الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها
أولا ـ الصفات الذاتية
1-
العلو:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يعتقد أن الله في السماء. دل على هذا قوله: "من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض"1.
وقال للمرأة التي سألته أين إلهك الذي تعبده؟ قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} "سورة الحديد: الآية4".
قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 2.
1 الفقه الأبسط ص49، ونقل نحو هذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 5/48، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص139، والذهبي في العلو ص1012، 102، وابن قدامة في العلو ص116، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ص301.
2 الأسماء والصفات ص429.
قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عز وجل في السماء"1.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب الأبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه"2.
وما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه هو اعتقاد سائر الأئمة. وقد تضافرت على إثبات صفقة العلو دلالة الفطرة والعقل والشرع. وقد تقدم ذكر استدلال الإمام أبي حنيفة بدليل الفطرة 3، وتنوعت أدلة العلو من الكتاب والسنة أوصلها العلامة ابن القيم إلى عشرين نوعا منها:
1-
التصريح بالفوقية مقرونا بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} "سورة النحل: الآية50".
1 الأسماء والصفات ص439-440.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص37.
3 ص239، وفي تقرير دليل الفطرة تفصيلا يقول الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة:"وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات فصار من الأرض إلى السماء إلى العرش فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا من علمه في خلقه لا يخرجون من علمه". انظر كتاب العرش لابن أبي شيبة ص51.
2-
ذكرها مجردة عن الأداة كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} "سورة الأنعام: الآية61".
3-
التصريح بعروج بعض المخلوقات كقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} "سورة المعارج: الآية4".
4-
التصريح بالصعود إليه وبرفعه بعض المخلوقات كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} "سورة النساء: الآية158"، وكقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} "سورة فاطر: الآية10".
5-
التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} "سورة الشورى: الآية4".
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} "سورة سبأ: الآية23".
6-
التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} "سورة غافر: الآية2".
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "سورة فصلت: الآية2".
7-
التصريح بأنه تعالى في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} "سورة الملك: الآية16".
8-
التصريح بالاستواء مقرونا بأداة "على" مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.
9-
الإشارة إليه إلى العلو حسا كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم
بربه حيث قال: "أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت؟ فرفع أصبعه الكريم إلى السماء قائلا: "اللهم اشهد " 1.
10-
التصريح بلفظ الأين، كقول أعلم الخلق به وأنصحهم في أمته:"أين الله "2.
والقول بالعلو هو اعتقاد الصحابة والتابعين وجميع المسلمين قبل ظهور المبتدعة. قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرين نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة الصحيحة من صفاته"3.
قال ابن تيمية: "وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله عز وجل فوق عرشه، والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك القول"4.
وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية"5. وأقوال السلف في ذلك كثيرة. ولو ذهبت في إيراد أقوالهم لطال بنا المقام، ولكن أحيل القارئ الكريم إلى كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية للعلامة ابن القيم، وكتاب العلو للحافظ الذهبي، فقد نقلا عن أكثر من مائة إمام
1 أخرجه مسلم: كتاب الحج باب صحبة النبي صلى الله عليه وسلم 2/886 ح1218 من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله.
2 تقدم تخريجه ص233.
3 الأسماء والصفات ص408؛ وفتح الباري 13/406.
4 مجموع الفتاوى 5/39.
5 السنة لعبد الله بن أحمد ص13؛ والرد على الجهمية للدارمي ص67؛ والأسماء والصفات ص427.
من أئمة المسلمين كلهم يصرحون بعلو الله واستوائه على عرشه.
هذه هي عقيدة الإمام أبي حنيفة في العلو والفوقية، ولا يلتفت إلى بعض المنتسبين إلى مذهبه ممن أنكر العلو وبقية الصفات أو بعضها، فهم مخالفون في له في كثير من اعتقاداته، قال ابن أبي العز:"فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداتهم، وقد ينسب إلى مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم"1.
هذا وإن اللبيب ليعجب من حشد أنواع الأدلة 2 على قضية كهذه واضحة وضوحا ظاهرا وجلاء بينا، لولا ما تسرب لعقول كثير من المسلمين من شبهات المبتدعة التي أعمت بصائر كثير من الناس وصيرت القضايا البدهية اليقينية نظرية ظنية.
