الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان
منع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الاستثناء في الإيمان وهو أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله.
نص على ذلك غير واحد من أهل العلم كالتفتازاني 1 والنسفي 2 والسمرقندي 3، وابن الهمام4، وقاسم بن قطلوبغا 5. ومنع الاستثناء بناء على ما ذهب إليه في حقيقة الإيمان من أنه تصديق وإقرار باللسان، لأن القول بالاستثناء عنده يقتضي الشك في الإيمان؛ إذ التصديق أمر معلوم لا تردد فيه عند تحقيقه، ومن تردد في تحقيقه لم يكن مؤمنا قطعا. وإذا لم يكن الاستثناء للشك والتردد فالأولى أن يترك بل يقال: أنا مؤمن حقا دفعا للإيهام 6. واستدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على مذهبه بما يأتي:
1 شرح المقاصد 5/215.
2 بحر الكلام ص41.
3 الصحائف الإلهية ص461.
4 المسايرة 2/381، ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر وفي طبعة دائرة المعارف الإسلامية 2/229.
5 حاشية قاسم بن قطلوبغا على المسايرة 2/381 ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر وفي طبعة دائرة المعارف الإسلامية 2/229.
6 شرح المقاصد 5/215.
ورد في الوصية عن أبي حنيفة أنه قال: "المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا وليس في الإيمان شك، كما ليس في الكفر شك لقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآية4".
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} "سورة النساء: الآية151"1.
قال شارح الوصية: "أقول: إن من قام به التصديق فهو مؤمن حقا، ومن قام به خلافه فهو كافر حقا
…
قال أهل السنة والجماعة: إذا أتى بالإيمان يقول أنا مؤمن حقا من غير شك ولا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله..كذا في بحر الكلام" 2.
واستدل أصحاب أبي حنيفة لمذهبه ذلك بوجوه:
أحدها: أنه تقرر أن الإيمان اسم للتصديق، والتصديق من المعاني الحقيقية المعلومة التي إذا تحققت في محل وجب إتصافه بها كالقعود والجلوس والسواد والبياض، ولا شك أن هذه الأوصاف إذا حصلت لشيء صح أن يقال له قاعد، جالس، أسود، أبيض، لا محالة بدون استثناء. فكذلك الإيمان إذا حصل لشخص صح أن يقال إنه مؤمن حقا بدون استثناء" 3.
الثاني: "أن من فرق بين الاستثناء في كونه مؤمنا عنده، وبين الاستثناء في كونه مؤمنا عند الله بأن يقول: أنا مؤمن ـ أي عندي ـ بلا استثناء، ولكن أنا مؤمن عند الله إن شاء الله، فتفريقه هذا باطل لأن
1 الوصية مع شرحها لحسين بن اسكندر الحنفي ص4.
2 شرح كتاب الوصية ص4.
3 تبصرة الأدلة "340/ب".
الإيمان إذا تحقق في الحقيقة كان صاحبه مؤمنا عند الله حقيقة أيضا؛ إذ لا شك في حصول الإيمان الآن، وإنما الشك في كون الإيمان باقيا عند موت صاحبه؛ لأن كون الرجل يموت على الإيمان خارج عن موضوعنا هذا.
بل الكلام في صحة إطلاق المؤمن على من عنده إيمان لا استثناء، سواء يبقى هذا الإيمان أم يزول، كما أن من حصل له القعود والقيام صح إطلاق قاعد وقائم عليه بلا استثناء سواء يزول القعود والقيام أم لا"1.
الثالث: "أن الله سبحانه وتعالى قد شهد قطعا بالإيمان لمن آمن بالله ورسله بدون استثناء فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} "سورة البقرة: الآية285"
…
"2.
الرابع: "أن الله تعالى مدح المؤمنين بقطعهم بإيمانهم دون استثناء حيث قال حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} "سورة آل عمران: الآية193".
ولم يأمرهم بالاستثناء" 3.
الخامس: "أن الاستثناء يرفع جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع فكذلك يرفع عقد الإيمان"4.
