المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: حياته العلمية - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

‌المبحث الثاني: حياته العلمية

1-

نشأته العلمية:

أدرك 1 الإمام أبو حنيفة في صغره بعض الصحابة كأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى. لكن لم يجد في حال ترعرعه من يرشده إلى الأخذ 2 عنهم، فاشتغل بالتجارة في ثياب الخز وتوسع في ذلك، حتى كان له دار كبيرة لعمل الخز، وعنده صناع وأُجراء ومكث على هذه الحال

1 حكى القاري عن السيوطي أنه قال: قال الحافظ ابن حجر: "أدرك الإمام أبو حنيفة جماعة من الصحابة، لأنه ولد بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة وبها يومئذ من الصحابة عبد الله بن أبي أوفى فإنه مات بعد ذلك بالاتفاق، وبالبصرة يومئذ أنس بن مالك ومات سنة تسعين أو بعدها" شرح مسند أبي حنيفة للقاري ص581، وقال أبو إسحاق الشيرازي "كان في زمانه أربعة من الصحابة: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وأبو الطفيل ولم يأخذ عن أحد منهم" الطبقات السنية 1/96.

2 قال السخاوي: "والثنائيات في الموطأ والوحدان في حديث الإمام أبي حنيفة لكن بسند غير مقبول إذ المعتمد أنه لا رواية له عن أحد من الصحابة"، فتح المغيث 3/11، وقد ادّعى القاري رواية أبي حنيفة عن الصحابة وأن مسنداته عن الصحابة قد بلغت خمسين حديثا.

انظر شرح مسند أبي حنيفة ص582.

ص: 73

إلى أن قيض الله له الإمام الشعبي؛ فحثّه على الاشتغال بالعلم، كما حكى ذلك الإمام أبو حنيفة حيث قال:

"مررت يوما على الشعبي وهو جالس فدعاني وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسميت له أستاذي فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم فقال لي: لا تفعل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة قال: فوقع في قلبي من قوله فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله"1.

ويظهر أنه استمر في تجاراته بعد أن أخذ في طلب العلم وأقبل عليه، فهذا قيس بن الربيع 2 يحدث كما روى الخطيب في تاريخه 3:"أنه كان يبعثه بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسواتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الأرباح من الدنانير إليهم ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، لكن من فضل الله عليّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله على يدي مما في رزق الله حولٌ لغيره".

1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.

2 هو قيس بن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي قال عنه ابن حجر: "صدوق تغير لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به من السابعة مات سنة بضع وستين ومائة"، تقريب التهذيب 2/128. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 8/391-395.

3 13/360.

ص: 74

أما ما قيل عن أبي حنيفة إنه لما أراد طلب العلم أخذ يتخير بين العلوم ويوازن بينها؛ فهذه حكاية موضوعة لا تصح، كما ذكر ذلك الذهبي في السير 1.

والقصة رواها الخطيب عن أبي يوسف قال: "لما أردت طلب العلم؛ جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها؛ فقيل لي: تعلم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته؛ فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد، ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك ـ أو يساويك ـ في الحفظ؛ فتذهب رياستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت، واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عارا عليك في عقبك، فقلت: لا حاجة لي في هذا. ثم قلت: أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظت النحو والعربية، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلما فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة، قلت: وهذا لا عاقبة له، قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات. قلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت في الكلام ما يكون آخر أمري؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنَّعات الكلام فيرمى بالزندقة، فإما أن تؤخذ فتقتل، وإما أن تسلم؛ فتكون مذموما ملوما.

قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس وتطلب للقضاء

1 6/396.

ص: 75

وإن كنت شاباً، قلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا. فلزمت الفقه وتعلمته" 1.

هذه الحكاية تصور الإمام طالب رئاسة أو دنيا، وهذا يتنافى مع ورعه وزهده وانصرافه عنها، والصحيح في نظري أنه اتّجه أول ما اتّجه إلى تعلُّم النحو، كما روى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه 2 ثم تحول إلى علم الكلام وأخذ منه نصيبا وافرا، حتى بلغ فيه مبلغا يشار إليه بالبنان، ثم انتقل بعد ذلك إلى علم الفقه، وانصرف إليه بكليته، واتصل بحماد بن أبي سليمان يأخذ عنه، ولازمه ثماني عشرة سنة 3. ولعله كان مع ملازمته لشيخه حماد يأخذ من مشايخ وقته ما امتازوا به، فأخذ علم التفسير عن عكرمة مولى ابن عباس، ومحمد بن المنكدر وسمع الحديث من هشام بن عروة، ومحارب بن دثار السدوسي الكوفي.

2-

شيوخه

أدرك الإمام بعض الصحابة4 في صغره، لكنه لم يجد في حال

1 تاريخ بغداد 13/331، 332، ورواها الذهبي من طريق الخطيب في سير أعلام النبلاء 6/395-397، بلفظ متقارب، ورواها الصيمري عن أبي يوسف مختصرة. انظر أبا حنيفة ص5.

2 13/332.

3 تاريخ بغداد 13/333.