2-
صفة اليدين:
يثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يدين حقيقيتين لله تعالى تليقان به تعالى لا تشبههما أيدي المخلوقين، يدل على هذا قوله:"وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد فهو له صفات بلا كيف"3.
1 شرح العقيدة الطحاوية ص302.
2 الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه كثيرة جدا وقد تتبعها بعض أئمة السنة فوجدوها أكثر من ألف دليل.
انظر الجواب الصحيح 3/84؛ والصواعق المرسلة 4/1279.
3 الفقه الأكبر ص302.
وقال كذلك: "يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه"1.
ولقد ورد إثبات اليدين في عدة مواضع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي القرآن جاء في سورة المائدة قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "سورة المائدة: الآية64".
أما في السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} "سورة ص: الآية75".
ضمن كتاب التوحيد، أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة كلها تثبت صفة اليدين لله تعالى منها:
حديث أنس بن مالك مرفوعا في الشفاعة العظمى وفيه: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا إلى ربك
…
" 2.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك
…
" 3.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله
1 الفقه الأبسط ص56.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/392 ح7410 من طريق قتادة عن أنس.
3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7412 من طريق نافع عن ابن عمر.
ملأى لا يغيضها نفقة سحًّا1 الليل والنهار
…
" 2.
فهذه النصوص دالة على إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى وهي لا تحتمل التأويل بحال ولا يمكن حمل اليدين إلا على الحقيقة ومن لم يحملها على الحقيقة فهو معطل لتلك الصفة ولقد رد الإمام أبو حنيفة على من لم يحمل النصوص على الحقيقة وتأول صفة اليدين بالقدرة أو النعمة فقال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف"3.
فاليد غير القدرة عند الإمام أبي حنيفة بل هي صفة قائمة بذات الله تعالى تليق به وبجلاله وعظمته.
3-
4- صفتا الوجه والنفس:
أثبت الله لذاته المقدسة صفة الوجه في أربع عشرة 4 آية من آي الذكر الحكيم قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} "سورة الرحمن: الآية27".
وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} "سورة القصص: الآية88".
وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} "سورة الإنسان: الآية9".
وأثبت له الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الوجه في أحاديث معروفة مشهورة، منها
1 سحّا: السح هو الصب الدائم. انظر النهاية 2/345.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7411 من طريق الأعرج عن أبي هريرة.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 عقيدة المسلمين 2/215.
حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا وفيه: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط 1 ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه 2 النور".
وفي رواية: "لو كشفه لأحرقت سبحات 3 وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"4.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بوجه الله، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال:"لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم "أعوذ بوجهك" فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أيسر" 5.
1 القسط الميزان ويسمى قسطا لأن القسط: العدل وبالميزان يقع العدل.
كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/13.
2 الحجاب في اللغة: المنع والستر، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمِّي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لبشاعتهما. كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/14.
3 السُبُحات: بضم السين والباء ورفع التاء في آخره: جمع سُبحة، ومعنى سبحات عند اللغويين والمحدثين: نوره وجلاله وبهاؤه ـ كذا شرح صحيح مسلم للنووي 3/13-14.
4 أخرجه أحمد في المسند 4/395، 400، 401، 405. ومسلم: كتاب الإيمان باب قوله عليه السلام: إن الله لا ينام 1/161 ح293، والدارمي في الرد على الجهمية ص31، وابن خزيمة في التوحيد ص75، والآجري في الشريعة ص304.
جميعهم من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري.
5 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 13/388 من طريق حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك "1.
وأثبت الله لذاته المقدسة صفة 2 النفس في غير ما موضع من آي الذكر الحكيم، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة.
فمن تلك الأدلة من القرآن قول الله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} "سورة الأنعام: الآية12".
وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} "سورة آل عمران: الآية28".
وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} "سورة المائدة: الآية116".
وقال أعلم الناس بربه: "أسألك بكل اسم سميت به نفسك.. ."3.
1 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/185 ح24 من طريق قيس بن عباد عن عمار بن ياسر. قال الألباني: "حديث صحيح".