السادس: استدل قاسم بن قطلوبغا بحديث الحارث بن مالك الأنصاري ولفظه: "أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟
1 تبصرة الأدلة "340/ب-341/أ" الأزهرية.
2 تبصرة الأدلة ""341/ب".
3 بحر الكلام ص40.
4 حاشية قاسم بن قطلوبغا على المسايرة 2/381-382.
قال: أصبحت مؤمنا حقا".
وحديث عبد الله بن زيد الخطمي ولفظه: "إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت فلا يشك".
وحديث علي بن أبي طالب ولفظه: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا عويمر أبو الدرداء فقال: يا نبي الله، إني أقول: أنا مؤمن حقا فقال: يا أبا الدرداء، إن لم تقل حقا فكأنك قلتَ أنا مؤمن باطلا".
الجواب عن أدلة أبي حنيفة وأصحابه:
"أ" الجواب عن دليل أبي حنيفة:
قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا وليس في الإيمان شك، كما ليس في الكفر شك
…
".
الجواب عنه:
إن هذا استدلال في غير محله، لأن قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . ورد بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".
فالمؤمنون حقا هم المتصفون بهذه الصفات، وليس كل مؤمن كذلك. فهؤلاء هم الكمّل من المؤمنين الذي حققوا الإيمان ظاهرا وباطنا. ومن لم يتصف بتلك الصفات التي ذكرها الله لم يكن مؤمنا حقا، وإن كان مؤمنا، كما يفيد ذلك القصرُ في قوله تعالى:{حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآيات4".
المعنى هؤلاء هم المؤمنون حقا لا غيرهم، فكيف يصح مع ذلك أن يقول كل من حصل له أصل الإيمان أنا مؤمن حقا. أما قوله: "فليس في
الإيمان شك". فنعم، إن الشك ينافي صحة الإيمان فلا يجتمع الإيمان والشك. وهذا لا يوجب منع الاستثناء في الإيمان على وجه البراءة من تزكية النفس، لكن يوجب منع الاستثناء على وجه التردد، وهذا لا يصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يقصده من يعلم من نفسه الإيمان واليقين.
"ب" الجواب عن أدلة أصحاب أبي حنيفة:
الدليل الأول:
"إنه تقرر أن الإيمان اسم للتصديق، والتصديق من المعاني الحقيقية المعلومة
…
".
الجواب عنه:
يقال: إن أساس هذه الشبهة هو أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص. وهذا الأساس باطل والحق المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الإيمان هو التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان كما تقدم بيانه.
وإذا ثبت أن الإيمان شيء مركب من أمور ثلاثة وأنه يزيد وينقص وأن الإيمان له مقتضيات ومتطلبات قد لا تتوفر في مدعي الإيمان، فليس الإيمان مثل القعود والقيام ونحوهما من الأمور المحسوسة المعلومة بالقطع، حتى يقطع الإنسان بأنه مؤمن كما يقطع بأنه قاعد أو قائم، لأن الإيمان من الكيفيات النفسانية ومن الأمور غير المحسوسة، فلا يمكن للإنسان أن يجزم قطعا بأنه أتى بجميع متطلبات الإيمان وجميع مقتضياته، وأنه قد تجنب جميع ما يناقض الإيمان ويخالفه إذا فقياس "الإيمان" على "القيام والقعود" قياس مع الفارق، لأن الإنسان إذا قام أو قعد صح أن يقال عنه: إنه قائم أو قاعد لأن ذلك من الأمور المحسوسة التي تختلف عن الأمور القلبية والنفسية كالإيمان الذي له مقتضياته ومتطلباته فإذا قال:
أنا مؤمن "بدون الاستثناء " فقد زكى نفسه بشيء لم يتوفر فيه مقتضياته وقال قولا بدون علم.
فالحاصل أن قياس الإيمان على القيام والقعود باطل، لأنه قياس مع الفارق، وتمثيل في غير محله، وخارج عن الموضوع والله أعلم.
الدليل الثاني:
"إن من فرق بين الاستثناء في كونه مؤمنا عنده، وبين الاستثناء في كونه مؤمنا عند الله
…
".
