/أ-ب"؛ وشرح العقائد النسفية ص123-124.

ص: 356

ثالثا: قول النسفي: "ويدل عليه لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة ومات قبل الزوال يكون من أهل الجنة، ولو كان العمل من الإيمان لا يكون من أهل الجنة؛ لأنه لم يوجد منه ذلك"1.

رابعا: أن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان، ثم أوجب الأعمال على ما قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} "سورة البقرة: الآية183"2.

خامسا: أن الله تعالى قال في الكفرة: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} "سورة الأنفال: الآية38".

والانتهاء عن الكفر يكون بالإيمان، ولو كانت الأعمال كلها إيمانا، لم يكن المنتهي عن الكفر منتهيا عنه ما لم يأت بجميع الطاعات، وإذا ثبت الانتهاء بالتصديق وحصلت له المغفرة عما سلف دل أنه هو الإيمان" 3.

سادسا: أن الله تعالى قال: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} "سورة آل عمران: الآية100".

"ثبت أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر، والكفر هو الذي به ترك الإيمان"4.

سابعا: لو قلنا: إن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان؛ لزم أن يزول الإيمان بزوال بعض الأعمال ولزم تكفير مرتكب الكبيرة 5.

1 بحر الكلام ص39.

2 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".

3 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".

4 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".

5 تبصرة الأدلة "ق-375/أ" بتصرف.

ص: 357

ثامنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل صلوات الله عليه عن الإيمان، ما أجاب عنه إلا بالتصديق حيث قال: " أن تؤمن بالله وملائكته

ولم يذكر فيه إلا

التصديق ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " 1.

ولو كان الإيمان اسما لما وراء التصديق، لكان أتى ليلبس عليهم أمر دينهم، لا ليعلِّمهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قصَّر في الجواب 2.

تاسعا: إن ضد الإيمان هو الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود يصدِّقه أن الله تعالى قابل الكفر بالإيمان فقال:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} "سورة البقرة: الآية256".

ثم المراد منها التكذيب والتصديق فدلّ أن الإيمان ذلك 3 يعني: أن الإيمان هو التصديق.

الجواب عن أدلة أبي حنيفة وأصحابه

"أ" الجواب عن أدلة أبي حنيفة:

أولا: قول أبي حنيفة: أنه في كثير من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان.

هذا القول فيه نظر، إذ العمل لا يرتفع عن المؤمن كليّةً، بل قد يرتفع

1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان 1/114 ح50 من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.

2 تبصرة الأدلة ق: 336، 337.

3 تبصرة الأدلة ق-366/أ.

ص: 358

عمل دون عمل، وكون الحائض يرتفع عنها عمل الصلاة والصوم، ليس معناه أن جميع الأعمال التي قد كلفت بها قد ارتفعت، ثم يقول القائل: إن إيمانها قد ارتفع. كلا فإن الحائض لم تترك الصلاة ولم تترك العمل إلا استجابة لأمر الله، وهذا في حد ذاته عمل منها؛ لأن الأعمال تنقسم إلى قسمين: عملٌ تركي، وعمل مأتيٌّ. فكون الحائض قد تركت الصلاة استجابة لأمر الله فالعمل ما زال قائما في حقها، ثم إن المرأة إذا حاضت لا يرتفع عنها جميع الأعمال التي كلفت بها، بل جميع الأعمال التكليفية تؤديها كما كانت تؤديها إبَّان طهرها، إذاً العمل في حقها ما فتِئ مستمرّا لم يرتفع بحيضها ولا بطهرها.

وأيضا يقال: إن الصلاة سماها الله إيمانا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".

وهي من أعظم شعب الإيمان، والإيمان شعب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان"1.

إذاً فقد رُفع عن الحائض بعض شعب الإيمان بحكم الشرع، ومع ذلك فهو نقص في دينها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبٍّ منكن" قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين"2.

1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب أمور الإيمان 1/51 ح9 من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

2 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/86-810 ج132 من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر.

ص: 359

ثانيا: قول أبي حنيفة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من الله تعالى، وكان الداخل في الإسلام مؤمنا بريئا من الشرك ثم نزلت الفرائض بعد ذلك على أهل التصديق"1.

جوابه من ثلاثة أوجهٍ:

1-

أنه فرضت قبل فرض الصلاة والزكاة والصوم أعمال شرعية غير الشهادتين؛ كالصدق وإيفاء الوعد وتجنُّب الحرام كارتكاب الزنى وأكل مال اليتيم وغير ذلك.

2-

إن الشهادتين مقتضاهما العمل، والعمل هو ترك عبادة ما سوى الله وإفراده وحده بالعبادة لأنه الإله الحق المحبوب المطاع الذي يستحق أن يعبد وحده فلا يعصى، ويخصّ بنهاية الحب والخضوع والذل، وأما ما عداه مما عبده الناس فآلهة زائفة باطلة صنعتها الجهالة والأوهام فيجب البراءة منها، وممن عبدها من دون الله تعالى.

قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} "سورة الممتحنة: الآية4".

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} "سورة الزخرف: الآيتان 26-27".

فإخلاص العبادة لله تعالى والكفر بالطواغيت والبراءة منها وممن عبدها من أعظم الأعمال، بل هذا أعظم من الفرائض العملية الظاهرة، بل التصديق بدون هذا غير معتدٍّ به.

1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

ص: 360

3-

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعا إلى الإقرار به وبما جاء به، دعا إلى اتباعه، والتزام طاعته؛ لأن الإقرار وحده بدون التزام متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته لا يحصل به الدخول في الإسلام ولا ينجو به من العذاب، فصحّ أن العمل من مقوِّمات الإيمان وأنه لا إيمان بدون جنس العمل.

ثالثا ـ قول الإمام أبي حنيفة: "فلم يكن المضيع للعمل مضيعا للتصديق، وقد أصاب التصديق بغير عمل، ولو كان المضيِّع للعمل مضيعا للتصديق لانتقل من اسم الإيمان وحرمته لتضييعه العمل"1.

جوابه من وجهين:

1-

أن يقال: إن أراد تضييع العمل مطلقا فقد تقدّم أن التصديق المجرَّد لا يحصل به الإيمان فلا ينفع التصديق إذاً مع تضييع العمل مطلقا، فإن من الأعمال ما يزول الإيمان بزواله مثل محبة الله ورسوله وبغض الشرك وأهله والبراءة منه وكذلك الصلاة يزول الإيمان بتركها عند كثير من المحققين من أهل العلم" 2.

وإن أراد عملا دون عمل؛ فمعلوم أنه لا يرتفع عنه أصل الإيمان بتضييع أي عمل وليس من شرط وجود الإيمان ألا يرتكب معصية.

2-

أن المسلم لا يتصوّر منه أن يترك العمل مطلقا بل لا بد أن يعمل شيئا من الأعمال الظاهرة كالإحسان والصدق والبر وصلة الأرحام، فإذا فُرض أن شخصا لا يعمل مطلقا أي عمل كان فهذا ليس بمصدِّقٍ

1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

2 كأحمد بن حنبل والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم، انظر اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص76؛ وكتاب الصلاة لابن القيم ص16-20.

ص: 361

تصديقا يدخله في عداد المؤمنين، بل يكون في الحقيقة من المكذبين كما قال تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} "سورة آل عمران: الآية33".

رابعا: قول أبي حنيفة: قال الإمام أبو حنيفة: "إن الهدى في التصديق بالله وبرسوله ليس كالهدى في ما افترض من الأعمال"1.

جوابه: أن التصديق له أثر والأعمال لها أثر؛ فالتصديق والأعمال جزءان من الإيمان المركب منهما والإقرار والهدى الناتج من التصديق المجرّد ليس كالهدى الناتج من التصديق والإقرار والأعمال، فإن الهدى الأول ضعيف والثاني أقوى منه.

ويقال أيضا: إن التصديق المجرد عن عمل القلب ليس فيه هدى بدليل أنه حاصل من بعض الكفار، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} "سورة آل عمران: الآية33".

وإنما الهدى في التصديق المقرون بعمل القلب، من حب الله ورسوله وحب ما جاء به من الدين والانقياد لذلك وبُغْض الدين الذي يخالفه. ولا ريب أن الهدى في اعتقاد القلب وعمله أعظم من الهدى في عمل الجوارح بل هو أصله إذ لا يلزم من الاشتراك في التسمية في الاسم اتِّحاد المرتبة، وهذا لا ينفي أن يكون كلٌّ منهما عن اعتقاد القلب وعمله مع عمل الجوارح من الإيمان.

1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.

ص: 362

"ب " الجواب عن أدلة أصحاب الإمام أبي حنيفة:

الدليل الأول:

قولهم: إن الإيمان في اللغة التصديق، ثم حكوا الإجماع عليه فالجواب عليه من وجوه:

1-

دعوى أن الإيمان مرادف للتصديق ممنوع لما يأتي:

"أ" أنه يقال للمخبر إذا صدق: صدقت ولا يقال آمنت 1.

"ب" أن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدق كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر الغائب2.

"ج" أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه 3.

"د" وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".

فليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر 4.

2-

لو سلمنا جدلا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فالألفاظ

1 مجموع الفتاوى 7/290 بتصرف.

2 مجموع الفتاوى 7/291.

3 مجموع الفتاوى 7/292 بتصرف.

4 مجموع الفتاوى 7/126 بتصرف.

ص: 363

الشرعية الواردة في الكتاب والسنة كالإيمان والإسلام والصلاة والزكاة والحج وغيرها ليست على معانيها اللغوية المطلقة، بل زاد فيها الشرع قيودا لا تخرج بها هذه الأسماء عن معناها في اللغة، فمثلا الصلاة في اللغة الدعاء لكن في الشرع عبارة عن الأفعال والأقوال المخصوصة في أوقات مخصوصة بشروط مخصوصة؛ وإن كانت مشتملة على الدعاء. فهكذا الإيمان الشرعي مشتمل على التصديق بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان. ولا شك أن بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي مناسبة بالعموم والخصوص، لأن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي، ومعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة 1.