2 عدَّ كثير من أهل السنة "النفس" من صفات الله تعالى. انظر الفقه الأكبر بشرح القاري ص58، وكتاب التوحيد لابن خزيمة 1/11، 12، وأقاويل الثقات ص186، وقطف الثمر ص66، وذهب شيخ الإسلام أن المراد من النفس هو ذات الله وعينه لا صفة له. انظر مجموع الفتاوى 9/192، 193، 4/196، 197، وكذا البخاري فإنه ذكر نصوص "النفس" بدون التصريح أنها صفة، ومراده أنه يجوز إطلاق النفس على الله لورود النص هكذا فسر مراده الهاشمي في شرحه لكتاب التوحيد ص70، وللشيخ عبد الله الغنيمان كلام حسن وفق بين قولي أهل السنة في "النفس". انظر شرحه لكتاب التوحيد 1/249، 255.
3 أخرجه أحمد في المسند 1/391، والطبراني في المعجم الكبير 10/209، 210، وابن حبان كما في موارد الظمآن ص589 كلهم من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود وأورده الهيثمي في المجمع 10/136، قال:"رجال أحمد وأبو يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
…
" 1.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش ـ إن رحمتي تغلب غضبي"2. فما أثبته الله لذاته المقدسة من الصفات، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وجب إثباته من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، يقول ابن خزيمة:"فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، ونقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجوه أحد من المخلوقين، وعزّ ربنا أن نشبّهه بالمخلوقين وجلّ ربنا عما قالت المعطلة"3.
ومن جملة تلك الصفات صفتا الوجه والنفس، فأثبتوهما لله حقيقة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل. وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به. دل على ذلك قوله:"وله يد ووجه ونفس كما ذكر الله في القرآن، فما ذكره الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف"4.
1 أخرجه مسلم: كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود 1/352 ح486 من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة.
2 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/384 ح7404، ومسلم: كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2107 ح2751. كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
3 التوحيد لابن خزيمة ص10، 11.
4 الفقه الأكبر ص302.
5-
6- صفتا السمع والبصر.
الله تعالى له سمع وبصر على ما يليق بجلال الله وعظمته. وهما صفتان حقيقيتان، فكما له ذات حقيقية لا تشبه ذوات الخلق، فله صفات حقيقية لا تشبه صفات الخلق، ولقد ورد إثبات صفة السمع في سبع وخمسين آية، وإثبات صفة البصر في خمسين آية من آيات الذكر الحكيم 1.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} "سورة البقرة: الآية127".
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} "سورة المجادلة: الآية1".
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} "سورة النساء: الآية134".
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
***
وأما الأدلة من السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} .
ضمن كتاب التوحيد أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة تثبت صفتي السمع والبصر لله تعالى وهي:
1-
حديث أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
1 عقيدة المسلمين ص482-486.
سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: اربعوا 1 على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا بصيرا قريبا
…
" 2.
2-
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك"3.
وهاتان الصفتان من صفات الكمال ونعوت الجلال ألا ترى الخليل عليه السلام كما أخبر الله عنه يوبخ أباه بقوله: {لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} "سورة مريم: الآية42".
وقال تبكيتا لعباد الأصنام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} "سورة الشعراء: الآيتان 72،73".
فدل ذلك على أن المودع في الفطر أن من شأن الإله أن يكون سميعا يجيب من دعاه، بصيرا يرى من يعبده4، فالله لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي، فيسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى كل شيء وإن خفي قريبا أو بعيدا فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار" 5.
1 اربعوا: بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة من ربع ـ الثلاثي ـ أي ارفقوا، ولا تجهدوا أنفسكم. انظر فتح الباري 11/188.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7386؛ ومسلم في كتاب الذكر والدعاء باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/2076 ح2704 كلاهما من طريق أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري.
3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7389 من طريق عروة عن عائشة.
4 انظر العقائد السلفية ص63.
5 الكواشف الجلية ص147.
فالمقصود أن الله تعالى له سمع يسمع به، وبصر يبصر به حقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته. هذا ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهذا هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به، دل على ذلك قوله:" ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا"1.
وقال في مقام تبيينه لصفة الكلام: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
7-
العلم:
أثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، صفة العلم لله عز وجل وأنه عليم بعلم لا يشبه علم المخلوقين دل على ذلك قوله:"يعلم لا كعلمنا"3.