4 كأنس بن مالك. تاريخ بغداد 13/324، وقد ادعى بعض كتاب المناقب أنه رأى عدة من الصحابة وسمع منهم. انظر أخبار أبي حنيفة ص4، 5؛ ومناقب أبي حنيفة للمكي ص27-37، ومناقب أبي حنيفة للكردي ص8/25، وشرح مسند أبي حنيفة للقاري ث582.

ص: 76

نشأته من يرشده لطلب العلم، والأخذ عمن كان يمكنه السماع 1 ممن أدرك منهم؛ فاشتغل بالبيع والشراء إلى 2 أن قيض الله تعالى له الإمام الشعبي فنبَّهه وحثَّه على الاشتغال بالعلم فأخذ من مشايخ وقته ما امتازوا به من العلوم.

ولقد ذكر المزي في تهذيب الكمال 3 طائفة من شيوخ أبي حنيفة بلغ عددهم من ذكرهم خمسين شيخا هم كالآتي: " محمد بن المنكدر، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغيرات، وجبلة بن سحيم، وأبو هند الحارث بن عبد الرحمن الهمداني، والحسين بن عبيد الله، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وخالد بن علقمة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزبيد اليامي، وزياد بن علاقة، وسعيد بن مسروق الثوري، وسلمة بن كهيل، وسماك بن حرب، وأبو ربوة شداد بن عبد الرحمن، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي وهو من أقرانه، وطاووس بن كيسان فيما قيل، وظريف السعدي، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعاصم بن كليب، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي حبيبة، وعبد الله بن دينار، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم بن أبي أمية البصري، وعبد الملك بن عمير، وعدي بن ثابت الأنصاري، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن السائب، وعطية بن سعيد العوفي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعلقمة بن مرثد، وعلي بن الأقمر،

1 زعم بعض من كتب في مناقب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ـ كالمكي والكردي ـ أن أبا حنيفة سمع من بعض الصحابة وجمع بعضهم جزءا فيما ورد في رواية أبي حنيفة عن بعض الصحابة لكن ذكر ابن حجر أن إسنادها لا يخلو من ضعف كما في عقود الجمان ص50.

2 عقود الجمان ص160.

3 3/1415، ط/ دار المأمون نسخة مصورة عن أصل خطي.

ص: 77

وعلي بن الحسن الزناد، وعمرو بن دينار، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقابوس بن أبي ظبيان، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وقتادة بن دعامة، وقيس أبو مسلم، ومحارب بن دثار، ومحمد بن الزبير الحنظلي، ومحمد بن السائب الكلبي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن قيس الهمداني، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، ومخول بن راشد، ومسلم البطين الملائي، ومعن بن عبد الرحمن، ومقسم، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن أبي عائشة، وناصح بن عبد الله المحلي، ونافع مولى بن عمر، وهشام بن عروة، وأبو غسان الهيثم بن حبيب الصراف، والوليد بن سريع المخزومي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن عبد الله الكندي، ويحيى بن عبد الله الجابر، ويزيد بن صهيب الفقير، ويزيد بن عبد الرحمن الكوفي، ويونس بن عبد الله بن أبي فروة أبو إسحاق السبيعي، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، وأبو خباب الكلبي، وأبو حصين الأسدي، أبو الزبير المكي، أبو السوار ويقال أبو الأسود السلمي، أبو عون الثقفي، أبو فروة الجهني، أبو معبد مولى بن عباس، أبو يعفور العبدي".

فهؤلاء طائفة من شيوخ أبي حنيفة، ولم أستقص جميعهم، ولو شرعت في ذلك لطال بنا البحث، ثم إني أقتصر على ترجمة مجموعة من أشهر شيوخه الذين أخذ عنهم وهم كما يلي:

التعريف بأشهر شيوخه

1-

حماد بن أبي سليمان: هو حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري، مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الفقيه.

ص: 78

قال عنه الذهبي: "العلامة الإمام فقيه العراق

أصله من أصبهان، روى عن أنس بن مالك، وتفقّه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأصبرهم بالمناظرة والرأي

وكان أحد العلماء الأذكياء، والكرام الأسخياء له ثروة وحشمة وتجمل" إلى أن قال:"فأفقه أهل الكوفة علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد، أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى"1. وقال ابن سعد: "قالوا وكان حماد ضعيفا في الحديث، فاختلط في آخر أمره، وكان مرجئا، وكان كثير الحديث" 2.

وقال عنه النسائي: "ثقة إلا أنه مرجئ"3.

وقال ابن حبان: "وكان مرجئا، وكان لا يقول بخلق القرآن، وينكر على من يقوله"4.

وقال معمر لحماد: "كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا، قال: إني إن أكن تابعا في الحق، خير من أن أكون رأسا في الباطل. قال الذهبي على أثره: يشير معمر إلى أنه مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن

1 سير أعلام النبلاء 5/231-236.

2 الطبقات 6/333.

3 تهذيب الكمال 7/277؛ تهذيب التهذيب 3/17.

4 الثقات 4/160؛ تهذيب التهذيب 3/17.

ص: 79

شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض نسأل الله العافية" 1.

قال خليفة بن خياط: "مات حماد سنة عشرين ومائة"2.