الجواب عنه:
يقال: إن هذه الشبهة مبنية على أساسين:
الأول: أنه ظن أن الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة والخاتمة، لا لأجل الإيمان الموجود الآن.
الثاني: أنه لا فرق بين كون الرجل مؤمنا عند نفسه وبين كونه مؤمنا عند الله.
وكلا هذين الأساسين ممنوع:
أما الأول: فلأن سلف هذه الأمة وأئمة السنة لم يقولوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة، والخاتمة، وليس هذا مأخذهم في جواز الاستثناء قطعا، وهذا خارج عن محل النزاع، بل محل النزاع هو الإيمان الحالي الموجود الآن، فكان سلف هذه الأمة وأئمة السنة يرون جواز الاستثناء في الإيمان الموجود بقطع النظر عن الموافاة والخاتمة لئلا يقع الإنسان في تزكية نفسه بدون علم.
والذي ظن أن السلف إنما كانوا يجوِّزون الاستثناء في الإيمان، إنما أرادوا الموافاة والخاتمة فقد أبعد النجعة وأتى بالباطل وكذب على سلف
هذه الأمة أو أخطأ عليهم في بيان تفسير مأخذهم ظنا منه أن هذا هو مذهب السلف، فأخطأ في بيان مذهبهم، ومثل هذا قد وقع فيه بعض الكلابية والأشعرية بل بعض من ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيرهم أيضا، مع أن كلام بعض السلف صريح في أن الاستثناء في الإيمان لأجل أن ألا يقع الإنسان في تزكية نفسه، ولم يقل أحد منهم إن الاستثناء لأجل الموافاة والخاتمة 1.
وأما الثاني: فلا شك أن الرجل يكون مؤمنا عند نفسه ولا يكون مؤمنا عند الله، كالذي يرتكب شركا أكبر أو غيره من نواقض الإسلام ومع ذلك يظن أنه مؤمن وهذا واضح أفلا يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر؟ فكيف مع ذلك يقال أن من كان مؤمنا عند نفسه يجب أن يمون مؤمنا عند الله".
ولا شك أن من كان مؤمنا كما أمر الله فهو مؤمن عند الله، ولا يقدح فيه الاستثناء الذي منشؤه الحذر من تزكية النفس، وإنما يقدح فيه الاستثناء الذي منشؤه الشك. ومعلوم أن الاستثناء على هذا الوجه لا يصدر من مؤمن صحيح الإيمان؛ لأن الإيمان والشك لا يجتمعان.
الدليل الثالث:
"إن الله سبحانه وتعالى قد شهد قطعا بالإيمان لمن آمن بالله ورسله بدون استثناء
…
".
الجواب عنه:
يقال: إن قياس شهادة العبد لنفسه بالإيمان بدون استثناء على شهادة الله تعالى للمؤمنين بالإيمان بدون الاستثناء قياس باطل، لأن الله
1 انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص319، 413، 418، 419، 426.
تعالى لا يقول إلا حقا ولا يشهد إلا على حق واقع، فإذا شهد الله تعالى لشخص أو أشخاص بالإيمان دل ذلك قطعا ويقينا على حصول الإيمان وأنهم مؤمنون. وهكذا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخص بالإيمان دليل على كونه مؤمنا حقا يقينا، أما شهادة الناس بعضهم لبعض بالإيمان، أو شهادة الشخص لنفسه بالإيمان؛ فقد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة، ولهذا أنكر الله تعالى على الأعراب حين ادّعوا الإيمان حين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم قال تعالى:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة الحجرات: الآية14".
فقد ظنوا أنفسهم مؤمنين كغيرهم من المؤمنين المجاهدين الصادقين المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} "سورة الحجرات: الآية15".
ولم يكن هؤلاء الأعراب كذلك.