وعلم الله شامل جميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها. يعلم كليات وجزئيات الأمور، وعلمه محيط بجميع الأشياء في كل الأوقات، أزلا وأبدا فقد علم تعالى في الأزل جميع ما هو خالق، وعلم جميع أحوال خلقه وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، شقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار. وفي ذلك يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مبينا سعة علم الله وإحاطته لكل شيء: "يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه، ومعدوما يعلم أنه كيف يكون إذا أوجده، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما، وإذا قعد علمه قاعدا
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأكبر ص302. مقتبسا من القرآن الكريم سورة الشورى، الآية 11.
3 الفقه الأكبر ص301.
في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم ولكن التغير والاختلاف يحدثان في المخلوقين" 1.
ورد على غلاة القدرية الذين يقولون: "إن الله لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها"2.
حيث قال: "وكان الله تعالى عالما في الأزل قبل كونها"3.
وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال:
"لم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم"4.
وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص" 5.
وقال: "خلق الخلق بعلمه"6.
وما يعتقده الإمام في صفة العلم هو ما دلت عليه الأدلة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} "سورة الأنعام: الآية59".
1 الفقه الأكبر ص302، 303.
2 انظر الفرق بين الفرق ص114-116، والملل والنحل 1/45، ومجموع الفتاوى 7/381.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص31.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "سورة لقمان: الآية34".
وكقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "سورة البقرة: الآية282".
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} "سورة التوبة: الآية78".
وكقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} "سورة الأنعام: الآية3".
ومن السنة عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . ضمن كتاب التوحيد أورد فيه حديثين صحيحين يثبتان صفة العلم لله تعالى وهما:
1-
حديث ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله"1.
2-
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم
1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/361 ح7379، من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
الغيب فقد كذب، وهو يقول:"لا يعلم الغيب إلا الله"
…
" 1.
وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلم السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، وقدّر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته"2.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني"3. فالنصوص الشرعية الدالة على صفة العلم كثيرة. فأهل السنة والجماعة آمنوا بها وأثبتوا ما تدل عليه من معنى ونفوا الكيفية، أما الجهمية والمعتزلة فأنكروا أن يكون لله علم أضافه لنفسه، وجحدوا أن يكون قد أحاط بكل شيء علما، وحاربوا النصوص الدالة على ذلك. فمعبودهم على هذا الاعتقاد ليس العليم الخبير الذي هو بكل شيء عليم، وإنما يعبدون العدم.
1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/261 ح7380، من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة.
2 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب الدعاء عند الاستخارة 11/183 ح6382 من طريق محمد بن المنكدر عن جابر.
3 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت" 11/196 ح6399، من طريق أبي بردة عن أبي موسى.
8-
10- الحياة والقدرة والإرادة:
الحياة والقدرة والإرادة صفات ذاتية أثبتها الإمام أبو حنيفة. دل على ذلك قوله: " أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة "1.
وهي صفات حقيقية أزليّة لائقة بالله لا تشبه صفات المخلوقين قال الإمام أبو حنيفة: "لم يزل قادرا بقدرته، والقدرة صفة في الأزل"2.
وقال: "لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته"3.
وقال: " ويقدر لا كقدرتنا"4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عله يسير لا يحتاج إلى شيء:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.
وقال: "حي لا يموت قيوم لا ينام"6.
وقال: "ولا يكون إلا ما يريد"7.
1 الفقه الأكبر ص301.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 الفقه الأكبر ص301.
4 الفقه الأكبر ص302.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20، والاقتباس من سورة الشورى ص11.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
7 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
وما أثبته الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من اتصاف الله بالحياة والقدرة والإرادة هو ما دلت عليه النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأدلة من كتاب الله فكقول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} "سورة الفرقان: الآية58".
وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} "سورة آل عمران: الآية29".
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} "سورة فاطر: الآية44".
وقوله تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} "سورة القمر: الآية55".
وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} "سورة الأنعام: الآية125".
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} "سورة البقرة: من الآية185".
وأما الأدلة من السنة فكحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني
أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" 1.
وحديث جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم
…
" 2.
وحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
…
" 3.
والأدلة في ذلك كثيرة نكتفي بذكر النصوص الشرعية المتقدمة. فالله "كامل القدرة، وبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئا قال له"كن فيكون"، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد"4.