2-

زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي المدني:

قال عنه الذهبي: "كان ذا علم وجلالة وصلاح، هفا وخرج فاستشهد

خرج متأولا وقتل شهيدا وليته لم يخرج" 3.

وقال عيسى بن يونس: "جاءت الرافضة زيدا، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى ننصرك قال: بل أتولاهما. قالوا: إذا نرفضك فمن ثم قيل لفظة الرافضة. وأما الزيدية فقالوا بقوله وحاربوا معه"4.

وقال عنه ابن حجر: "ثقة من الرابعة وهو الذي ينسب إليه الزيدية. خرج في خلافة هشام بن عبد الملك، فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان مولده سنة ثمانين"5.

3-

عطاء بن أبي رباح:

هو عطاء بن أبي رباح، بفتح الراء، واسم أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي مفتي أهل مكة ومحدثهم، قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ

1 سير أعلام النبلاء 5/233

2 كتاب الطبقات لخليفة بن خياط ص162. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6/332؛ والتاريخ الكبير 3/18؛ وتهذيب الكمال 7/269-279.

3 سير أعلام النبلاء 5/389-391.

4 سير أعلام النبلاء 5/390.

5 تقريب التهذيب 1/276.

ص: 80

الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم المكي: يقال ولاؤه لبني جمح" 1.

وقال عنه ابن حجر: "ثقه فقيه، فاضل، لكنه كثير الإرسال من الثالثة مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور"2.

4 -

عبد الملك بن أبي المخارق: بضم الميم وبخاء معجمة، أبو أمية المعلم المصري، واسم أبيه قيس، وقيل طارق نزيل مكة.

قال معمر: "سألني حماد ـ يعني بن أبي سليمان، عن فقهائنا، فذكرتهم فقال: قد تركت أفقههم، يعني عبد الكريم أبا أمية. قال أحمد بن حنبل: "كان يوافقه على الإرجاء" 3.

قال عنه ابن حجر: "ضعيف له في البخاري زيادة، في أول قيام الليل من طريق سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاووس، عن ابن عباس في الذكر عند القيام

وله ذكر في مقدمة مسلم، وما روى له النسائي إلا قليلا من الثالثة مات سنة ست وعشرين ومائة" 4.

5-

عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي:

قال عنه ابن معين: "شيعي مفرط"5.

وقال الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان مغاليا يعني في التشيع"6.

1 سير أعلام النبلاء 5/79.

2 تقريب التهذيب 2/22. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 5/467؛ والتاريخ الكبير 6/463؛ والمعرفة والتاريخ 1/701.

3 تهذيب التهذيب 6/376.

4 تقريب التهذيب 1/516.

5 تهذيب التهذيب 7/166؛ ميزان الاعتدال 3/62.

6 تهذيب التهذيب 7/166.

ص: 81

وقال أحمد: "ثقة إلا أنه كان يتشيع"1.

قال الذهبي: "عالم الشيعة وقاصُّهم وإمام مسجدهم، ولو كانت الشيعة مثله لقلّ شرهم"2. قال ابن حجر: "ثقة رمي بالتشيع، مات سنة ست عشرة ومائة" 3.

6-

قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السدوسي البصري الضرير الأكمه:

قال عنه الذهبي: "حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين

وهو حجة بالإجماع إذا بيّن السماع، لكنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، مع هذا فما توقّف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحرّيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلَلُه ولا نضلله ولا نطَّرحه، وننسى محاسنه. نعم لا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" 4.

وقال علي بن المديني: "قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن يقول: اترك كل من كان رأسا في بدعة يدعو إليها قال: كيف تصنع بقتادة

1 تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين ص177، تحقيق صبحي السامرائي، الدار السلفية.

2 ميزان الاعتدال 3/61.

3 تقريب التهذيب 2/16. وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 2/923، ط/ المصورة عن المخطوط، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/223.

4 سير أعلام النبلاء 5/271.

ص: 82

وابن أبي روّاد وعمر بن ذر، وذكر قوما ثم قال يحيى: إن تركت هذا الضرب تركت كثيرا" 1.

وقال عنه ابن حجر: "ثقة ثبت يقال: وُلد أكمه 2، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومائة"3.

7-

قيس بن مسلم الجدلي الكوفي أبو عمرو:

قال عنه أبو داود: "كان مرجئا"4.

وقال عنه النسائي: "ثقة وكان يرى الإرجاء"5.

وقال عنه الذهبي: "الإمام المحدث"6.

وقال ابن حبان: "مات سنة عشرين ومائة"7.

8-

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو جعفر الباقر:

قال عنه الذهبي: "الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام

وكان سيد بني هاشم في زمانه اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم، يعني شقّه فعلم أصله وخفيّه" 8.

1 تهذيب التهذيب 8/353.

2 هو الذي يولد أعمى. انظر مختار الصحاح ص579.

3 تقريب التهذيب 2/123. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7/229؛ والتاريخ الكبير 7/185؛ والجرح والتعديل 7/133.

4 سير أعلام النبلاء 5/164.

5 تهذيب التهذيب 8/404.

6 سير أعلام النبلاء 5/164.