الدليل الرابع:
" أن الله تعالى مدح المؤمنين بقطعهم بإيمانهم دون استثناء
…
"
الجواب عنه:
يقال: ما في هذه الآية خارج عن محل النزاع لأن النزاع في قول القائل: أنا مؤمن إن شاء الله بصيغة اسم الفاعل وبالجملة الاسمية التي تدل على الثبات والدوام فتشعر بالكمال الذي في دعواه تزكية النفس، وأما الجملة الفعلية فهي بخلاف ذلك، ثم إنها في الآية قد وردت في مقام التوسل إلى الله، لا في مقام الإخبار عن النفس في خطاب الناس الذي تدخله الدعوى والفخر. وفي ضوء هذا الفرق بين الجملة الاسمية والفعلية
يجوز أن يقول المرء: آمنت بالله ورسله وكتبه بدون استثناء وقد كان السلف يرون الاستثناء في الإيمان بأن يقول المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، ولكن لو قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله لم يحتج للاستثناء.
قال الإمام أبو بكر الخلال جامع علوم الإمام أحمد: "أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني رجل أمؤمن أنت؟
قال: سؤاله إياك بدعة، لا يشك في إيمانك أو قال لا نشك في إيماننا.
قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله"1.
وهذا لأن المرء إذا قصد الإيمان المطلق الكامل ينبغي له أن يستثني، وإذا قصد مطلق الإيمان فلا يحتاج إلى الاستثناء. قال شيخ الإسلام: "
…
فلما علم السلف مقصدهم ـ يعني كيد المرجئة ـ صاروا يكرهون الجواب ـ أي جواب قولهم أمؤمن أنت ـ أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب عن المطلق بلا استثناء يقدمه" 2.
1 السنة للخلال ص601 وقال محققها: إسناده صحيح ونقل كلام الإمام أحمد هذا بهذا الإسناد بالجزم شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/449.
2 كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/448، 449.
وقال: فصل:
وأما الاستثناء في الإيمان
…
فالناس فيه على ثلاثة أقوال:
منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال
…
"1.
فتبين بهذا أن قول السلف في الاستثناء راجع إلى أن الإيمان يزيد وينقص فلما كان الإيمان منه مطلق ومقيد فهو على مرتبتين: مرتبة الإيمان المطلق الكامل، ومرتبة مطلق الإيمان؛ فأجازوا الاستثناء في الأول دون الثاني.
الدليل الخامس:
"إن الاستثناء يرفع جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع فكذلك يرفع عقد الإيمان".
الجواب عنه:
أن يقال هذا من التلبيس، فإنه ليس النزاع في الاستثناء في عقد الإيمان، وهو ما يحصل به الدخول في الإسلام؛ فإن ذلك عقد ينافيه الاستثناء، وإنما النزاع في قول المسلم مخبرا عن نفسه: أنا مؤمن وهذا إخبار وليس بإنشاء.
الدليل السادس:
استدل قاسم بن قطلوبغا بحديث الحارث بن مالك الأنصاري ولفظه: "أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا".
وحديث عبد الله بن زيد الخطمي ولفظه: " إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت فلا يشك ".
1 كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/429.
وحديث علي بن أبي طالب ولفظه: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا عويمر أبو الدرداء فقال: يا نبي الله، إني أقول: أنا مؤمن حقا فقال: يا أبا الدرداء، إن لم تقل حقا فكأنك قلتَ أنا مؤمن باطلا".
الجواب عنه:
أما حديث الحارث بن مالك فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 3/302 من طريق زيد بن الحباب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم، عن الحارث بن مالك، قال الهيثمي:"رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه"1.
فيظهر لي أنه أراد بمن يحتاج إلى الكشف عنه محمد بن الجهم فلم أر من ترجم له سوى الحافظ ابن حجر، إذ ذكره في القسم الرابع من الإصابة وقال: إنه من أتباع التابعين 2. وعلى هذا فإسناد هذا الحديث منقطع؛ إذ محمد بن الجهم لم يدرك أحدا من الصحابة. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/129 ح"2114" من طريق معمر عن صالح بن مسمار وجعفر بن برقان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للحارث بن مالك، وأخرجه ابن المبارك في كتاب الزهد ص106 ح"314" من طريق معمر عن صالح بن مسمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك، وأورده ابن حجر في الإصابة وقال:"هو معضل"3.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 11/43 ح"10474" وفي كتاب
1 مجمع الزوائد 1/57.