فله الإرادة النافذة في جميع الموجودات، والحياة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات والكمال. فكل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فهو به أولى 5. يقول ابن أبي العز: "إن الحياة
1 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2076 ح2717 من طرق يحيى بن يعمر عن ابن عباس.
2 تقدم تخريجه ص347.
3 رواه البخاري: كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين 1/164 ح71 من طريق حميد بن عبد الرحمن عن معاوية، ومسلم: كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة 2/718 ح1037. من طريق عبد الله بن عامر عن معاوية.
4 انظر تفسر السعدي 5/624-625.
5 انظر شرح الأصفهانية ص85، وموافقة صحيح المنقول 1/14، 15.
مستلزمة لجميع صفات الكمال فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال حياة" 1.
فالمقصود أن الإرادة والقدرة لا تقومان إلا بالحي، فالميت والجماد لا يوصفان بالعلم والقدرة والإرادة والحياة.
ثانيا – الصفات الذاتية باعتبار والفعلية باعتبار آخر
1-
المعية:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه مع 2 عباده فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ} "سورة المجادلة: الآية7".
وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "سورة الحديد: الآية4".
فهو معهم بعلمه، وعلمه محيط شامل بجميع الخلق، كذلك هو مع بعض عباده، ليس بالعلم، بل بالنصر والتأييد والتسديد والتوفيق. دلّ على ذلك قوله تعالى لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} "سورة طه: الآية46".
1 شرح العقيدة الطحاوية ص72.
2 المعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة وهي ذاتية، ومعية خاصة وهي فعلية.
راجع لمعرفة أنواع "المعية" مجموع الفتاوى 5/103، 104؛ ومختصر الصواعق ص409، 410.
أما من السنة فحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين، ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" 1.
ولقد بين الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا منافاة بين علو الله ومعيّته لخلقه فلقد روي عنه أنه قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 "سورة الحديد: الآية4".
قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 3.
قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عز وجل في السماء"4.
2-
القيومية:
وصف الله تعالى ذاته المقدسة بالقيومية فقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".
1 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم 7/8-9 ح3653، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/1854 ح2381 كلاهما من طريق ثابت عن أنس عن أبي بكر الصديق.
2 سورة الحديد: الآية 4، تحقيق عماد الدين، ط/ دار الكتاب العربي.
3 الأسماء والصفات 2/170.
4 الأسماء والصفات2/170.
وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".
ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالقيومية كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف"1.
فهو الذي يقوم بنفسه، ومستغن عن جميع خلقه، وقائم بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها، فهو القائم بنفسه والمقيم لغيره 2. قرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "حي لا يموت قيوم لا ينام" 3.
3-
الكلام:
اتفق السلف على إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته، وهو يتكلم بصوت يُسمَع، ولو لم يكن الكلام المعين
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/511 من طريق عوف بن مالك بن نظلة عن عبد الله بن مسعود قال الحاكم على أثره: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في تلخيص المستدرك. وأخرجه الترمذي: كتاب الدعوات باب في دعاء الضيف 5/569 ح3577، وأبو داود: كتاب الصلاة باب في الاستغفار 2/178 ح1517. كلاهما من طريق يسار عن أبيه زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي على أثره: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وأورده المنذري في الترغيب 2/269 وقال عنه: "إسناده جيد".
2 تيسير كلام المنان 1/313 بتصرف.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
قديما. وعلى هذا مضى سلف الأمة من أهل الحديث وسائر الأئمة المهتدين 1.
قال ابن تيمية: وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة، وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل، وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقا منفصلا عنه. وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ولم يقل أحد منهم إن القرآن والتوراة والإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدا، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته" 2.
وقال كذلك: "فمن قال إن حروف المعجم مخلوقة، وأن كلام الله تعالى مخلوق؛ فقد قال قولا مخالفا للمعقول الصريح والمنقول الصحيح. ومن قال نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئا من ذلك قديم، فقد خالف أيضا أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد، وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك"3.
هذا اعتقاد السلف والأئمة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ في صفة الكلام على وجه الإجمال. أما عقيدة الإمام أبي حنيفة في صفة الكلام على وجه التفصيل فيندرج تحتها الآتي:
1 العقائد السلفية ص175 بتصرف.
