المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

أولا ـ الاستدلال على وجدود الله:

يتضح مما سبق أنا أبا حنيفة سلط طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق، مستغنيا بها عن أدلة المتكلمين من معاصريه ومناهجهم. ورأينا كيف كان تطبيقه لهذا المنهج في الاستدلال على وجود الله؛ حيث استدل بالفطرة السليمة المضطرة بطبعها إلى الإقرار بوجود الله تعالى، والاعتراف بالخالق، وإن طرأ فساد على هذه الطريقة فقد يزول بالتذكير والتعليم والإرشاد. ومن هنا كانت مهمة الأنبياء والدعاة إلى الله الدعوة والتذكير والإرشاد.

وترتكز دلالة الفطرة عند الإمام أبي حنيفة على نوعي الآيات في الأنفس والآفاق.

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} "سورة فصلت: الآية53".

فالتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي الأنفس هو الطريق إلى الاستدلال على الخالق بالمخلوق.

ص: 592

وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} "سورة الذاريات: الآية21".

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} "سورة الطارق: الآيات من5-7".

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} "سورة عبس: الآيات24-26".

فهذه النصوص الشرعية تثبّت العقيدة في النفوس عن طريق مخاطبة الفطرة وبهذا يمكن الاستغناء بها عن الطرق الكلامية الغامضة.

هذا ملخص لمنهج الإمام أبي حنيفة للاستدلال على وجود الله.

أما أبو منصور الماتريدي فقد استدل على وجود الله بالآتي:

طريقة الحدوث:

من أشهر أدلة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله دليل الحدوث وهو إثبات حدوث العالم، وذلك أن العالم عندهم جواهر وأعراض، والجواهر لا تنفك عن الأعراض، والأعراض حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، فالعلم إذن حادث.

قال أبو منصور الماتريدي: "الأعيان حادثة بشهادة الخبر والحس والعقل

فأما الخبر فما ثبت عن الله تعالى من وجه يعجز البشر عن دليل مثله لأحد إنه أخبر أنه خالق كل شيء وبديع السموات والأرض وأن له ملك ما فيهن

وعلم الحس وهو أن كل عين من الأعيان يحس محاط بالضرورة مبنىً1 بالحاجة والقدم هو شرط الغنى، لأنه يستغني بقدمه عن

1 قال محقق الكتاب في الحاشية غير منقوطة في الأصل ويظهر والله أعلم أن الصواب "منبئ".

ص: 593

غيره والضرورة والحاجة يحوجانه إلى غيره فلزم به حدثه

وعلى ذلك طريق علم الاستدلال مع أنه لا يخلو الجسم من حركة أو سكون وليس لهما الاجتماع فيزول من جملة أوقاته نصف الحركة ونصف السكون وكل ذي نصف متناه على أنهما إذ لا يجتمعان في القدم؛ لزم حدوث أحد الوجهين ويبطلانه أن يكون محدثا في الأزل لزم في الآخر وفي ذلك حدث ما لا يخلو عنه

ودليل آخر أن العالم لا يخلو من أن يكون قديما على ما عليه أحواله من اجتماع وتفرق بحركة وسكون وخبيث وطيب وحسن وقبيح وزيادة ونقصان وهن حوداث بالحس والعقل إذ لا يجوز اجتماع الضدين، فثبت التعاقب وفيه الحدث وجميع الحوادث تحت الكون بعد إن لم تكن فكذلك ما لا يخلو عنها ولا يسبقها أو كان إنشاء عن أصل لا بهذه الصفة أو انتقل إليها باعتراضها فيه فإن كان كذلك ثبت أن هذا العلم حادث"1.

فإذا ثبت حدوث الأجسام، فالأجسام لا تجتمع ولا تفترق بنفسها، ولا هي قادرة على إصلاح ما فسد في حال قوتها وكمالها، وإذا كانت الطبائع المتضادة المتنافرة لا تجتمع بنفسها؛ فلا بد من قاهر يقهرها على غير طبعها وهو الله 2.

فيتضح مما سبق أن الماتريدي يستدل على وجود الخالق بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض وهي طريقة عقيمة تقوم على مقدمات غامضة بعيدة، إذ لا بد لهم لتحقيق هذه الطريقة من أمور سبعة:

1- إثبات الأعراض.