3-

أن دعوى الإجماع على كون الإيمان في اللغة التصديق ممنوعة وذلك لما يأتي:

"أ" نعم نقل الإجماع الباقلاني في كتابه التمهيد ص100، لكن من سلفه في هذا؟ وكيف يعلم هذا الإجماع2؟.

"ب" إن كان يعني بالإجماع إجماع أهل اللغة فهل مراده نقلتها كأبي عمرو والأصمعي والخليل ونحوهم أو مراده المتكلمون بهذا اللفظ؟.

فإن عنى الأول فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام

1 مجموع الفتاوى 7/127 بتصرف.

2 مجموع الفتاوى 7/123 بتصرف.

ص: 364

العرب، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان فضلا عن أن يكونوا أجمعوا عليه. وإن عنى المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام؛ فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك 1.

"ج" أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم وإن قدِّر أنه قاله واحد أو اثنان فليس هذا إجماعا 2.

"د" أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ، فلو قدِّر أنهم نقلوا كلاما عن العرب يفهم أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده؛ فظن هؤلاء ذلك فيما نقلوه عن العرب أولى 3.

"هـ" أنه لو قدِّر أنهم قالوا هذا؛ فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن في أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق4.

"و" أنه لم يذكر شاهدا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم 5.

1 مجموع الفتاوى 7/123 بتصرف.

2 مجموع الفتاوى 7/123.

3 مجموع الفتاوى 7/123، 124.

4 مجموع الفتاوى 7/124.

5 مجموع الفتاوى 7/125.

ص: 365

الدليل الثاني:

قولهم: "إن الله فرق بين الإيمان والعمل في غير موضع من القرآن الكريم

".

الجواب عليه:

التشبث بالمغايرة في جعل الإيمان تصديقا وجعل الأعمال خارجة عنه باطل، لأن العطف يقتضي مغايرة ما، لا كلَّ المغايرة، فيكفي في العطف بين شيئين نوع من المغايرة، كالمغايرة بين الكل والجزء، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، فيجوز عطف الأعمال على الإيمان، لأن الإيمان كلٌّ والأعمال جزء منه فتتحقق المغايرة، فكيف يستدلون بالعطف على إخراج الأعمال من الإيمان، والعطف لا يقتضي ذلك فيكون تشبثهم بالعطف في غير محله ولا يتم لهم المقصود، وبمثل ما ذكرت أجاب أئمة السنة أمثال أبي يعلى وشيخ الإسلام وغيرهما وحاصل ما قالوه: أن الله عطف الأعمال الصالحة والعطف يقتضي المغايرة، فيقال لهم هذا غير صحيح فإن الله عطفها على الإيمان من باب عطف الخاص على العام كقوله تبارك وتعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".

ومن المعلوم قطعا أن جبريل وميكال من جنس الملائكة، ولو كان العطف يقتضي المغايرة كما قالوا لكان جبريل وميكال من جنس آخر، وهذا لم يقل به أحد من السلف، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تناقض ذلك فمن ذلك قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".

ومن المعلوم أن الصلاة الوسطى من جنس باقي الصلوات، فلو كان العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه لكانت الصلاة

ص: 366

الوسطى غير باقي الصلوات، وهذا خلاف المعروف والمعلوم 1.

وقال ابن أبي العز الحنفي: "والمغايرة على مراتب: أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزءه ولا بينهما تلازم كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} "سورة الأنعام: الآية1".

{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} "سورة آل عمران: الآية3".

هذا هو الغالب.

ويليه: أن يكون بينهما تلازم كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "سورة البقرة: الآية42".

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} "سورة المائدة: الآية92".

الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".

{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} "سورة البقرة: الآية98".

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} "سورة الأحزاب: الآية7".

وفي مثل هذا وجهان:

أحدهما: أن يكون داخلا في الأول فيكون مذكورا مرتين.

والثاني: أن عطفه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا، وإن كان داخلا فيه

1 راجع مسائل الإيمان لأبي يعلى ص241، 242؛ ومجموع الفتاوى 7/179-178؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص378-380

ص: 367

منفردا كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع بالإفراد والاقتران.

الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} "سورة غافر: الآية3".

وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط كقوله:

فألفى قولها كذبا ومينا1"2.

فأنت ترى أن الكذب والمَيْنَ شيء واحد. ولكن جاز العطف لأجل الاختلاف في اللفظ.

والحاصل أن عطف الأعمال على الإيمان في بعض النصوص لا يدل على خروج الأعمال عن حقيقة الإيمان ومسماه، فتشبث هؤلاء بشبهة العطف لا يفيدهم إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان وحقيقته.

