المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات قبل الحديث عن طريقة السلف - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ ‌تمهيد طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات قبل الحديث عن طريقة السلف

‌تمهيد

طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات

قبل الحديث عن طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات، يحسن ذكر أمور لا بد في هذا المقام من معرفتها:

أولا ـ معنى توحيد الأسماء والصفات

هو اعتقاد انفراد الله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة، كالإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، وأنه على العرش استوى، وهو مع عباده أينما كانوا، هذا مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله 1.

وهذا التوحيد أجلُّ المعارف لأنه معرفة بالله بأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تبنى العبادة. فإذا لم يعرف العبد ربه فكيف يعبده؟ كيف يعبد إلها يجهله؟ لذا استفاضت الأدلة بذكره والتنويه به؛ لأنه كلما كان الأمر مهما كثر إيضاحه وبيانه.

1 انظر بتصرف تيسير العزيز الحميد ص34، 35؛ والكواشف الجلية ص417، 418.

ص: 283

ثانيا ـ ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات

يقدح في هذا التوحيد خمسة أمور كلها من ضروب الإلحاد في أسمائه الذي ذمه الله وأهله في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

وهذه القوادح هي التشبيه، والتعطيل وتسميته، ووصفه بما لا يليق به. قال ابن القيم:

الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع:

أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الآلهة والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها" الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة.

وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: يد الله مغلولة وأمثال ذلك.

رابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني.

خامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا1.

1 بدائع الفوائد 1/169، 170.

ص: 284

ثالثا ـ مذاهب الناس في الأسماء والصفات

الناس في باب الأسماء والصفات على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول ـ المعطلة:

وهم الذين عطلوا الرب عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات. والتعطيل على ثلاث مراتب، ذكرها شيخ الإسلام في التدمرية وهي:

"1- وصف الله بسلب النقيضين وهو مذهب غلاة المعطلة؛ فإنهم يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت لأننا لو وصفناه بالإثبات لشبهناه بالمخلوقات، ولو وصفناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات.

2-

وصف الله بالسلب والإضافة دون صفات الإثبات، وهو مذهب المعطلة من الفلاسفة والجهمية، وهؤلاء كلهم ينفون الأسماء والصفات.

3-

إثبات الأسماء دون الصفات، وهو مذهب المعتزلة ومن تعبهم" 1.

والمعطلة قسمان:

أهل تأويل، وأهل تجهيل.

أما أهل التأويل: فهم الذين يصرفون معاني نصوص الكتاب والسنة عن معانيها الظاهرة بغير حجة وهذا هو التحريف بعينه 2.

أما أهل التجهيل: فهم الذين ينكرون معاني الأسماء والصفات، ويثبتون ألفاظا لا معاني لها3.

1 مجموع الفتاوى 3/7، 8. بتصرف.

2 درء تعارض العقل والنقل 1/8، 9.

3 مختصر الصواعق ص54.

ص: 285

الصنف الثاني ـ المشبهة:

وهم الذين يشبهون صفات الله بصفات المخلوقين، كقول بعضهم: لله سمع كسمعي وبصر كبصري.

قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون تشبيه إذا قال: يدٌ كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فهذا هو التشبيه"1.

وقال ابن تيمية: "من قال: علم كعلمي أو قوة كقوتي أو حب كحبي أو رضاء كرضائي أو يدان كيديّ أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات"2.

ومن التشبيه التعرض لكيفية صفات الرب وحقيقتها التي لا يعلمها إلا الله 3.

قال ابن القيم عن إلحاد المشبهة: "فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم إلحاد وتفرقت بهم طرقه"4.

الصنف الثالث ـ المؤمنون الموحدون:

وهم الذين يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله

1 جامع الترمذي 3/50، 51..

2 مجموع الفتاوى 3/16.

3 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص4 بتصرف.

4 بدائع الفوائد 1/170.

ص: 286

قال الصابوني: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة

يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيُه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله منها ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعتقدون فيها تشبيها لصفاته بصفات خلقه..ولا يحرفون كلاما عن مواضعه، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعليل والتشبيه، واتبعوا قول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11"

" 1.

وبعد هذا العرض لمذاهب الناس في الأسماء والصفات إجمالا، نتناول مذهب السلف في ذلك بشيء من التفصيل.

رابعا ـ طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات

1-

طريقتهم في الإثبات:

الإثبات عندهم هو إثبات بلا تشبيه وبيان ذلك في الآتي:

"أ" الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات:

يجب الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة.

قال ابن خزيمة: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى

1 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص3، 4.

ص: 287

عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه صلى الله عليه وسلم مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف" 1.

وقال أبو بكر الإسماعيلي 2: "اعلموا رحمني الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله وصحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا معدل عما ورد به، ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضمونا لهم الهدى فيهما مشهودا لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم، ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم

" 3.