2-

إثبات لزومها للجسم.

1 كتاب التوحيد ص11-13 بتصرف.

2 انظر كتاب التوحيد ص17-19 بتصرف.

ص: 594

3-

إبطال حوادث لا أول لها.

4-

إلزام حوادث لا نهاية لها.

5-

إثبات الجوهر الفرد.

6-

إلزام كون العرض لا يبقى زمانين.

7-

إثبات تماثل الأجسام. 1

ومعلوم أن إثبات هذه المقدمات كلها تعتمد على مباحث طويلة وإبطال الشبهات حولها دونها خرط القتاد فكيف يكون مثل هذه المقدمات الخفية الصعبة على الأفهام دليلا على ما هو أوضح من كل شيء 2.

فإثبات وجود الله لا يحتاج إلى أمثال هذه المقدمات الخفية البعيدة عن الأفهام بل الله سبحانه وتعالى دليل على كل شيء، وعلى هذا فطر بني آدم، إذ وجوده أوضح لدى الفطر من الشمس في رابعة النهار ولنعم ما قال القائل:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل 3

وأعظم ما في طرقهم من الفساد أن الأدلة التي أقاموها على إثبات وجود الله هي في الحقيقة أدلة على نفي وجود الله بل على امتناعه 4.

1 انظر مختصر الصواعق: ص1 ط/مكتبة الرياض الحديثة، وص128 ط/ دار الندوة الجديدة.

2 راجع مناهج الأدلة لابن رشد ص135-137؛ ومفتاح دار السعادة 2/199-200، ط/ دار الكتب العلمية.

3 مدارج السالكين 1/71؛ والصواعق المرسلة 4/1221.

4 راجع رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل 2/32؛ وضمن مجموع الفتاوى 6/239؛ والصواعق المرسلة ص962-988ح ومختصر الصواعق 1/196-201، ط/ دار الرياض الحديثة، وص126-130، ط/ دار الندوة الجديدة.

ص: 595

ومن أعظم ما يدل على فساد هذه الطريقة أنها هي التي نفيت بها الأفعال الاختيارية، بل نفت الجهمية عن الله سائر صفاته، وهي ثابتة بالسمع والعقل، فأسماؤه وصفاته حق، وكل ما يدل على نفي الحق فهو باطل قال ابن القيم:"فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب تعالى فاعلا في الحقيقة وإن سموه فاعلا بألسنتهم فإنه لا يقوم به عندهم فعل، وفاعل بلا فعل كقائم بلا قيام، وضارب بلا ضرب، وعالم بلا علم، وضم الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفة لكان جسما، ولو كان جسما لكان حادثا، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته فعطّلوا صفاته وأفعاله"1.

وكذلك يستدل أبو منصور الماتريدي بدليل آخر هو:

ما في العالم من حكم عجيبة ونظام دقيق وتناسق بديع وكل هذا يدل على أن للعالم خالقا مدبرا حكيما 2.

ومن هنا يتفق مع الإمام أبي حنيفة في الاستدلال بالمخلوق على الخالق ويختلف معه في الاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض.

ثانيا ـ التوحيد

ويتناول أنواع التوحيد وأول واجب على المكلف.

"أ" أنواع التوحيد:

التوحيد عند الإمام أبي حنيفة معروف بأقسامه وقد تقدم بيانه.

1 مختصر الصواعق 1/199-200.

2 انظر كتاب التوحيد ص21-23، 29.

ص: 596

أما عند الماتريدية فالتوحيد أنواع ثلاثة:

1-

توحيد الذات فالله لا قسيم له أي لا يتبعض ولا يتجزأ 1.

2-

وتوحيد في الصفات فالله لا شبيه له.

3-

وتوحيد في الأفعال والصنع فالله لا شريك له.

وفي ذلك يقول الملا علي القاري: "واحد في ذاته واحد في صفاته وخالق لمصنوعاته"2.

ويقول البابرتي: "وعبر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد في أفعاله لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له ولا تركيب فيه، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها"3.

ويقول الغنيمي الحنفي: "الواحد صفة سلبية تقال على ثلاثة أنواع:

الأول: الوحدة في الذات، والمراد بها انتفاء الكثرة عن ذاته تعالى بمعنى عدم قبولها الانقسام.

