الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: عصمة الأنبياء
معنى العصمة في اللغة: المنع 1 ومنه قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} 2، أي امتنع.
قال القرطبي: "سميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية"3.
أما في الاصطلاح:
فقيل: هي حفظ الله أنبياءه ورسله من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة 4.
وقيل: هي ملكة إلهية تمنع الإنسان من فعل المعصية والميل إليها مع القدرة عليها 5.
1 تهذيب اللغة 2/54.
2 تفسير القرطبي 9/183.
3 تفسير القرطبي 9/184.
4 فتح الباري 1/501.
5 انظر التعريفات ص150؛ والمعجم الوسيط ص605 بتصرف؛ والمواقف ص366.
فهل الأنبياء معصومون من ارتكاب صغائر الذنوب؟ أم من الكبائر؟ أم من الذنوب جميعها؟.
اختلفت أقوال الناس ومذاهبهم مع اتفاقهم على عصمتهم في تبليغ الراسلة.
فمنهم من لم ير عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر عدا الكذب، وهذا قول الكرامية 1 وبعض الخوارج 2 ونسبه ابن حزم 3 إلى الباقلاني.
ومنهم من جوّز وقوع الكبائر من الأنبياء سهوا لا عمدا وهذا ما عليه الرازي 4 من الأشاعرة.
ومنهم من يرى وجوب العصمة للأنبياء من الكبائر والصغائر، سواء كانت عمدا أو سهوا قبل النبوة أو بعدها؛ فلا يقع منهم معصية ألبتة. وهذا عليه الرافضة 5 والقاضي 6 عياض والسبكي 7 من الأشاعرة، والقاضي عبد الجبار 8 من المعتزلة.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر بعد النبوة وهذا عليه بعض الأشاعرة والماتريدية كابن مجاهد 9
1 الفصل4/2.
2 أصول الدين للبزدوي ص167.
3 الفصل 4/2.
4 كتاب عصمة الأنبياء ص28.
5 شرح العقائد النسفية ص140.
6 الشفا 2/809، 848.
7 جمع الجوامع ضمن مجموعة أمهات المتون ص71.
8 شرح الأصول الخمسة ص573.
9 كما في الفصل 4/2.
والشهرستاني 1 والبغدادي 2 والصابوني 3 وذهب بعض أئمة سمرقند 4 أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر والزلات جميعا.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقا ومن الصغائر عمدا. وهذا عليه بعض الأشاعرة والماتريدية كالأيجي 5 والتفتازاني 6 والبزدوي 7 وابن أبي الشريف 8، والبياضي 9،
1 نهاية الإقدام ص445.
2 أصول الدين ص167.
3 البداية ص96. وهو أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني الحنفي قال عنه القرشي: "الإمام صاحب البداية في أصول الدين" مات سنة 580هـ ببخارى.
انظر الجواهر المضيئة 1/328، وتاج التراجم ص10؛ والطبقات السنية 2/102؛ وطبقات الفقهاء 106؛ والفوائد البهية ص42.
4 أصول الدين للبزدوي ص167.
5 شرح المواقف 8/265.
6 شرح المقاصد 5/51.
7 أصول الدين للبزدوي ص167.
8 المسامرة ص232، 233، وهو محمد بن محمد بن أبي بكر المقدسي الشافعي المعروف بابن أبي شريف مؤلف المسامرة بشرح المسايرة قال عنه الشوكاني:"برع في العلوم وعرف بالذكاء وثقوب الذهن وحسن التصور وسرعة الفهم" مات في القدس سنة 906هـ.
البدر الطالع 2/243-244 وانظر ترجمته في شذرات الذهب 8/29، 30، والكواكب السيارة 1/11-13.
9 إشارات المرام ص56. وهو أحمد بن حسن بن سنان الدين البياضي الرومي الحنفي، قال عنه المحبّي: "قاضي العسكر وأحد صدور الدولة العثمانية من أجلاء علماء الروم وأجمعهم لفنون العلم وكان صدرا عالما وقورا جسيما عليه رونق العلم ومهابة الفضل"، توفي في سنة 1098هـ.
والجاحظ 1 والنظّام 2 والأصم 3 وجعفر بن بشر 4 ونسبه البزدوي إلى أهل السنة حيث قال: "قال أهل السنة والجماعة: إن الأنبياء والرسل معصومون من الكبائر من الذنوب والصغائر بطريق القصد، أما الزلات فغير معصومين عنها، وهو ما يقع من الذنوب منهم خطأ أو نسيانا"5.
قلت: هذا هو ظاهر كلام 6 الإمام أبي حنيفة فقد قال: "والأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح، وقد كانت منهم زلات وخطايا 7.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، فجوزوا وقوع الصغائر من الأنبياء مطلقا وهذا عليه ابن جرير 8 وابن قتيبة 9 وشيخ الإسلام 10 وابن فورك11 والجويني 12 من الأشاعرة
1 كما في شرح المواقف 8/265.
2 كما في شرح المواقف 8/265.
3 كما في شرح المواقف 8/265.
4 كما في شرح المواقف 8/265.
5 أصول الدين ص167.
6 شراح الفقه الأكبر حملوا كلام أبي حنيفة على أن الأنبياء معصومون من الصغائر سواء كانت عمدا أو سهوا وهذا خلاف ظاهر كلام أبي حنيفة حيث قال: "ولهم زلات وخطايا" فظاهر كلامه يدل على أن الأنبياء تصدر منهم الذنوب خطأ وإلا تناقض صدر كلام أبي حنيفة مع عجزه والله أعلم.
7 الفقه الأكبر ص303.
8 جامع البيان 12/191، 13/1، 16/224.
9 تأويل مشكل القرآن ص402.
10 مجموع الفتاوى 10/292-293.
11 الفصل 4/2.
12 شرح المقاصد 5/51 عنه.
وأبو هاشم 1 من المعتزلة، ونسبه شيخ الإسلام إلى الجمهور حيث قال:"والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم، مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم"2.
وقال: "والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول أنه يجوز إقرارهم عليها"3.
وقال: "والقول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام. وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام
…
بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين إلا ما يوافق هذا القول" 4.
وما ذهب إليه الجمهور هو ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} "سورة طه: الآية121".
1 شرح المقاصد 5/581 عنه.
2 منهاج السنة 1/227.
3 مجموع الفتاوى 10/292، 293.
4 مجموع الفتاوى 38319.
وقوله تعالى حكاية عن يونس: {لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} "سورة الأنبياء: الآية87".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني"1.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي
…
" 2.
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى: "خالف أمر ربه فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدى عليه من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه، فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه، والعمل بطاعته، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه وهداه للتوبة ووفقه لها"3.
ثم هذا الرأي رأي وسط بين الآراء المذكورة فمن ادّعى امتناع الذنوب على الأنبياء مطلقا فقد أفرط، ومن منع عصمة الأنبياء من الذنوب جميعا فقد فرّط، والحق دائما وسط فلا إفراط ولا تفريط.
1 أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/503، ح401؛ ومسلم كتاب المساجد باب السهو في الصلاة 1/400، ح572 كلاهما من طريق إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود.
2 أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2087 ح2719 من طريق أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي موسى الأشعري.
3 جامع البيان 13/224.