الدليل الثالث:

قول النسفي: "لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة ومات قبل الزوال يكون من أهل الجنة، ولو كان العمل من الإيمان لا يكون من أهل الجنة؛ لأنه لم يوجد منه ذلك".

قلت: هذا لا يدل على كون الإيمان هو التصديق فقط لأن الله لا يكلف نفس إلا وسعها فمن صدق بالقلب ولم يجد فرصة للإقرار بأن كان أبكم مثلا فهو مؤمن، وكذا لو صدق وأقر ومات على الفور فهو مؤمن

1 هذا البيت لعدي بن زيد العُبادي، انظر الصحاح 6/2210، وصدره: فقدّمت الأديم لراهشيه، انظر طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص140.

2 شرح العقيدة الطحاوية 2/484، 485. وانظر مجموع الفتاوى 7/172-178.

ص: 368

لأنه التزم شرائع الإيمان وعزم على العمل بالأركان فهذا العزم يعتبر في حقه كأنه عمل بالأركان، غير أنه لم يجد فرصة. فمثل هذا كيف يكون حجة بأن الإيمان هو التصديق فقط وهذا ظاهر لمن وفقه الله للهداية.

الدليل الرابع:

قول بعضهم: "إن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان، ثم أوجب عليهم الأعمال". أجاب عن هذا الإشكال شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: "خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال". فنقول: إن قلتم: إنهم خوطبوا قبل أن تجب تلك الأعمال فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} "سورة آل عمران: الآية97".

ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان

وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد

"1.

الدليل الخامس:

قولهم: إن الله تعالى قال في الكفرة: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} "سورة الأنفال: الآية38".

والانتهاء عن الكفر يكون بالإيمان ولو كانت الأعمال كلها إيمانا

1 كتاب الإيمان ط المكتب الإسلامي ص185-186 ط/ الثالثة وضمن مجموع الفتاوى 7/196-197.

ص: 369

لم يكن المنتهي عن الكفر منتهيا عنه ما لم يأت بجميع الطاعات

فالجواب عنه:

إن معنى قول الله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1 أن هؤلاء المشركين والكفرة إن تابوا إلى الله عن شركهم وكفرهم وقتال المؤمنين وعداوتهم ودخلوا في الإسلام والتزموا الطاعة وانقادوا لأوامر الله؛ يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والشرك.

وليس معنى الآية: أن الله تعالى لا يغفر لهم إلا أن يأتوا بجميع الطاعات دفعة واحدة في آن واحد، لأن هذا ليس في طاقة البشر، فلا يستطيع أحد أن يأتي بطاعات جميع العمر دفعة واحدة، وإنما عليهم أن يلتزموا الطاعة وينقادوا ويتعهدوا الإتيان بالأوامر واجتناب النواهي، وهذه التوبة وهذا الالتزام هما من الأعمال وهما شرط في مغفرة ما قد سلف منهم ولا مخرج لهم من الكفر إلا بذلك، فليزم أن تكون هذه الأعمال من الإيمان وعلى هذا فالآية حجة عليهم لا لهم وهي كذلك لا تنفي تسمية سائر الأعمال إيمانا.

فالحاصل أن هذه الآية لا تدل على خروج الأعمال عن الإيمان كما أنها لا تدل على الإتيان المأمورات دفعة واحدة، وإنما فيها بيان لشرط العفو عنهم والمغفرة لهم، وهو أن يتوبوا من الشرك والكفر ويدخلوا في الإسلام ويخضعوا لأوامر الله تعالى وينقادوا لحكمه.

1 انظر تفسير هذه الآية في جامع البيان للطبري 9/247؛ ومعالم التنزيل 2/248؛ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/309؛ وتيسير الكريم المنان 3/167، وتفسير القاسمي محاسن التأويل 8/55.

ص: 370

الدليل السادس:

قولهم: "إن الله تعالى قال: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} "سورة آل عمران: الآية100".

ثبت أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر

"

فالجواب عنه:

أن الله تعالى نهى المؤمنين عن طاعة الكفار، وحذرهم من موالاتهم وحبهم، لأن هذا سبيل لارتدادهم عن الإسلام 1.

ولا شك أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر، وأن الكفر هو الذي به ترك الإيمان وكلاهما لا يجتمعان.

ولكن أين في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب فقط، وأن الأعمال ليست من حقيقة الإيمان، وأنها خارجة عن مسماه؟ بل الآية تدل على خلاف ما زعموه، لأن طاعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وطاعة غيرهم من الكفرة قد تتحقق في الأعمال فيكون بذلك مرتدا عن دين الإسلام، وإن كان يعتقد أن دين الإسلام حق كما وقع من أمثال أبي طالب وهرقل وغيرهما فهؤلاء قد أطاعوا الكفار، وصاروا بذلك كافرين مع بقاء تصديقهم بقلوبهم بل وبألسنتهم، فكان كفرهم بالأعمال فكيف يقال: إن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال ليست من مسماه.