7 الثقات 7/326. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6/317؛ والتاريخ الكبير 5/145؛ والجرح والتعديل 7/103.

8 تذكرة الحفاظ 1/124، 125.

ص: 83

وقال سالم بن أبي حفصة: "سألت أبا جعفر وابنه جعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر فقالا لي: يا سالم تولهما ابرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما"1.

وقال عنه ابن حجر: "ثقة مات سنة بضع عشرة ومائة"2.

9-

محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير القرشي التيمي المدني:

قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام"3.

وقال عنه أبو حاتم البستي: "كان من سادات القراء"4.

وقال مالك: "كان ابن المنكدر سيد القراء"5.

وقال عنه ابن حجر: "ثقة فاضل من الثالثة مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها"6.

10-

نافع أبو عبد الله القرشي ثم العدوي العمري مولى ابن عمر وراويتُه:

قال عنه الذهبي: الإمام المفتي الثبت عالم المدينة" 7.

1 تهذيب التهذيب 9/350، 351.

2 تقريب التهذيب 2/191. وانظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/124؛ وحلية الأولياء 3/180؛ وطبقات ابن سعد 5/235.

3 سير أعلام النبلاء 5/353.

4 سير أعلام النبلاء 5/354.

5 سير أعلام النبلاء 2/210.

6 تقريب التهذيب 2/210. وانظر ترجمته في التاريخ الكبير 1/219؛ وحلية الأولياء 3/146؛ والجرح والتعديل 8/97.

7 سير أعلام النبلاء 5/95.

ص: 84

قال عنه ابن حجر: "ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك"1.

3-

تلاميذه

أخذ العلم عن الإمام أبي حنيفة كثيرون، من محدثين وفقهاء. ولقد ذكر المزي في تهذيب الكمال 2، طائفة ممن أخذوا العلم عن أبي حنيفة بلغ عدد من ذكرهم سبعين تلميذا وهم كالآتي:

"إبراهيم بن طهمان، والأبيض بن الأغر بن الصباح، وأسباط بن محمد القرشي، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، وإسماعيل بن يحيى الصيرفي، وأيوب بن هاني الجعفي، والجارود بن يزيد النيسابوري، وجعفر بن عون، والحارث بن نبهان، وحبان بن علي العنزي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، والحسن بن فرات القزاز، والحسين بن الحسن بن عطية العوفي، وحفص بن عبد الرحمن البلخي القاضي، وحكام بن سالم الرازي، وأبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، وحمزة بن حبيب الزيات، وخارجة بن مصعب السرجني، وداود بن نصير الطائي، وأبو الهذيل زفر بن الهذيل التميمي، وزيد بن الحباب العكلي، وسابق الرقي، وسعد بن الصلت قاضي شيراز، وسعيد بن أبي الجهم القابوسي، وسعيد بن سلام بن أبي الهيفا العطار البصري، وسلم بن سالم البلخي، وسليمان بن عمرو النخيعي، وسهل بن

1 تقريب التهذيب 2/296. وانظر ترجمته في: التاريخ الكبير 8/84؛ والمعرفة والتاريخ 1/645؛ والجرح والتعديل 8/451.

2 3/1415، ط/ دار المأمون، نسخة مصورة عن أصل خطي.

ص: 85

مزاحم، وشعيب بن إسحاق الدمشقي، والصباح بن محارب، والصلت بن الحجاج الكوفي، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد، وعامر بن فرات النسوي، وعايد بن حبيب، وعباد بن العوام، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، وأبو يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وعبد الرزاق بن همام، وعبد العزيز الترمذي، وعبد الكريم بن محمد الجرجاني، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وعبد الوارث بن سعيد، وعبيد الله بن الزبير القرشي، وعبيد الله بن عمرو الرقي، وعبيد الله بن موسى، وعتاب بن محمد بن شوذب، وعلي بن ظبيان الكوفي القاضي، وعلي بن عاصم الواسطي، وعلي بن مسهر، وعمرو بن محمد العنقزي، وعمرو بن الهيثم القطيعي، وأبو نعيم الفضل بن دكين، والفضل بن موسى الشيباني، والقاسم بن الحكم العرني، والقاسم بن معن المسعودي، وقيس بن الربيع، ومحمد بن أبان العمبري الكوفي، ومحمد بن بشر العبدي، ومحمد بن الحسن بن أنس الصنعاني، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن خالد الوهبي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن فضل بن عطية، ومحمد بن القاسم الأسدي، ومحمد بن مسروق الكوفي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومروان بن سالم، ومصعب بن المقدام، ومعافر بن عمران الموصلي، ومكي بن إبراهيم البلخي، وأبو سهل نصر بن عبد الكريم البلخي، ونصر بن عبد الملك العتكي، وأبو غالب النصر بن عبد الله الأزدي، والنصر بن محمد المروذي، والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني، ونوح بن دراج القاضي، وأبو عصمة نوح بن أبي مريم، وهشيم بن بشير، وهوذة بن خليفة، والهياج بن بساط البرجمي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن أيوب المصري، ويحيى بن نصر بن حاجب، ويحيى بن يمان، ويزيد بن

ص: 86

زريع وبزيد بن هارون، ويونس بن بكير الشيباني، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو حمزة السكري، وأبو سعد الصاغاني، وأبو شهاب الحناط، وأبو مقاتل السمرقندي، والقاضي أبو يوسف".