والثاني: الوحدة في الصفات والمراد بها انتفاء النظير عن ذاته في كل صفة من صفاته.

والثالث: الوحدة في الأفعال والمراد بها انفراده باختراع جميع الكائنات" 4.

1 انظر العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص39.

2 ضوء المعاني ص13.

3 شرح العقيدة الطحاوية للبابرتي ص29.

4 شرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص48.

ص: 597

ولا يخفى أن من تدبر في توحيد الماتريدية يتبين له ما يلي:

أولا: إنه لا يوجد عندهم توحيد الألوهية ولا اهتموا به، مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعلى والهدف الأسمى من خلق الكون وما فيه وإنزال الكتب وإرسال الرسل كما تقدم بيانه.

ثانيا: اهتمامهم الكبير بتوحيد الربوبية فقد جعلوه هو المقصد الأعلى والغاية العظمى، مع أنه فطري لم يختلف فيه أهل الملل والنحل.

ثالثا: قصدهم بتوحيد الذات أن الله لا يتجزأ ولا يتبعض بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد 1.

وهذا حق، لكنهم أدخلوا فيه نفي كثير من الصفات كالوجه واليدين، وأدخلوا فيه نفي علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه. فهم يظنون أنه لو ثبت لله هذه الصفات لكان الله مركبا مبعضا. فكلامهم هذا من قبيل كلمة حق أريد بها باطل.

"ب" أول واجب على المكلف:

أول واجب على المكلف عند السلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

أما الماتريدية فقالوا: إن أول واجب على المكلف النظر والاستدلال المؤدي إلى المعرفة بالله، وأن معرفة الله 2 واجبة بالعقل، ولو لم يكن الشرع 3، وهم مقلدون في هذا المعتزلة.

1 مجموع الفتاوى 3/100.

2 إشارات المرام ص84؛ وضوء المعاني ص89؛ وشرح العقيدة الطحاوية للبابرتي ص30.

3 إشارات المرام ص563؛ ونظم الفرائدص35؛ وشرح الإحياء 2/190-193

ص: 598

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "فاعلم أن الأدلة أربعة: حجة العقل، والكتاب والسنة، والإجماع، ومعرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل" 1، وقال:"إن سأل سائل فقال: ما أول واجب أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشهادة فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر"2.

فقولهم: إن أول واجب هو النظر مخالف للصواب، فالقرآن ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه أمر العباد 3 بالنظر في خلق السموات والأرض.

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} "سورة الروم: الآية8".

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدْع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دلهم إليه الشهادتان 4 وبذلك أمر أصحابه، من ذلك قوله لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

" 5.

قال ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن

1 شرح الأصول الخمسة ص88.

2شرح الأصول الخمسة ص39.

3 انظر درء تعارض العقل والنقل 8/8.

4 انظر درء تعارض العقل والنقل 8/6.

5 تقدم تخريجه ص210.

ص: 599

الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام ـ وهو بالغ صحيح يعقل ـ فإنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر، كان مرتدا".1

وشهادة أن لا إله إلا الله هي أول واجب في الشرائع، فكل نبي يقول لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} " "سورة هود: الآية 61".

وقال عن جميعهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} "سورة النحل: الآية36".

ثالثا ـ الصفات:

تقدم الكلام على عقيدة الإمام أبي حنيفة في الصفات الذاتية منها والفعلية، فأثبت جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة؛ إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل. أما الإثبات عند الماتريدي وأتباعه فإنهم قد ضيّقوا دائرته، وتظاهروا بإثبات ثماني صفات فقط هي:"الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين"2.

ولكن الحقيقة أنهم لم يثبتوا تلك الصفات الثماني كلها بل أثبتوا بعضها ونفوا بعضها.

أما صفتا السمع والبصر فعامتهم يثبتونهما، وبعضهم يرجعهما إلى غيرهما 3.

1 درء تعارض العقل والنقل 8/7.

2 إشارات المرام ص107، 114.

3 كابن الهمام في المسايرة ص69، إذ أرجعهما إلى صفة العلم.