2 الإصابة 6/330.
3 1/303. والمعضل هو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر بشرط التوالي وإن لم يكن بالتوالي فهو منقطع. انظر تدريب الراوي 1/211.
الإيمان ص38 من طريق ابن نمير عن مالك بن مغول عن زبيد. قال الألباني في حاشيته على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: "والحديث معضل فإن زبيدا من الطبقة السادسة التي لم تلق أحدا من الصحابة".
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار 1/26 ح"32"، والبيهقي في الشعب كما في الإصابة 1/303 كلاهما من طريق يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس بن مالك.
قال البزر على أثره: "تفرد به يوسف وهو لين الحديث".
وقال الهيثمي: "رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به"1.
وقال البيهقي كما في الإصابة: "منكر وقد خبط فيه يوسف فقال: مرة: الحارث، وقال مرة: حارثة"2.
قلت: يوسف بن عطية قال عنه الحافظ في التقريب: "متروك"3.
وأما حديث عبد الله بن زيد الخطمي فأخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 1/55، وقال عنه الهيثمي:"وفي إسناده أحمد بن بديل وثقه النسائي وأبو حاتم وضعفه آخرون".
قلت: قال فيه الحافظ في التقريب: "صدوق له أوهام"4.
لكن الحديث لو صح؛ لم يكن دليلا على منع الاستثناء في الإيمان الذي يقول به أهل السنة، بل على منع الاستثناء الذي يتضمن الشك والتردد في الإيمان، وهو محرم عند الجميع، لأنه يناقض الإيمان. فالحديث يدل
1 مجمع الزوائد 1/57.
2 الإصابة 1/303.
3 2/38
4 التقريب 1/11.
على منع الشك في الإيمان، لا على منع الاستثناء الذي يقول به أهل السنة خوفَ التزكية بدون علم مع عدم "الشك" في الإيمان. وهذا الحديث لا ينافي الاستثناء فضلا عن أن الاستدلال بهذا الحديث باطل.
وأما حديث علي فأخرجه غنجار في تاريخ بخارى، كما في حاشية ابن قطلوبغا على المسايرة 1، ولم يذكر إسناده حتى ينظر فيه، وحسبه أنه غير صحيح؛ لأنه يستبعد أن يكون هناك حديث مرفوع إسناده صحيح وتهمله جميع دواوين السنة ليحفظه لنا غنجار في تاريخ بخاري، ثم إن لفظه أشبه بلفظ الأحاديث الموضوعة البعيدة عن حسن بيانه صلى الله عليه وسلم وفصاحة تعبيره. ثم إن المستدل به لا يقول بمقتضاه وهو وجوب قول العبد: أنا مؤمن حقا بل يكفي عندهم قول: أنا مؤمن.
فواعجبا لأهل الكلام يقولون: إن أخبار الآحاد ظنية فلا يحتجون بها في العقائد، ثم يحتجون بمثل هذا الحديث الذي لا يعرف في كتب السنة المسندة، أليس هذا تناقضا واضحا؟.
وبعد فقد تبين مما تقدم ضعف القول بتحريم الاستثناء في الإيمان، كما هو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه. ويقابل هذا القول قول طائفة أوجبت الاستثناء، لأن الإيمان عندهم هو ما يموت عليه صاحبه، والإنسان لا يعلم هل يموت مؤمنا أو كافرا، ولا يعتدون بالإيمان السابق قبل الموافاة 2. فعلى هذا الاعتبار قالوا بوجوب الاستثناء، ونسبه شيخ الإسلام إلى الكلابية وغيرهم ممن يرون الاستثناء مع القول بعدم تفاضل الإيمان
…
قال شيخ الإسلام: "وهذا المأخذ مأخذ كثير من
1 2/229.
2 مجموع الفتاوى 7/429، 430.
المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله؛ ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه وإنما يشك في المستقبل" 1.