فهؤلاء طائفة ممن أخذوا عن أبي حنيفة، وإن كانوا أكثر من ذلك لانقطاعه للتعليم فترة طويلة قاربت ربع قرن أو أكثر.

وسأقتصر على ترجمة مجموعة من أشهر تلاميذه الذين أخذوا عنه وهم كما يأتي:

التعريف بأشهر تلامذته

1-

جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي:

قال عنه النسائي وأبو حاتم والعجلي: "ثقة".

وقال عنه أحمد: "لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول".

وقال عنه ابن حجر: "الكوفي نزيل الري وقاضيها ثقة صحيح الكتاب، قيل كان في آخر عمره يتهم في حفظه، مات سنة ثمان ثمانين ومائة، وله إحدى وسبعون سنة"1.

2-

الحسن بن زياد اللؤلؤي مولى الأنصار:

قال عنه الخطيب: "أحد أصحاب أبي حنيفة الفقيه، حدث عن أبي حنيفة، روى عنه محمد بن سماعة القاضي، ومحمد بن شجاع الثلجي، وشعيب بن أيوب الصريفيني، وهو كوفي نزل بغداد".

1 انظر ترجمته في تقريب التهذيب 1/127؛ وتهذيب التهذيب 2/75؛ والجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/10.

ص: 87

وقال عنه الذهبي: "العلامة فقيه العراق

كان أحد الأذكياء البارعين في الرأي، ولي القضاء بعد حفص بن غياث ثم عزل نفسه".

قال فيه يحيى بن معين والنسائي: كذاب خبيث، وكذبه أيضا أبو داود، وأبو ثور، ويعقوب والدارقطني وغيرهم.

وقال عنه ابن المديني: "لا يكتب حديثه".

وقال أبو حاتم، وأبو داود والنسائي، وغيرهم:"ليس بثقة ولا مأمون".

وقال الدارقطني: كذاب كوفي متروك الحديث.

مات سنة أربع ومائتين 1.

3-

حفص بن غياث بن طلق بن معاوية أبو عمر الكوفي القاضي:

قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ أبو عمر النخعي الكوفي قاضي بغداد ثم قاضي الكوفة".

وقال عنه ابن حجر: "القاضي ثقة فقيه تغير حفظه قليلا في الآخر، من الثامنة، مات سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة، وقد قارب الثمانين"2.

1 انظر ترجمته في تاريخ ابن معين 1/114، 3/36؛ ومجموعة رسائل للنسائي ص71؛ وكتاب الضعفاء له ص89،؛ والضعفاء للعقيلي 1/227-228؛ والجرح والتعديل 3/15؛ وتاريخ بغداد 7/314-317؛ والكامل لابن عدي 2/731؛ وسير أعلام النبلاء 9/543؛ وميزان الاعتدال 1/491؛ ولسان الميزان 2/208، 209؛ والفوائد البهية ص61.

2 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/297؛ وميزان الاعتدال 1/567؛ والثقات 6/200؛ وتقريب التهذيب 1/189؛ وتهذيب التهذيب 2/415.

ص: 88

4-

حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي:

قال عنه الذهبي: "ضعفه ابن عدي وغيره من قبل حفظه".

وقال عنه ابن خلكان: "كان على مذهب أبيه رضي الله عنه، وكان من الصلاح والخير على قدر عظيم".

"تفقه على أبيه وأفتى في زمانه، وتفقه عليه ابنه إسماعيل، وهو من طبقة أبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وكان الغالب عليه الورع والزهد، استقضى على الكوفة بعد القاسم بن معين الكوفي تلميذ أبي حنيفة"1.

ولم أقف له على تاريخ وفاة.

5-

الحكم بن عبد الله بن مسلم أبو مطيع البلخي الخراساني:

قال عنه ابن معين: "ليس بشيء".

وقال عنه أبو حاتم: "تركوا حديثه وكان جهميا".

وقال ابن حبان: "كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها".

وقال عنه الذهبي: "أبو مطيع البلخي الفقيه صاحب أبي حنيفة، تفقه به أهل تلك الديار، وكان بصيرا بالرأي علاّمة كبير الشأن، ولكنه واهم في ضبط الأمر

ولي أبو مطيع قضاء بلخ، ومات سنة تسع وتسعين ومائة عن أربع وثمانين سنة" 2.

1 انظر ترجمته في الجرح والتعديل 3/149، والكامل لابن عدي 2/669؛ ووفيات الأعيان 2/205؛ وميزان الاعتدال 1/590؛ ولسان الميزان 2/346-347؛ والجواهر المضية 3/153؛ والفوائد البهية ص69.

2 انظر ترجمته في تاريخ ابن معين 4/356؛ والضعفاء للنسائي ص259؛ =

ص: 89

6 -

زفر بضم الزاي وفتح الفاء بن الهذيل بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء المثناة بن قيس العنبري:

قال عنه الذهبي: "الفقيه المجتهد الرباني العلامة

هو من بحور الفقه، تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان ممن جمع بين العلم والعمل وكان يروي الحديث ويتقنه".