فجميع نصوص الأسماء والصفات يقرونها صريحة على ظواهرها كما أتت، ويسلمون لما تقتضيه تلك الصفات من كمالات تليق بالله، من غير تحريف ولا تكييف.

فكل ما نص عليه كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به. فمن أنكر أو ألحد فإنه يخشى عليه الكفر بعد ثبوت الحجة عليه كما قال الشافعي: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها،

1 ذم التأويل لابن قدامة ص140 ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.

2 هو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الجرجاني أبو بكر. قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام" مات سنة 371هـ.

تذكرة الحفاظ 3/947. وانظر ترجمته في طبقات الشافعية 3/7.

3 ذم التأويل لابن قدامة ص139، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.

ص: 288

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل" 1.

"ب" أن أسماء الله عز وجل وصفاته كلها عندهم توقيفية:

فلا يطلقون على الله شيئا منها إلا بإذن من الشرع، فما ورد من الشرع وجب إطلاقه، وما لم يرد به فلا يصح إطلاقه، قال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي 2:"لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن"3.

وقال السجزي: "قد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف

ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم" 4.

وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون وحي الله.

"ج" إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية:

سئل الإمام مالك عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "سورة طه: الآية5".

1 ذم التأويل ص143.

2 هو عبد الرحمن بن قاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم المهملة وفتح المثناة أبو عبد الله البصري. قال عنه ابن حجر: "الفقيه صاحب مالك ثقة من كبار العاشرة". مات سنة إحدى وتسعين ومائة تقريبا. تقريب التهذيب 1/495؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 6/252.

3 أصول السنة لابن أبي زمنين 1/212.

4 كتاب الحرف والصوت ص139.

ص: 289

كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"1.

فبين أن الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيفية. وهكذا بقية الصفات يقال فيها ما قيل في الاستواء.

قال أبو سليمان الخطابي: "فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته؛ إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف"2.

وقال الحافظ أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات

وعلى هذا مضى السلف كلهم" 3.

وقال السجزي: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير يخالف الظاهر، فهي على ما يعقلونه"4.

وقال السرخسي الحنفي 5: "وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ـ أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية ـ وتوقفوا

1 تقدم تخريج هذا الأثر ص25.

2 الأربعين في صفات رب العالمين ص117؛ والعلو ص173، كلاهما للذهبي.

3 الحجة في بيان المحجة ص34.

4 الحرف والصوت ص183.

5 هو أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي نسبة إلى سرخس بفتح السين والراء بلد بخراسان، قال عنه القرشي:"كان إماما علامة حجة متكلما فقيها أصوليا" مات سنة 490هـ، انظر الجواهر المضية 3/78؛ والفوائد البهية ص158.

ص: 290

فيما هو المتشابه وهو الكيفية، ولم يجوزا الاشتغال في طلب ذلك" 1.

وقال البزدوي الحنفي 2: "إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة"3.

"د" الإثبات عندهم يكون على وجه التفصيل:

وهذه هي طريقة القرآن، فالإثبات للصفات في كتاب الله يكون مفصلا، والنفي يكون مجملا.4

ومن شواهد الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "سورة الحشر: الآيتان 23-24".

والمراد بالتفصيل:

التعيين والتخصيص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوصا عليها، لا مجملة في لفظ عام، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

1 شرح الفقه الأكبر ص60.

2 سيأتي التعريف به في ص299.

3 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعلي الدين البخاري 1/60، 61.

4 شرح العقيدة الطحاوية ص53.

ص: 291

"هـ" صفات الله كلها كاملة عندهم:

ما ورد في الكتاب والسنة وصفا لله تعالى إنما هو عندهم من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، ولو لم يتصف بها للزم النقص في حقه تعالى وتقدّس. ومما يدل على هذا أن الله تعالى ذكر أن الأصنام لا توصف بالكلام، ولا بالنطق، ولا بالنفع، ولا بالضر، وهذا دليل على عدم إلهيتها. وإذا كان كذلك فهذه الصفات صفات كمال، والفاقد لها لا يستحق أن يكون متصفا بالألوهية.

قال تعالى عمن عبد العجل من دونه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} "سورة الأعراف: الآية148".

وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} "سورة طه: الآيتان88-89".

"و" وأسماء الله كلها حسنى عندهم:

أسماء الله جميعها حسنى؛ لأنها دالة على صفات كمال عظيمة، ولو كانت أعلاما محضة لم تكن حسنى1، لذلك أمر الله عباده أن يدعوه بها لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها 2.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

1 انظر مجموع الفتاوى 3/8.

2 انظر تيسير كلام المنان 3/120، 121. 5/145.

ص: 292

فكل اسم من أسماء الله دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، ودلالة الأسماء على الذات والصفة تكون بالمطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله، وبالتضمن إذا فسرناه ببعض مدلوله، وبالالتزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم، مثال ذلك الرحمن، دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمن لأنها داخلة في الضمن، ودلالة الأسماء التي لا توجد إلا بثبوتها كالحياة والعلم والقدرة ونحوها دلالة التزام1.