ص: 600

وأما إثباتهم 1 لصفة الإرادة فليس كإثبات أبي حنيفة والسلف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بالشرع ولا بالعقل بل هو مخالف للشرع والعقل، فإنه ليس في الكتاب والسنة ما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه"2.

أما صفة الكلام فقد تظاهروا بإثباتها، ولكنهم في الحقيقة من أشدّ الناس تعطيلا لها، وتحريفا لنصوصها؛ لأنهم لم يثبتوا الكلام الذي دلّ عليه الدليل من الكتاب والسنة، بل أثبتوا لله سبحانه وتعالى ما يسمونه بالكلام النفسي الذي لا يسمع وليس بحرف ولا صوت 3.

بل ليس إلا صفة للأخرس فلا يعرف هذا ـ أي الكلام النفسي ـ وأول من أحدثه ابن كلاب ثم تبعه الماتريدية والأشعرية 4. أما صفة التكوين فهي عندهم مرجع لجميع الصفات الفعلية المتعدّية؛ كالإحياء والإماتة والتخليق وهي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود. فهم وإن تظاهروا بإثبات هذه الصفة لكنهم في الحقيقة لا يعتبرونها صفة حقيقية لله

1 قال شارح العقيدة النسفية: "أمر وناهٍ ومخبر يعني أنه صفةٌ واحدة تتكثّر بالنسبة إلى الأمر والنهي والخبر باختلاف التعلقات كالعلم والقدرة وسائر الصفات فإن كلا منها واحدة قديمة والتكثّر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات كما أن ذلك أليق بكمال التوحيد" شرح العقائد النسفية ص55-56.

2 درء تعارض العقل والنقل 8/283.

3 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص58-59؛ وتبصرة الأدلة 118/ب؛ والبداية من الكافية ص60-61؛والعقائد النسفية ص53-58؛ وأصول الدين للبزدوي ص61؛ وإشارات المرام ص138-139؛ وبحر الكلام ص29-30.

4 انظر المواقف ص293؛ والإنصاف 96-97؛ والإرشاد ص128-137.

ص: 601

تعالى؛ لأنهم يزعمون أن الصفات الفعلية ليست قائمة بالله فرارا عن حلول الحوادث به 1.

فالحاصل أن الماتريدية لا يثبتون من الصفات الثبوتية إلا صفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكوين على اضطراب في بعضها واختلاف في بعضها، أما ما عداها فهم يعطلونها مثل صفة الوجه واليدين والاستواء والنزول والغضب والرضا والمحبة، والكلام، والعلو.

فعطلوا صفة الوجه، وصرفوا نصوصها إلى الذات 2 والوجود 3، وعطلوا صفة اليدين وصرفوا نصوصها إلى كمال القدرة 4 أو الملك والمنة 5.

وعطلوا صفة الاستواء وصرفوا نصوصها إلى الاستيلاء 6، وعطلوا صفة النزول وصرفوا نصوصها إلى اللطف والرحمة 7.

وعطلوا صفة الغضب، وصرفوا نصوصها إلى الانتقام 8 أو إرادة الانتقام 9.

1 انظر التمهيد ص28؛ والبداية للصابوني ص67-73؛ وشرح العقائد النسفية ص53، 63، 69؛ والمسايرة ص84، 85، 89؛ وإشارات المرام ص53، 212؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص22، 25؛ والنور اللامع ق48/ب.

2 انظر مدارك التنزيل للنسفي 2/670؛ وتفسير أبي السعود 7/28.

3 إشارات المرام ص189.

4 إشارات المرام ص189.

5 بحر الكلام ص20.

6 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص72؛ وأصول الدين للبزدوي ص29، وإتحاف السادة المتقين 2/107-108.

7 شرح المواقف 8/25.

8 انظر عمدة القاري 25/115.

9 انظر مدارك التنزيل 1/6.

ص: 602

وعطلوا صفة الرضا، وصرفوا نصوصها إلى الثواب 1، وعطلوا صفة المحبة، وصرفوا نصوصها إلى إرادة الثواب 2، أو الرضا 3.

وعطلوا صفة الكلام التي هي الحق، وأثبتوا لله صفة الكلام النفسي التي هي الباطل4، وعطلوا صفة العلو ونفوها تماما، وأولوا نصوصها إلى علو الرتبة والمكانة 5.