وقال عنه ابن خلكان: "الفقيه الحنفي كان قد جمع بين العلم والعبادة، وكان من أصحاب الحديث، غلب عليه الرأي، وهو أقيس أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.

مات سنة ثمان وخمسين ومائة 1.

7-

عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي:

قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي، مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ الغازي أحد الأعلام".

وقال الخطيب: "وكان من الربانيين في العلوم، الموصوفين بالحفظ، ومن المذكورين بالزهد ".

وقال عنه أسود بن سالم: "كان ابن المبارك إماما يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة. إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام".

= والمجروحين لابن حبان 1/250؛ والجرح والتعديل 3/122؛ والكامل لابن عدي 2/631؛ والميزان 1/5714؛ واللسان 2/334؛ والفوائد البهية ص68.

1 انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/317؛ وسير أعلام النبلاء 8/38؛ وشذرات الذهب 2/243؛ والجواهر المضية 2/207؛ والفوائد البهية ص75.

ص: 90

مات سنة إحدى وثمانين ومائة وهو ابن ثلاث وستين 1.

8-

محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني:

قال عنه الذهبي: "العلامة فقيه العراق أبو عبد الله الشيباني الكوفي صاحب أبي حنيفة، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، وأخذ عن أبي حنيفة بعض الفقه، وتمم الفقه على القاضي أبي يوسف

ولي القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف، وكان مع تبحره في الفقه يضرب بذكائه المثل".

وقال عنه الخطيب: "أبو عبد الله الشيباني مولاهم

صاحب أبي حنيفة وإمام أهل الرأي

نشأ بالكوفة وطلب العلم وطلب الحديث، وجالس أبا حنيفة وسمع منه ونظر في الرأي فغلب عليه، وعرف به ونفذ فيه، وقدم بغداد فنزلها واختلف إليه الناس، وسمعوا منه الحديث والرأي، وخرج إلى الرَّقّة 2، وهارون أمير المؤمنين بها، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله فقدم بغداد، فلما خرج هارون إلى الري3 الخرجة الأولى أمره فخرج معه؛ فمات بالري سنة تسع وثمانين ومائة وهو ابن ثمان وخمسين سنة" 4.

9-

نوح بن أبي مريم المروزي أبو عصمة القرشي مولاهم:

1 انظر ترجمته في تاريخ بغداد 10/152؛ وسير أعلام النبلاء 8/378؛ والجواهر المضية 2/324؛ والفوائد البهية ص103.

2 الرقة بفتح أوله وثانيه وتشديده وأصله كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء وجمعها رُقاق، وهي مدينة مشهورة على الفرات معدودة في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي. معجم البلدان 3/58، 59.

3 الري: بفتح أوله وتشديد ثانيه، وهي مدينة مشهورة بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا. انظر معجم البلدان 3/116.

4 انظر تاريخ بغداد 2/172؛ وسير أعلام النبلاء 9/134؛ والجواهر المضية 3/22؛ والفوائد البهية ص163.

ص: 91

قال ابن المبارك: "يضع الحديث كما يضع المعلَّى"1.

وقال عنه أحمد بن حنبل: "كان أبو عصمة يروي أحاديث مناكير وكان شديدا على الجهمية والرد عليهم"2.

وقال عنه البخاري: "نوح بن أبي مريم ذاهب الحديث جدا"3.

وقال: "منكر الحديث"4.

وقال مسلم وغيره: "متروك الحديث"5.

وقال ابن حبان: "نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق"6.

وقال عنه اللكنوي: "أبو عصمة المروزي الشهير بالجامع

وهو وإن كان فقيها جليلا إلا أنه مقدوح فيه عند أهل الحديث" 7.

وقال عنه ابن حجر: "يعرف بالجامع لجمعه العلوم، لكن كذبوه في الحديث"8.

مات سنة ثلاث وسبعين ومائة 9.

1 التاريخ الصغير 2/165، تحقيق المرغني.

2 العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد 3/437؛ وتهذيب التهذيب 10/487.

3 التاريخ الكبير 8/111؛ وتهذيب التهذيب 10/488.

4 الميزان 4/279.

5 الكنى لمسلم 1/643؛ تحقيق القشقري، والميزان 4/279.

6 تهذيب التهذيب 10/488؛ قلت: ترجم له ابن حبان في المجروحين 3/48؛ 49؛ ولكن لم أجد فيه كلام ابن حبان هذا؟!

7 الفوائد البهية ص221.

8 تقريب التهذيب 2/309.

9 انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/279، 280؛ وشذرات الذهب 1/273؛ والجواهر المضية 2/72.

ص: 92

10-

يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي:

قال عنه الخطيب: "القاضي صاحب أبي حنيفة

سكن بغداد وولاه موسى بن مهدي القضاء بها ثم هارون الرشيد من بعده، وهو أول من سمي قاضي القضاة في الإسلام" 1.

وقال عنه طلحة بن محمد بن جعفر: "أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرئاسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض"2.