فالمقصود أن أسماء الله أعلام وأوصاف دالة على معانيها، وكلها أوصاف مدح وثناء.

2-

طريقتهم في التنزيه:

التنزيه الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف هذه الأمة هو تنزيه بلا تعطيل، لما أثبت الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة من التنزيه في شيء 2 بل هو عين التنقص.

1 انظر بدائع الفوائد1/162 بتصرف.

2 خالف المتكلمون السلف في مفهوم التنزيه حيث جعلوه معولا لهدم بنيان صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة. وأول من أدخل النفي في التنزيه هم الجهمية فقد نقل عنهم الإمام أحمد أن توحيدهم غالبه سلوب وتابعهم بعد ذلك المعتزلة فقد نقل عنهم الأشعري في المقالات أنهم أجمعوا على:

"أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبه ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا == بذي يمين وشمال وأمام وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه الزمان ولا يجوز عليه الماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق. فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شاركهم هذه الجملة الخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الشيعة.

قال ابن أبي العزَّ الحنفي في بيان فساد هذه الأمة: " والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات ولا يتدبرون معانيها ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده

والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب ليس بكذا ليس بكذا وأما الإثبات فهو قليل وهو أنه عالم قادر حي وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتي الذات فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".

ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله".

انظر كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد ص105؛ مقالات الإسلاميين ص155؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص54؛ وراجع أيضا مجموع الفتاوى 11/483، 484.

ص: 293

والنوم والذل والسفه والنسيان والغفلة والحاجة والتعب واللغوب، أو كان منفصلا؛ كالشريك والظهير والشفيع بدون إذنه والولد والوالد واتخاذ صاحبة والكفؤ والند والولي من الذل.

قال ابن القيم:

توحيدهم نوعان قولي وفعلي

كلا نوعيه ذو برهان

فالأول القولي ذو نوعين أيضا

في كتاب الله موجودان

إحداهما سلب وذا نوعان

أيضا فيه مذكوران

سلب النقائص والعيوب جميعها

عنه هما نوعان معقولان

سلب لمتصل ومنفصل هما

نوعان معروفان أما الثاني

سلب الشريك مع الظهير مع

الشفيع بدون إذن المالك الديان

وكذاك سلب الزوج والولد الذي

نسبوه إليه عابدو الصلبان

وكذاك نفي الكفء أيضا والولي

ما سوى الرحمن للغفران

والأول التنزيه للرحمن عن

وصف العيوب وكل ذي نقصان

كالموت والإعياء والتعب الذي

ينفي اقتدار الخالق المنان

والنوم والسِّنَة التي هي أصله

وعزوب شيء عنه في الأكوان

إلى أن قال:

وكذاك ظلم عباده وهو الغني

فما له والظلم للإنسان

وكذاك غفلته تعالى وهو علام

الغيوب فظاهر البطلان

وكذلك النسيان جل إلهنا

لا يعتريه قط من نسيان

وكذاك حاجته إلى طعام ورز

قٍ وهو رازق بلا حسبان

هذا وثاني نوعي السلب الذي

هو أول الأنواع في الأوزان

تنزيه أوصاف الكمال له

عن التشبيه والتمثيل والنكران

ص: 295

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا

إن المشبه عابد الأوثان 1

"ب" النفي عندهم مجمل:

تقدّم أن الإثبات عند السلف يكون إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. أما النفي فهو مجمل عندهم كما في القرآن الكريم.

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".

وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "سورة الإخلاص: الآية4".

والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل: هو الذي لا يتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة، فقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، هو نفي مجمل لأنه نفي للمماثلة في جميع الصفات، فلم يقل ليس كمثله شيء في علمه أو في قدرته أو في سمعه أو في بصر. وما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب؛ وإلا فإنه قد يأتي النفي مفصلا، كما قد يأتي الإثبات مجملا. فالأول، كقوله تعالى:{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".

وقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".

والثاني كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "سورة الفاتحة: الآية2".

1 القصيدة النونية المعروفة بالكافية الشافية ص145.

ص: 296

"ج" لا يصفون الله بالنفي المحض:

ومع نفيهم عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فهم يثبتون ضد الصفات المنفية، كقوله تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".

فهم يثبتون كمال عدله.

وكقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} "سورة سبأ: الآية3".

فهم يثبتون كمال علمه.

وكقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} "سورة ق: الآية38".

فهم يثبتون كمال قدرته.

وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".

فهم يثبتون كمال حياته وقيّوميته، لأن النفي الصرف عندهم لا مدح فيه ولا كمال لأنه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء 1.

1 انظر الرسالة التدمرية ص57، وشرح العقيدة الطحاوية ص52.

ص: 297