2 مجموع الفتاوى 12/37، 38.
3 مجموع الفتاوى 12/54، 55.
"أ" التكلم والتكليم.
"ب" سماع كلام الله.
"ج" القرآن كلام الله على الحقيقة.
"د" القرآن غير مخلوق.
وإليك تفضيل ذلك:
التكلم والتكليم:
يعتقد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن الله متكلم بكلام حقيقي لا مجازي، دل على ذلك قوله:"قد كان متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام"1.
وقوله: "ومتكلما بكلامه والكلام صفة في الأزل"2.
وهو كلام لائق بجلال الله وعظمته، ليس ككلام البشر. يقول الإمام أبو حنيفة: "ويتكلم لا ككلامنا
…
"3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ليس بمخلوق ككلام البرية فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر"4.
"ب" سماع كلام الله:
يُسمع الله تعالى كلامه من شاء من ملائكته ورسله ويسمعه عباده في الدار الآخرة، كما أنه كلم موسى وناداه حين أتى الشجرة فسمعه موسى،
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "سورة القصص: الآية30".
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} "سورة الأعراف: الآية143".
وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} "سورة طه: الآيتان 11،12".
وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".
وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دلّ على ذلك قوله:"وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".
وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام"1.
"ج" القرآن كلام الله على حقيقته:
القرآن سوره وآياته وكلماته، كلام الله تكلم به بحروفه ومعانيه، ولم ينزل على أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعه جبريل عليه السلام وأسمعه جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم وأسمعه محمد صلى الله عليه وسلم أمته. وليس جبريل ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ والأداء، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو الذي في المصاحف يتلوه التالون بألسنتهم، ويقرؤه المقرئون بأصواتهم، ويسمعه السامعون بآذانهم، وهو الذي في صدور الحفاظ بحروفه ومعانيه، تكلم الله
1 الفقه الأكبر ص302.
به على الحقيقة فهو كلامه على الحقيقة لا كلام غيره، منه بدأ وإليه يعود 1.
وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دل على ذلك قوله:"والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل"2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا وصدّقه المؤمنون على ذلك حقا وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة "3.
فكلام الطحاوي في تقريره عقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى يدل دلالة قاطعة على بطلان الكلام النفسي، فقوله:"منه بدأ" رد على المعتزلة وغيرهم الذين زعموا أن القرآن لم يبدأ منه بل من بعض مخلوقاته" 4.
فالله هو الذي تكلم به ومنه سبحانه نزل، قال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} "سورة الجاثية: الآية2".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة الأنعام: الآية114".
1 انظر عقيدة السلف أصحاب الحديث ص77، 78، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية. العقيدة السلفية لكلام رب البرية ص64؛ ومجموعة الرسائل والمسائل 3/349، 350.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
4 مجموعة الرسائل والمسائل 3/486.
وقال تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "ٍسورة فصلت: الآيتان1،2".
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة النحل: الآية102".
وأما قوله: "إليه يعود" أي يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية 1 ولا في المصاحف. قال ابن ماجه: "باب ذهاب القرآن والعلم"2.
ثم ذكر فيه حديث حذيفة بن اليمان وفيه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس3 الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية
…
" 4.
1 شرح العقيدة الطحاوية ص152، 153.
2 سنن ابن ماجه 2/1344.
3 يُدرس: من درس الرسم دروسا إذا عفا وهلك ومن درس الثوب درسا إذا صار عتيقا.
انظر النهاية في غريب الحديث 2/113.
4 أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن باب ذهاب القرآن والعلم 2/1344 ح4049.
والحاكم في المستدرك 4/473.
كلاهما من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
وسكت عليه الذهبي في التلخيص وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 2/307 ط/ الجنان: "إسناده صحيح ورجاله ثقات".
"د" القرآن غير مخلوق:
اعتقاد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في القرآن هو اعتقاد الأئمة من سلف هذه الأمة وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، من أن القرآن منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود: هذا هو نص كلام الإمام في الفقه الأكبر حيث قال: "والقرآن غير مخلوق"1.