وقال عنه اللكنوي: "كان صاحب حديث حافظا. ولزم أبا حنيفة وغلب عليه الرأي، وولي قضاء بغداد فلم يزل بها حتى مات سنة ثلاث وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد"3.

4-

مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه

"أ" مكانته العلمية:

أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من العلوم الشرعية نصيبا وافرا، وكان له نبوغ في العلوم الشرعية، وكثرة اشتغاله بها، وله قدرة على الإفتاء

1 تاريخ بغداد 14/242.

2 تاريخ بغداد 14/242.

3 الفوائد البهية ص225، وانظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص328؛ والجواهر المضية 3/613.

ص: 93

والتدريس وحل المشكلات الدقيقة التي تعرض عليه.

وكان له مع ذلك معرفة ببعض العلوم الأخرى، كعلم الكلام والجدل، وكانت معرفته تلك مرتبطة بنشأته بالكوفة؛ حيث كانت موطنا للنّحل المختلفة، والفرق المتباينة، وإذا كان المجتمع على هذه الشاكلة كثر فيه الجدل والمناظرات حول العقائد.

لذلك انشغل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في بداية طلبه للعلم بعلم الكلام حتى برع فيه ونبغ، وبلغ فيه مبلغا يشار إليه بالبنان، وكان به يجادل وعنه يناضل، وكان يرتحل إلى البصرة لمناقشة أصحاب الخصومات.

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام، فمضى دهر فيه أتردد، وبه أخاصم وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرهم بالبصرة، فدخلت البصرة نيفا وعشرين مرة

" 1.

وقال قبيصة بن عقبة: "كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله في أول أمره يجادل أهل الأهواء، حتى صار رأساً في ذلك، منظوراً إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماماً2.

هذه لمحة موجزة عن ثقافته في علم الكلام، حيث كان رأسا فيه، ثم بدا له فتركه، وتحول عنه إلى علم الفقه والسنة. وسوف أعرض منزلته في علمي الفقه والحديث.

أولاـ الفقه:

أراد الله بالإمام خيرا حين ترك علم الكلام والجدل، وأقبل على تعلم

1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.

2 عقود الجمان ص161.

ص: 94

الفقه والسنة، فاتصل بالعلماء من محدثين وفقهاء؛ يأخذ عنهم، لذلك رأيناه يلازم حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وليس معنى ذلك أنه لم يأخذ الفقه إلا عن حماد، بل الثابت أنه اتصل بالكثير من الفقهاء وأخذ عنهم مثل عطاء بن أبي رباح فقيه مكة، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن علي، وجعفر الصادق وغيرهم.

من أجل ذلك نرى الإمام يجيب الخليفة العباسي المنصور لما سأله: يا نعمان عمن أخذت العلم، قال:"عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه، قال: لقد استوثقت لنفسك".

وفي رواية أخرى أنه أجاب عن سؤال المنصور بقوله: "عن حماد عن إبراهيم 1، عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، فقال: بخٍ بخٍ استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة الطيبين الطاهرين"2.

وهؤلاء الشيوخ الأفاضل كانوا أئمة الفقه في عصره، بالإضافة إلى رغبته القوية للتحصيل العلمي، ساعده على ذلك ما فطره الله عليه من الذكاء والفطنة والسجايا الحسنة ـ كالصبر والحلم ـ، وهذه الأمور كلها ساعدت على نبوغه، ففاق أقرانه والكثير من أهل عصره في هذا العلم، فكان الناس عيالا عليه، كما قال الإمام الشافعي: "من أراد أن يعرف

1 هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي، قال عنه الذهبي:"الإمام الحافظ فقيه العراق، وقال عنه ابن حجر: "الفقيه ثقة إلا أنه يرسل كثيرا من الخامسة مات سنة 96هـ"، انظر: سير أعلام النبلاء 4/520، وتقريب التهذيب 1/46.

2 تاريخ بغداد 13/334.

ص: 95

الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه" 1.

وقال عبد الله بن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس"2.

وقال حفص بن غياث: "كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر"3.

فمن المسائل الفقهية الدقيقة التي عرضت على أبي حنيفة، ما ذكره الصالحي عن وكيع قال:"كنا عند أبي حنيفة فأتته امرأة فقالت: مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني دينارا واحدا، قال: ومن قسم فريضتكم؟ قالت: داود الطائي قال: هو حقك أليس خلف أخوك بنتين؟ قالت: بلى، قال: وأمًّا؟ قالت: بلى، قال: وزوجة؟ قالت: بلى، قال: واثني عشر أخا وأختا واحدة؟ قالت: بلى، قال: فإن للبنات الثلثين أربعمائة، وللأم السدس مائة، وللمرأة الثمن خمسة وسبعين، ويبقى خمسة وعشرون؛ للإخوة أربعة وعشرون لكل أخ ديناران، ولك دينار"4.

لذا قال الذهبي في فقه أبي حنيفة: "الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه ـ ثم استشهد بهذا البيت:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل 5

فكلام هؤلاء الأئمة في تقدير فقه الإمام أبي حنيفة ليس فيه مبالغة؛ فأثر فقه الإمام واضح على تلاميذه، وعلى من جاء بعدهم، فالمنتسبون إلى

1 تاريخ بغداد 13/346.