فدعوى أن الإيمان المعتبر عند الله هو ما يوافي عليه العبد ربه، وأنه لا عبرة به قبل ذلك غير صحيحة، وطرد هذا أن الكافر ليس بكافر في الحال إلا بشرط أن يموت على الكفر، ثم إن هذا المعنى ليس هو تعليل السلف فهم لم يوجبوا الاستثناء لأجل هذا، وإنما قالوا بوجوبه خشية تزكية الإنسان لنفسه بدون علم. فالموافاة عندهم شرط بالفوز ودخول الجنة، لا شرط في ثبوت الإيمان في الحال.
وهناك مأخذ ثان: وهو أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله 2.
فهذا المأخذ يقتضي وجوب الاستثناء لكن لا يمنع من ترك الاستثناء إذا أريد أصل أو مطلق الإيمان. وقول الطائفتين خطأ. القول بتحريم الاستثناء مطلقا أو وجوبه مطلقا، والمذهب الحق هو الوسط؛ فلا إفراط ولا تفريط وهو الذي عليه السلف؛ فأجازوا الاستثناء باعتبار، ومنعوه باعتبار آخر، فأجازوه خوف تزكية الإنسان نفسه، ومنعوه إذا أراد المستثني الشك في أصل إيمانه 3.
1 مجموع الفتاوى 7/430.
2 مجموع الفتاوى 7/446.
3 انظر كتاب الشريعة ص136، شرح العقيدة الطحاوية ص334.
قال الآجري: "من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال بالإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سألوا: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار وأشباه هذا، والناطق بهذا، والمصدق به بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء بالإيمان لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عز وجل به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك وبينه العلماء من قبلنا
…
"1.
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن السلف سلكوا مسلكا وسطا في الاستثناء وتركه، وفصلوا في ذلك، فلم يقولوا بتحريم الاستثناء مطلقا كقول المرجئة، ولا بوجوب الاستثناء مطلقا كقول الكلابية، وإنما أوجبوه في حال، ومنعوه في حال، مستدلين بأدلة 2 من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} "سورة الفتح: الآية27".
1 كتاب الشريعة ص136.
2 انظر هذه الأدلة في كتاب الشريعة ص136-140؛ وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/965-985.
وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا} "سورة الكهف: الآيتان 23-24".
أما من السنة النبوية فحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" 1.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" 2.
وورد الاستثناء عن بعض الصحابة والتابعين من ذلك ما رواه أو عبيد القاسم بن سلام: "أن رجلا قال عند ابن مسعود: أنا مؤمن فقال ابن مسعود: أأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى"3.
وروى اللالكائي عن جرير بن عبد الحميد قال: "كان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسييب
1 أخرجه مسلم كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها 2/669 ح"102" من طريق عطاء ابن يسار عن عائشة.
2 أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب لكل نبي: دعوة مستجابة 11/96 ح"304" من طريق الأعرج عن أبي هريرة، ومسلم كتاب الإيمان باب اختيار النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 1/188 ح"334" من طريق أبي سلمة بن عبد الله عن أبي هريرة.
3 كتاب الإيمان للقاسم بن سلام ص67.
وابن شبرمة 1 وسفيان الثوري وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني" 2.
وروى الآجري عن الفضل بن زياد قال: "سمعت أبا عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك فقال: معاذ الله أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} "سورة الفتح: الآية27".
وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله فأي شك ها هنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 3
…
" 4.
إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة، فالمقصود أن من أوجب الاستثناء مطلقا؛ فقد بالغ في إثبات الاستثناء وأفرط في ذلك، ومن حرم الاستثناء مطلقا واستند إلى دعوى لم تصح وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي فحسب؛ فقد غالط وخالف النصوص وفرق. وأما من يوجبه في حال ويمنعه في حال آخر؛ فهو أسعد الناس بالدليل لحرصه على مسايرة النصوص الشرعية واتباع ما تدل عليه دون إفراط ولا تفريط.
1 هو عبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي الكوفي قال عنه ابن حجر: "أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة مات سنة أربع وأربعين ومائة".
تقريب التهذيب 1/422. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 5/250.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/979.
3 تقدم تخريجه.
4 كتاب الشريعة ص138.