وفي الوصية حيث قال: "ونقر بأن القرآن كلام الله غير مخلوق"2. ولم أقف له على قول في كتبه المنسوبة إليه يخالف هذا القول. ولأجل ما تقدم تتابع أهل العلم على إهمال الروايات المصرحة بأن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن، وجزموا مقرّرين بأن مذهب أبي حنيفة عدم القول بخلق القرآن كالإمام أحمد وبشر بن الوليد 3 والطحاوي واللالكائي وابن تيمية وابن حجر. فالإمام أحمد يرى أن بعض أصحاب أبي حنيفة تابعوا جهما بالقول بخلق القرآن، فقد جاء في كتابه "الرد على الجهمية":"وتبعه يعني جهما ـ على قوله رجال من أصحابي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد ووضع دين الجهمية"4. وكذا بشر بن الوليد، فقد روى ابن عبد البر في الانتقاء عن سهل بن عامر قال: "سمعت بشر بن الوليد يقول: كنا عند أمير المؤمنين فقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: القرآن
1 ص301.
2 الجواهر المنيفة في شرح وصية الإمام ص10.
3 هو بشر بن الوليد بن خالد الكندي نسبة إلى كندة بكسر الكاف قبيلة مشهورة باليمن القاضي الفقيه قال عنه الذهبي: "الفقيه سمع مالك بن أنس وتفقه بأبي يوسف
…
وولي قضاء مدينة المنصور إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين وكان واسع الفقه متعبدا" مات سنة 238هـ.
انظر ميزان الاعتدال 1/326؛ والفوائد البهية ص54.
4 ص104، 105 ط/ دار اللواء.
مخلوق وهو رأيي ورأي آبائي، قال بشر بن الوليد: أما رأيك فنعم وأما رأي آبائك فلا" 1، ويكذب عليهما 2. فهؤلاء شانوا سمعة الإمام أبي حنيفة وأصحابه 3.
وكذا الطحاوي حيث قال في بيانه اعتقاد الإمام أبي حنيفة وصاحبه: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق" 4، ولم يشر إلى خلاف هذا.
وكذا أيضا اللالكائي سمى علماء السلف الذين يقولون القرآن غير مخلوق من التابعين وتابعيهم من أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة وواسط والشام ومصر والري 5 وأصبهان وخراسان وبلخ6 ونيسابور وبخارى وسمرقند.
قال اللالكائي عن أهل الكوفة موطن الإمام أبي حنيفة: "وأما أهل الكوفة فممن تقدم من التابعين سليمان بن مهران الأعمش وحماد بن
1 الانتقاء ص166.
2 انظر اللسان 1/399.
3 انظر تاريخ بغداد 13/384.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
5 الري بفتح أوله وتشديد ثانيه مدينة بخراسان افتتحها عروة بن زبد الطائي في سنة عشرين من الهجرة وقيل تسع عشرة وصفها ياقوت فقال: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات. انظر معجم البلدان 3/166.
6 بلخ مدينة مشهورة بخراسان افتتحها الأحنف بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه وصفها ياقوت فقال: "بلخ من أجمل مدن خراسان وأذكرها وأكثرها خيرا وأوسعها غلة".
انظر معجم البلدان 1/479.
أبي سليمان
…
والطبقة الأولى من الفقهاء محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسفيان بن سعيد الثوري، والنعمان بن ثابت أبوحنيفة، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن
…
"1.
وكذا ابن تيمية فهو يقرر أن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في القرآن هو اعتقاد 2 الأئمة الثلاثة ـ مالك والشافعي وأحمد، ويرى أن بعض أتباع الإمام أبي حنيفة قالوا بخلق القرآن.
قال ابن تيمية: "وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة"3.
وكذا ابن حجر فقد جاء في "لسان الميزان" قوله عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "هو من دعاة المأمون في المحنة بخلق القرآن، وكان يقول في دار المأمون هو ديني ودين أبي وجدي وكذب عليهما"4.
وظهر من هذا سلامة اعتقاد أبي حنيفة في هذا الباب، وقد جعله الله لسان صدق في هذه الأمة يُدعى له ويترضّى عنه ويُترحّم عليه، وهذا لا يكون مع بدعة القول بخلق القرآن، فرحمه الله ورضي عنه.
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/277.
2 مجموعة الرسائل والمسائل 3/477؛ ومجموع الفتاوى 5/265؛ ومنهاج السنة 2/106.
3 مجموعة الرسائل والمسائل 3/360.
4 لسان الميزان 1/399.