الدليل السابع:

قولهم: " إذا قلنا: إن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان؛ لزم أن يزول

1 انظر تفسير هذه الآية في جامع البيان ص24، 25؛ وتفسير القرآن العظيم 2/81؛ وزاد المسير 1/430؛ وتيسير الكلام المنان 1/404؛ والمنار 4/17.

ص: 371

الإيمان بزوال بعض الأعمال ولزم تكفير مرتكب الكبيرة

"

فالجواب عنه: من وجهين:

1-

أن الأعمال جزء من حقيقة الإيمان، والإيمان كل له أجزاء ثلاثة فهو مركب منها:

الأول: التصديق بالجنان.

الثاني: الإقرار باللسان.

الثالثة: والعمل بالأركان.

ولا شك أن العمل يتفاوت ويتجزأ، ويزيد وينقص، وبحسب الأعمال يتفاوت التصديق ويتجزأ، ويزيد وينقص.

قال ابن أبي العز: "الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانا. فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والصوم والحج والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنها من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما"1.

وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن الكل المركب من أجزاء تتفاوت وتتجزأ وتزيد وتنقص، فلا يزول بزوال بعض أجزاء أجزائه. فالذي ارتكب معصية فقد نقص من عمله جزء وبذلك قد نقص من إيمانه شيء مع بقاء شيء منه، حيث نقص إيمانه بنقص بعض عمله، وبذلك قد زال جزء من إيمانه ولم يزل كل إيمانه.

1 شرح العقيدة الطحاوية 2/476.

ص: 372

مثال ذلك أن الشجرة كل مركبة من أغصان ومع ذلك لا تزول الشجرة بزوال بعض أغصانها، وكذا الإنسان كل مركب من أجزاء لكن لا يزول الإنسان بزوال بعض أجزائه1.

وهكذا في باب الإيمان فهو لا يزول بالكلية بزوال بعض الأعمال، وإذا تحقق هذا ثبت أنه لا يلزم تكفير مرتكب الكبيرة، كما لا يلزم مخالفة الإجماع، وظهر بطلان القول بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان.

2-

أن لفظ الإيمان ذكر في نصوص الكتاب والسنة على نوعين: مقيد ومطلق.

فإذا ورد مطلقا دخل في مفهومه الأعمال كما تدخل الأعمال، في مفهوم البر والتقوى والدين إذا وردت هذه الكلمات مطلقة.

وإذا ورد مقيدا فيغاير الأعمال وعلى هذا يقال: "إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا".

فالإيمان له مرتبتان:

مرتبة الشيء المطلق، وهي مرتبة الإيمان المطلق أي الكامل، ومرتبة مطلق الشيء، وهي مرتبة مطلق الإيمان أي ما يصدق عليه الإيمان في الجملة سواء كان كاملا أو ناقصا، فمن وفّقه الله تعالى للعمل وقوي تصديقه بالقلب وعمل ما يقتضيه إقراره باللسان فإيمانه كامل في مرتبة الشيء المطلق، أي الإيمان المطلق أي الكامل، وأما من أخل بالعمل فقد نقص إيمانه وضعف تصديقه بقلبه بقدر ما أخل به من العمل؛ ولم يستوف ما يقتضي إقراره بلسانه، فإيمانه ناقص في مرتبة "مطلق الشيء"، أي "مطلق

1 مجموع الفتاوى 7/403-405 بتصرف. وانظر فتح الملهم بشرح صحيح مسلم 1/157، والسنة لعبد الله بن أحمد ص76؛ وجامع العلوم والحكم ص43؛ والإيمان لأبي يعلى ص264.

ص: 373

الإيمان"، أي الإيمان الناقص، فتارك العمل، ومرتكب الكبيرة لا يستحق اسم "الإيمان المطلق" الكامل لإخلاله بالعمل وضعف تصديقه ونقص إيمانه؛ ولنعم ما قال شيخ الإسلام في رده على هؤلاء بعدما حكى شبهتهم هذه حيث قال:

"وجواب هذا أن يقال: الذين قالوا من السلف إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام لم يقولوا: إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج والمعتزلة وأهل السنة الذين قالوا هذا، يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيمان يخرجون به من النار، لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان 1 لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان

" ثم قال شيخ الإسلام: " والتحقيق أن يقال: أنه مؤمن ناقص الإيمان مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق واسم الإيمان2 يتناوله

" 3.

الدليل الثامن:

قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل صلوات الله عليه عن الإيمان، ما أجاب عنه إلا بالتصديق...."

فالجواب عنه:

أن يقال: إن النصوص التي ذكر فيها لفظ الإيمان والإسلام على ثلاثة أنواع:

1 يعني اسم "الإيمان الكامل" وهو الإيمان المطلق.

2 يعني مطلق الإيمان وهو الإيمان الناقص.

3 مجموع الفتاوى 7/240-241.

ص: 374

النوع الأول: نصوص فيها ذكر الإيمان وحده كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".