رابعا ـ الإيمان:

مباحث الإيمان من الأمور التي اعتركت الآراء حولها قديما وحديثا، والماتريدية لهم موقف من الإيمان وافقوا في بعض نواحيه الإمام أبا حنيفة رحمه الله وخالفوه في بعضها، وإليك بيان ذلك:

"أ" الموافقات

اتفقت الماتردية مع أبي حنيفة في الأمور التالية:

أولا: إخراج العمل عن مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق 6.

1 انظر شرح الفقه الأبسط لأبي الليث السمرقندي ص33.

2 انظر عمدة القاري 25/84، 155.

3 انظر مدارك التنزيل 1/209.

4 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص58؛ والبداية للصابوني ص60-61؛ وإشارات المرام ص138-139؛ والمسايرة مع المسامرة ص82-83؛ ونشر الطوالع ص255؛ وضوء المعالي ص29؛ وأصول الدين لأبي اليسر البزدوي ص61؛ وتبصرة الأدلة 11/ب؛ والتمهيد 23-28، كلاهما لأبي المعين النسفي؛ والعمدة 7/أ-ب، لحافظ الدين النسفي،؛ والعقائد النسفية لعمر النسفي مع شرحها للتفتازاني 53-58؛ وبحر الكلام ص29.

5 شرح المواقف 8/24-25؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص171.

6 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص332، 373، 377؛ والبداية للصابوني =

ص: 603

ثانيا: عدم زيادة الإيمان ونقصانه 1.

ثالثا: تحريم الاستثناء 2.

رابعا: عدم تكفير صاحب الكبيرة 3.

"ب" المخالفات

تقدم أن مفهوم الإيمان عند الإمام أبي حنيفة مركب من أمرين التصديق بالقلب، والإقرار باللسان. فالإقرار باللسان شطر من الإيمان وداخل فيه. أما الماتريدي وجمهور أتباعه 4 فقد جعلوا الإقرار باللسان خارجا عن حقيقة الإيمان، فالإيمان عندهم هو التصديق 5، غير أنهم

= ص152؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص119؛ وأصول الدين للبزدوي ص153؛ وشرح المقاصد 6/176، والعمدة للنسفي ص17/1.

1 انظر أصول الدين للبزدوي ص153؛ وبحر الكلام للنسفي ص41-52؛ والبداية من الكفاية ص155؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص123-128؛ والعمدة للنسفي ص17/أ.

2 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص388-392؛ والمسايرة ص381-385؛ والبحر الرائق 2/46؛ والبداية ص155؛ وشرح الفقه الأكبر ص208-212؛ وبحر الكلام ص40.

3 انظر كتاب التوحيد ص333-334؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص106-108؛ وبحر الكلام ص43-44.

4 وإنما قلت: "جمهور أتباعه" لأن بعض الماتريدية ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار. صرح بذلك التفتازاني في شرح المقاصد 5/176 الطبعة الجديدة؛ وشرح العقائد النسفية ص120، الطبعة الهندية؛ والمرعشي في نشر الطوالع ص374. وانظر أيضا أصول الدين للبزدوي ص146؛ والعقائد النسفية ص119-120؛ والمسايرة مع المسامرة ص332-333.

5 انظر بحر الكلام ص38-39؛ والمسايرة ص330-331؛ والتمهيد لأبي المعين النسفي ص26/ب؛ والبداية للصابوني ص119-123؛ وشرح المقاصد ص5/176، الطبعة الجديدة، كلاهما للتفتازاني؛ ونشر الطوالع ص373-374.

ص: 604

جعلوا الإقرار شرطا لإجراء الأحكام الدنيوية فقط 1.

وهذا النوع من الإرجاء الغالي.

خامسا ـ القدر

لم تختلف الماتريدية في مسائل القدر عن الإمام أبي حنيفة ولا عن بقية السلف وهذا من حسناتهم التي يشكرون عليها، وهم يثبتون أن الخير والشر من الله تعالى وإن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر، خلقُ الله تعالى، وأن للعباد أفعالا اختيارية يثابون عليها ويعاقبون عليها، وأن العبد مختار في أفعاله التكليفية وله قدرة عليها، وليس مجبورا بفعلها، فهو يفعل الخير والشر بقدرته التي منحه الله إياها. ولا شكّ أنه فرّق بين حركة المرتعش والباطش فالأول بدون اختياره والثاني على اختياره. وصرّحوا بأن أفعال العباد خلق الله وبكسبهم واختيارهم وقدرتهم وإرادتهم، ومن أحسن من حرّر هذا الموضوع عمر النسفي أحد أئمة الماتريدية وفصّله التفتازاني شارحا لكلامه، حيث قال:"والله تعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله".

