الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: أفعال العباد
يذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها، دل على هذا قوله:"نقرّ بأن العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق، فلما كان الفاعل مخلوقا، فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة"1.
وقوله: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم، والله تعالى خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره"2.
قال محمد بن الحسن بعدما ذكر قول3 عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "تكون النطفة في الرحم أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يومان ثم يعطى خلقه: فيقول: رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه ـ قال محمد بن الحسن وبهذا نأخذ وبه كان يأخذ أبو حنيفة، الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره"4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب
1 الوصية مع شرحها ص14.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 أصله في صحيح مسلم 4/2036 يرفعه عبد الله بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/704.
أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد"1.
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة هو ما جاءت به الأدلة من كتاب الله كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} "سورة الزمر: الآية62".
فيخبر الله تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها وربها والمتصرف فيها وكلٌ ما تحت تدبيره وقهره وكلاءته 2، فأفعال العباد من جملة المخلوقات.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} "سورة الحديد: الآية22".
فما يصيب الخلق من خير وشر، كله قد كتب في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلقها سبحانه وتعالى، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعالهم من الطاعات والمعاصي. وقال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} "سورة الصافات: الآية96".
قال البغوي في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} قال: بأيديكم من الأصنام، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى" 3.
وقال ابن جرير في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} "وجهان": أحدهما أن يكون قوله "ما" يعني المصدر؛ فيكون معنى الكلام حينئذ والله خلقكم وعملكم، والآخر أن يكون بمعنى الذي فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 53.
2 تفسير ابن كثير 6/105.
3 تفسير البغوي 4/31.
والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم" 1.
ورجّح الوجه الثاني ابن جرير 2 وابن القيم 3 ورجح الأول ابن كثير 4.
ومن السنة حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله يصنع كل صانع وصنعته"5.
وصحّ عن ابن عمر أنه قال: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"6.
وما ذهب إليه أبو حنيفة في أفعال العباد وأنها مخلوقة لله تعالى هو عين مذهب السلف.
قال اللالكائي: "إن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعتها ومعاصيها"7.
1 تفسير ابن جرير 33/75.
2 تفسير ابن جرير 23/75.
3 شفاء العليل ص234.
4 تفسير ابن كثير 6/22.
5 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد 39، 40، وابن أبي عاصم في السنة 1/158، وابن مندة في التوحيد 1/267؛ واللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/538، 239، والحاكم في المستدرك 1/31، 32؛ والبيهقي في الأسماء والصفات 338، وفي شعب الإيمان 1/501، 502؛ جميعهم من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة والبزار في مسنده كما في مجمع الزوائد 1/158؛ وقال الهيثمي:"رجاله رجال الصحيح غير أحمد وهو ثقة" وقال الألباني: "إسناده جيد"، انظر ظلال الجنة 1/158، وصححه في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/181.
6 خلق أفعال العباد ص41.
7 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/534-537.
ثم ذكر ما وري عنه ذلك من الصحابة، ومن قال به من التابعين، ومن الفقهاء من أهل مكة ومصر والشام والكوفة والبصرة وبغداد. قال اللالكائي عن أهل الكوفة موطن الإمام أبو حنيفة: "من أهل الكوفة عبد الله بن شبرمة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح بن حي وشريك وأبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف ومحمد بن الحسن
…
" 1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص على ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله ومن بعده حتى قال بعضهم: من قال: إن أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال: إن السماء والأرض غير مخلوقة"2.
فالمقصود أن فعل العبد فعله حقيقة، وهو مخلوق ومفعول له سبحانه، وليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق 3.
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/534-537.
2 مجوع الفتاوى 8/406.
3 مجموع الفتاوى 8/238، 393 بتصرف.