النوع الثاني: نصوص فيها ذكر الإسلام وحده كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ} "سورة آل عمران: الآية85".

النوع الثالث: نصوص فيها ذكر الإيمان والإسلام كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة الحجرات: الآية14".

فإذا عرف هذا عرف أيضا أنه إذا ذكر الإيمان وحده فهو يشمل الإسلام وكذا إذا ذكر الإسلام وحده فإنه يشمل الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والإسلام معا فهما يتغايران ويختلفان، فيراد بالإيمان غير ما يراد بالإسلام، فيختص الأول يما يتعلق بالقلوب، ويختص الثاني بما يتعلق بالجوارح مع ملازمة كل منهما الآخر بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر وإن كانا يتفاوتان مفهوما ومصداقا، وهذا كما يقال:"إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا" أي إذا ذكر أحدهما فقط يراد به الآخر أيضا، وإذا ذكرا معا يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر مثل البر والتقوى والمسكين والفقير" 1.

فالبر إن ذكر وحده دخل فيه التقوى، وهكذا التقوى يدخل فيه البر ولكن إذا اجتمعا يراد بالبر فعل الخير ويراد بالتقوى تجنب الشر 2.

1 انظر مجموع الفتاوى 10/275.

2 انظر كتاب الإيمان ص156، 157، ط المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1408هـ.

ص: 375

وهكذا الحال في المسكين والفقير إذا اجتمعا أو افترقا 1.

ومن هنا يتبين لنا خطأ من قال: إن الإيمان غير الإسلام مطلقا وكذا خطأ من قال مطلقا: إن الإيمان هو الإسلام والصحيح: أن الإيمان إذا ذكر وحده يشمل الإسلام وكذا الإسلام إذا ذكر وحده يشمل الإيمان، وإذا ذكرا معا يراد من الإيمان العقائد، ويراد من الإسلام الأعمال كما في حديث جبريل 2.

وإذا عرف هذا تبين لك بطلان كلامهم هذا 3.

أما إلزامهم أن الأعمال لو كانت من الإيمان، لكان جبريل أتى لتلبيس الدين وكان النبي صلى الله عليه وسلم قاصرا في الجواب.

فنقول: إن جبريل عليه السلام لم يأت لتلبيس الدين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاصرا في الجواب، بل كان جبريل أتى لتعليم الدين وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الصواب والله المستعان.

الدليل التاسع:

قولهم: "إن ضد الإيمان هو الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود

".

1 الفقير والمسكين إذا افترقا فهما بمعنى واحد وهو المحتاج، وأما إذا اجتمعا فالفقير هو الذي له ما يأكله وله بعض ما يقيمه، وأما المسكين فهو الذي لا شيء له فهو أسوأ حالا من الفقير وقيل العكس. انظر تهذيب اللغة 9/113، 114؛ والمصباح المنير ص108.

2 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/114 ح37 من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.

3 انظر تفصيل هذا في كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/154-186، وشرح العقيدة الطحاوية ص387-395.

ص: 376

فالجواب عنه:

قوله: "الكفر هو التكذيب والجحود" فيه نظر: لأنه لا شك أن التكذيب والجحود نوعان من الكفر، لكنهما ليسا جميع الكفر، والكفر أعم من التكذيب والجحود فلا يتحقق الكفر في صورة التكذيب والجحود فقط، بل الإعراض والمخالفة والمعاداة بلا تكذيب وجحود، مثل كفر أبي طالب فإنه لم يكذب ولم يجحد، ومع ذلك فهو كافر حيث أعرض عن الاعتراف بالحق، ولم يظهره. وأما قوله:"إن التكذيب والجحود يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما وهو الإيمان يكون بالقلب".

فأول من عرف عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان فقد قال: "إن الإيمان والكفر لا يكونان إلا بالقلب دون غيره من الجوارح"1. وهذا قول فاسد، والحق أن الكفر كما يكون بالقلب، كذلك يكون باللسان والجوارح، لأن كثيرا من صناديد الكفار من مشركي قريش كانوا يكفرون ويكذبون باللسان فقط مع تصديقهم للرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم، عنادا منهم وجحودا واستكبارا بل لو قيل: إن الجحود لا يكون بالقلب فقط بل وباللسان لكان هو الصواب؛ فإن فرعون وأمثاله كانوا مستيقنين في أنفسهم وإن جحدوا بألسنتهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} "سورة النمل: الآية14".

وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} "سورة الأنعام: الآية33".

فالمؤمنون يصدقون بالقلوب واللسان وبالجوارح، والكفار يكذبون

1 مقالات الإسلاميين ص132.

ص: 377

باللسان، والمنافقون يصدقون بالألسنة ويكذبون بالقلوب.

ثم إن لفظ الإيمان لا يقابل التكذيب فقط، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد، لا يكفى مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل"1.

أما موقفهم من النصوص الدالة على أن العمل من مسمى الإيمان، فموقف القدح والتأويل كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".

فحملوها على المجاز 2، ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وستون شعبة".