وقال: "وهي أفعال العباد كلها ومشيئته تعالى وتقدس

وحكمه وقضيّته أي قضاءه

وتقديره وهو تحديد كل مخلوق بحدّه الذي

1 شرح الضوء اللامع ص19-20؛ والتمهيد لأبي المعين النسفي ص26/ب؛ والعمدة، لحافظ الدين النسفي ص17/أ؛ وشرح العقائد النسفية ص121؛ وشرح المقاصد ص5/178-179؛ الطبعة الجديدة كلاهما للتفتازاني، والمسايرة مع المسامرة ص334؛ ونشر الطوالع ص374-375؛ والجوهرة المنيفة ص3؛ ومختصر شرح الطحاوية للشيخ يونس الخالص الأفغاني ص9.

ص: 605

يوجد من حسن وقبح ونفع وضرر وما يحويه من زمان أو مكان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب".

وقال: "وللعباد أفعلا اختيارية يثابون بها إن كانت طاعة، ويعاقبون عليها إن كانت معصية، لا كما زعمت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلا وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة عليها ولا قصد ولا اختيار، وهذا باطل لأنا نفرّق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني إلى آخر ما قالاه1.

سادسا ـ النبوات:

يظهر للباحث في كتب الماتريدية أن مذهبهم في النبوة: أنها ليست راجعة للمشيئة المحضة حتى يكون إرسال الرسل وعدمه سواء، بل راجع أيضا إلى حكمة الله تعالى؛ فإرسال الرسل لا يخلو من حكمة الله ومصالح للعباد وسد لحوائجهم 2 خلافا للأشاعرة.

وطرق إثبات 3 نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم بالأمور الآتية:

الأول: ما تواتر من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الشخصية والخُلقية والخِلقية وسيرته وأمانته وصدقه وشجاعته وجوده وكرمه ونحوها قبل البعثة وبعدها وتركه متاع الدنيا مع اقتداره عليه.

1 العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص75-83.

وانظر كتاب التوحيد للماتريدي ص215، 314؛ والمسايرة ص119-220،والنبراس ص276.

2 العقائد النسفية مع شرحها ص132-133.

3 انظر العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص 134-137؛ والتوحيد للماتريدي ص302-303؛ والبداية للصابوني ص89-93.

ص: 606

الثاني: أنه نُقل عنه معجزات كثيرة مثل شق القمر ومكالمة الحيوانات ونبوع الماء من بين أصابعه وتكثيره الطعام والشراب القليل ونحوه وجنس الواقع من ذلك قد بلغ حدّ التواتر وتفصيل ذلك مذكور في كتب السير.

الثالث: أنه أتى بقرآن معجز، مع أنه كان أميا لم يكتب ولم يقرأ، وكان من قوم لا كتاب لهم، وتحدّى به البلغاء مع كمال بلاغتهم فعجزوا عن معارضته بأقصر سورة كما قال تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} "سورة البقرة: الآية23".

أظهر الله دينه على الدين كله فهذا يدل دلالة قاطعة على كونه نبيا، هذا فيما يتصل بطرق النبوة.

ولم أقف لأبي حنيفة على نص في قضيّة طرق إثبات النبوة تفصيلا، وهل هي راجعة إلى المشيئة المحضة أم إلى الحكمة؟

وإنما تكلم عن العصمة، فقد صرح أن الأنبياء كانت منهم زلات وخطايا 1.

لكن نجد أن بعض الماتريدية من مشايخ سمرقند قد منعوا إطلاق اسم الزلة على ما صدر من الأنبياء من خطأ أو هفوة بل قالوا:

إنما يقال فعلوا الفاضل، وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه 2. بل صرح أبو منصور الماتريدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف منه هفوة 3، وهذا ظاهر المخالفة لما تضمنه قول الإمام أبي حنيفة، لأن الهفوة والزلة معناهما متقارب.