1 مجموع الفتاوى 7/292، وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص380.

2 انظر تبصرة الأدلة "337/ب".

ص: 378

وفي رواية: " بضع وسبعون " فقد قدحوا فيه بأنه مخالف للكتاب وبغفلة الراوي حيث تردد بين الستين والسبعين فشهد بغفلة نفسه" 1.

الجواب عن تلك التأويلات:

أولا: حملهم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} على المجاز الجواب عنه ما يأتي:

1-

الأصل في كتاب الله تعالى الحقيقة، والمجاز يحتاج إلى دليل 2.

2-

أن الحقيقة عند القائلين بالمجاز هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة. وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدَّعى خروجها منه عند التقييد وهذا يدل على أن الحقيقة قوله:"الإيمان بضع وسبعون شعبة"3.

3-

أن المجاز ثبت أنه اصطلاح حادث فلم يتكلم به العرب ولا الصحابة ولا الأئمة؛ فهو شبيه بمصطلحات النحو، ولكن النحو جاء اصطلاحا مستقيما وليس فيه مفسدة، أما المجاز فهو اصطلاح غير مستقيم، وفيه مفاسد عقلية وشرعية ولغوية. أما المفسدة العقلية فهي عدم تمييزه تمييزا ظاهرا صحيحا، أما الشرعية ففيها مفاسد يوجب الشرع إزالتها ألا وهي تحريف كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن حقيقته وحمل الألفاظ على معان ورد النهي عن حملها عليها وأنها يصح نفيها وكلام الله

1 انظر تبصرة الأدلة "337/ب".

2 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص164.

3 مجموع الفتاوى 7/116.

ص: 379

عزَّ وجلَّ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أرفع شأنا من ذلك، وأنه كلام غير حقيقي والله عز وجل كلامه حق وعدل وصدق.

أما اللغوية فهي تغيير للأوضاع اللغوية لغير مصلحة راجحة، بل لمفسدة 1.

ثانيا: أما قدحهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون "، وفي رواية:" بضع وسبعون ". بمخالفته للكتاب وبغفلة الراوي، فالجواب عليه من وجوه:

الأول: أن ما يدل عليه هذا الحديث من تسمية الأعمال إيمانا فأين في القرآن نفي اسم الإيمان عن شرائع الإسلام الواردة فيه، بل القرآن سمى بعض الأعمال إيمانا كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم.

فالحديث موافق للقرآن لا مخالف، ولا تأتي السنة بما يخالف القرآن البتة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.

ثانيها: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.

ثالثها: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما" 2.

1 مجموع الفتاوى 20/451-458 بتصرف.

2 أعلام الموقعين 2/307-309

ص: 380

الثاني: أن هذا الحديث متفق عليه مخرج في الصحيحين، والأحاديث التي في الصحيحين قطعية الثبوت، تفيد العلم القطعي باتفاق أئمة الإسلام واعتراف بعض الحنيفة 1. فمن استجرأ الطعن في حديث هو في الصحيحين فهو لا يؤذي إلا نفسه، فلا ينبغي لمسلم أن يطعن في الثقات أو يسيء الظن بهم. قال الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره: "أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع فإنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهوّن أمرهما مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين، فإن الشيخين لا يذكران إلا حديثا قد تناظرا فيه مشايخهما وأجمعوا على القول به والتصحيح له"2.

ثم إننا لا نسلم أن هذا الاختلاف في العدد يوجب الاضطراب في الحديث؛ لأن العدد الأقل لا يعارض العدد الأكثر، ولأن العدد الأقل داخل في العدد الأكثر. فرواية صحيح مسلم لا تعارض رواية صحيح البخاري، لأن رواية مسلم مشتملة على ما في رواية البخاري وزيادة، وهذه الزيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، هذا ما اختاره بعض العلماء فأخذوا لفظ:"بضع وسبعون" كالحليمي 3 والقاضي عياض 4 والألباني 5، وأخذ بعض المحدثين بلفظ "بضع وستون" كابن الصلاح 6 والبيهقي 7 وابن حجر8

1 انظر فيض الباري 1/45.

2 حجة الله البالغة 1/49.

3 فتح الباري 1/51.

4 فتح الباري 51.

5 سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/396-371.

6 فتح الباري 1/51.

7 فتح الباري 1/51.

8 فتح الباري 1/51.

ص: 381

وبهذا يتبين لنا ضعف اتسدلالاتهم وتهافتها، والقول الحق في هذه المسألة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة من أن الإيمان: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآيات من2-4".

وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة آل عمران: الآية175".

وقال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة المائدة: الآية23".

وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة الأنفال: الآية 1".

وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة التوبة: الآية13".

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة البقرة: الآية278".

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إن الله بالناس لرءوف رحيم} "سورة البقرة: الآية143".

ص: 382

"فمعنى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} : على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسوله"1.

وقال الحليمي: "أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فثبت أن الصلاة إيمان. وإذا ثبت ذلك فكل طاعة إيمان إذ لم أعلم فارقا فرّق في هذه التسمية بين الصلاة وسائر الطاعات"2.

وقد أورد أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان" قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} "سورة العنكبوت: الآيات من 1-3".

وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} "سورة العنكبوت: الآية10".

أوردها مستدلا بها على أن العمل من الإيمان ثم قال: "أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحن صدق القول بالفعل، ولم يكتف منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهم من الآخر؟ فأي شيء يُتَّبع بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده هم موضوع القدوة والإمامة"3.

وأما الأدلة من السنة فكثيرة جدا:

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا:

1 جامع البيان 2/18.

2 كتاب المنهاج في شعب الإيمان "3791".

3 كتاب الإيمان ومعالمه وسننه للقاسم بن سلام ص66.

ص: 383

الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمس ما غنمتم" 1.

قال ابن أبي العز بعد سوقه لهذا الحديث: " ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود"2.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" 3، زاد مسلم في رواية:"فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "4.

قال ابن مندة: "فجعل الإيمان شُعَبا بعضها باللسان بالشفتين، وبعضها بالقلب وبعضها بسائر الجوارح"5.

وقوله صلى الله عليه وسلم: حين سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله

1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان 1/129 ح"35"، ومسلم كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى 1/47 ح"24" كلاهما من طريق أبي جمرة عن ابن عباس.

2 شرح العقيدة الطحاوية ص381.

3 تقدم تخريجه ص424.

4 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان 1/63 ح"58" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

5 الإيمان 1/332.

ص: 384

ورسوله" 1 فأطلق العمل على الإيمان كما أطلق الإيمان على العمل.

وحكى اتفاق السلف على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، غيرُ واحد من أهل العلم كالشافعي 2 وأحمد3 والبخاري 4 وابن عبد البر 5 والبغوي 6.

قال عبد الرزاق الصنعاني: "سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا ـ ثم سردهم ـ يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"7.

وقال الوليد بن مسلم: "سمعت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز 8 ينكرون قول من يقول إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان"9.

وقال الإمام أحمد: "أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين

1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب من قال إن الإيمان هو العمل 1/77 ح"26". ومسلم كتاب الإيمان باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال "1/88-ف135".

كلاهما من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/886، 887.

3 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص228.

4 فتح الباري 1/47.

5 كتاب التمهيد 9238.

6 شرح السنة 1/38، 39.

7 شرح صحيح مسلم 1/146.

8 هو سعيد بن عبد العزيز التنوخي بفتح التاء وضم النون الدمشقي قال عنه الحافظ ابن حجر: "ثقة، إمام، ساواه أحمد بالأوزاعي، وقدمه أبو مسهر ولكنه اختلط في آخر عمره، من السابعة مات سنة سبع وستين ومائة وقيل بعدها" تقريب التهذيب 1/301؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 4/69.

9 عقيدة ابن جرير 10 ضمن المجموعة العلمية.

ص: 385

وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها الله صلى الله عليه وسلم فذكر منها: والإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" 1.

وقال البخاري: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص"2.

وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك، فقالا:

أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا؛ فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" 3.

وقال البغوي: "اتفقت الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان"4.

وقال الآجري: "باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمنا إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث:

ثم قال: اعلموا ـ رحمنا الله تعالى وإياكم ـ أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معهما الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة

1 مناقب الإمام أحمد ص228.

2 شرح أصول الاعتقاد للالكائي 1/173، 174.

3 أصل السنة لابن أبي حاتم ص225-226، طبع ضمن كتاب "أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة" لسعدي الهاشمي ط/ الجامعة الإسلامية.

4 شرح السنة 1/38، 39.

ص: 386

بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمنا دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين

" 1.

والأدلة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن سلف هذه الأمة في أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل كثيرة جدا. وأحب أن أختم هذا الفصل برد سفيان بن عيينة على من يقول الإيمان قول بلا عمل، فقد سأله رجل فقال: "كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة على أن يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالرجوع إلى مكة فيقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ويصلوا بصلاتهم ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه فقال: يا رسول الله هذه رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم، فلما علم الله تعالى صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدا وأن يحلقوا رؤوسهم تذللا ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم ولا قتل آبائهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة تطرهم فأمرهم ففعلوا حتى

1 كتاب الشريعة ص119.

ص: 387

أتوا قليلها وكثيرها، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم ولا قتل آبائهم ولا طوافهم، فلما علم الله تعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده. قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينا} "ٍسورة المائدة: الآية3".

فمن ترك خلة من خلال الإيمان جحودا بها كان عندنا كافرا ومن تركها كسلا ومجونا أدبناه وكان ناقصا، هكذا السنة أبلِغها عني من سألك من الناس" 1.

رزقنا الله الصدق في القول والإخلاص في العمل والله أعلم.

1 الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة 2/630.

ص: 388