1 الفقه الأكبر ص303.

2 مدارك التنزيل 1/43.

3 كتاب التوحيد ص202.

ص: 607

لذلك نرى لأمثال هؤلاء المغالين من الماتريدية في عصمة الأنبياء لمنع صدور الذنوب منهم مطلقا موقفا خطيرا من نصوص الكتاب والسنة التي تجوِّز على الأنبياء صدور جنس الذنوب والخطأ منهم. فما كان من قبيل أخبار الآحاد ردّوها صريحا وما كان من المتواتر حرفوها تحريفا قبيحا1.

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أمثال هؤلاء المحرفين لنصوص الكتاب والسنة ما نصه: "والمنكرون لذلك ـ أي لجواز صدور الصغائر من الأنبياء ـ يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقول: والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد وهى من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه 2.

وقال: "وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم"3.

سابعا ـ اليوم الآخر:

اتفق المسلمون بل وأهل الملل السماوية على الإيمان باليوم الآخر والتصديق بما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء والجنة والنار، كما اتفق

1 شرح العقائد النسفية 140؛ وحاشية الكستلي على شرح العقائد ص171-172؛ والنبراس ص455-457.

2 منهاج السنة 1/227؛ الطبعة القديمة؛ ومجموع الفتاوى 10/313-314.

3 مجموع الفتاوى 10/295، 313، 314.

ص: 608

سلف هذه الأمة وأئمتها على التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث والحشر والنشر والصحف والميزان والحساب والصراط والحوض والشفاعة وأحوال الجنة والنار وما أعد الله لأهلهما جملة وتفصيلا.

قال الأشعري:"باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها.. وأجمعوا على أن عذاب القبر حق وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحيوا فيها ويسألون فيثبت الله من أحب نبيه، وأنهم لا يذوقون فيها ألَم الموت كما قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} "سورة الدخان: الآية56".

وعلى أنه ينفخ في الصور قبل يوم القيامة ويصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وعلى أن الله تعالى يعيدهم كما بدأهم حفاة عراة غرلا، وأن الأجساد التي أطاعت وعصت هي التي تبعث يوم القيامة، وكذلك الجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة، وأن الله تعالى ينصب الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه أفلح ومن خفت موازينه خاب وخسر وأن كفة السيئات تهوي إلى جهنم وأن كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة، وأن الخلق يؤتون يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا"1.

ووافقت الماتريدية السلف عامة وأبا حنيفة خاصة بالإيمان بالآخرة بما فيها الحشر والنشر وأحوال البرزخ والجنة والنار والميزان والصراط

1 رسالة إلى أهل الثغر ص62، 88، 89، تحقيق مجد الدين الجنيد ط/ دار اللواء.

ص: 609

والشفاعة وقالوا: إنها من الأمور الممكنة أخبر بها الصادق ونطق بها الكتاب والسنة فتحمل هذه النصوص على ظاهرها1.

ثامنا ـ الصحابة والإمامة:

لا يختلف موقف عامة الماتريدية من الصحابة عن موقف أهل السنة والجماعة بمن فيهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله. فيقولون إن أفضل البشر بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم عليّ المرتضى على ترتيب خلافتهم وما وقع بين الصحابة من حروب كان خطأً عن اجتهاد فيجب الكف عن الطعن فيهم. والطعن فيهم إما كفر أو بدعة أو فسق، والخلافة الراشدة ثلاثون سنة، وأن المسلمين لا بد لهم من إمام لتنفيد الأحكام وإقامة الحدود وسد الثغور وتجييش الجيوش وأخذ الصدقات وقهر الغلبة والمتسلطة وقطاع الطرق وإقامة الجمعة والأعياد وقطع المنازعات وأن يكون الإمام ظاهرا لا مختفيا ولا منتظرا وأن يكون من قريش ولا يشترط أن يكون معصوما وأنه تجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر"2.

1 انظر شرح العقائد النسفية ص99-01؛ والبداية 158؛ والنبراس ص317.

2 انظر العقائد النسفية مع شرحها ص148-163؛ والبداية للصابوني ص100-105؛ وأصول الدين للبزدوي ص178-198.

ص: 610