2 سير أعلام النبلاء 6/403.

3 سير أعلام النبلاء 6/403.

4 عقود الجمان ص261.

5 سير أعلام النبلاء 6/403.

ص: 96

مذهبه في زماننا هذا جمع غفير من أمة الإسلام. ومما ساعد على انتشار مذهبه أن قيض الله لأبي حنيفة تلامذة نشروا المذهب، تأليفا 1 وتدريسا وإفتاءً.

ثم إن من هؤلاء من تولى القضاء 2، فصار سببا في شيوع مذهب أبي

1 أول من دوّن الكتب من تلامذة أبي حنيفة تلميذه الأكبر أبو يوسف. قال اللكنوي في الفوائد ص225: "كان أبو يوسف هو المقدم من أصحاب الإمام وأول من وضع الكتب على أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض"، وذكر ابن النديم في الفهرست ص256 أسماء بعض مؤلفات أبي يوسف ككتاب الصلاة، والزكاة، والصيام، والفرائض والبيوع، والحدود والوكالة، والوصايا، والصيد والذبائح، والغصب والاستبراء واختلاف الأمصار، والرد على مالك بن أنس، ورسالته في الخراج وكتاب الجوامع ولم يصل إلينا من هذه الكتب إلا رسالته التي كتبها في الخراج وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ومن الذين دونوا الكتب من تلامذة الإمام أبي حنيفة زفر ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو بن الفرات وغيرهم..قال الطحاوي كما في الفوائد البهية ص224، كان أصحاب أبي حنيفة الذين دوّنوا الكتب أربعين رجلا فكان في العشرة المتقدمين أبو يوسف وزفر ومحمد وداود الطائي وأسد بن عمرو ويوسف بن خالد ويحيى بن زكريا".

ولم يصل إلينا من مؤلفات هؤلاء إلا بعض كتب محمد بن الحسن كالجامع الصغير والجامع الكبير والسير الصغير والسير الكبير وكتاب الآثار وكتاب الحجة على أهل المدينة، فمن هذه الكتب وغيرها أخذت الحنفية مذهب أبي حنيفة.

2 الذين تولوا القضاء من تلامذة الإمام كثير وهم على سبيل المثال لا الحصر:

1-

حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي ولاه هارون الرشيد قضاء بغداد وكذا تولى قضاء الكوفة. انظر الجواهر المضية 1/138، والفوائد البهية ص68. =

ص: 97

حنيفة في القرون الأولى.

قال عبد الحي اللكنوي: "وكان أشهر أصحابه أبو يوسف؛ تولى قضاء القضاة زمن هارون الرشيد؛ فكان سببا لشيوع مذهبه في أقطار العراق وبلاد ما وراء النهر"1.

= 2- حفص بن عبد الرحمن البلخي: تولى قضاء نيسابور. انظر الجواهر المضية 2/137.

3-

أسد بن عمرو بن عامر القشيري البجلي الكوفي: تولى قضاء بغداد وواسط. انظر الفوائد البهية ص44.

4-

الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي: تولى قضاء الكوفة. انظر الفوائد البهية ص60.

5-

زفر بن الهذيل: تولى قضاء البصرة في زمن أبي حنيفة. انظر الانتقاء ص173.

6-

علي بن ضبيان الكوفي: تولى قضاء الشرقية ثم ولي قضاء القضاة أيام الرشيد. انظر الجواهر المضية 2/573.

7-

يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الكوفي: تولى قضاء المدينة. انظر الفوائد البهية ص45.

8-

يحيى بن زكريا: ولي القضاء بعد أبي يوسف. انظر الفوائد البهية ص45.

9-

محمد بن الحسن الشيباني: تولى قضاء الرقة. انظر الانتقاء ص175.

10-

نوح بن درج القاضي: تولى قضاء الكوفة. انظر الجواهر المضية 3/562.

11-

نوح بن أبي مريم: تولى قضاء مرو. انظر الفوائد البهية ص222.

12-

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم: تولى القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس المهدي والهادي والرشيد. انظر الانتقاء ص173.

1 النافع الكبير مقدمة الجامع الصغير ص7، وراجع حجة الله 1/152، والتنكيل 1/259-261.

ص: 98

ثم انتشر المذهب شيئا فشيئا حتى غطى رقعة كبيرة من الأراضي الإسلامية.

قال ابن خلدون: "وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر وبلاد العجم كلها"1.

قلت: هذا في زمن ابن خلدون أي في القرن الثامن، وأما الذي ساعد على بقائه من زمنه إلى الآن تطبيق الدولة العثمانية لمذهب أبي حنيفة في جميع الولايات الإسلامية التي كانت تحت سلطانها، وقد بقيت بعض البلاد العربية ـ كالشام ومصر وغيرهما ـ تعمل محاكمها الشرعية ـ الخاصة بالأحوال الشخصية ـ وفق مذهب أبي حنيفة بعد انحسار الحكم العثماني. هذه منزلة أبي حنيفة في الفقه، وأما في الحديث فسأتناولها في الفقرة الآتية.

ثانيا ـ الحديث:

اشتغل الإمام بطلب علم الحديث بعد سنة مائة للهجرة 2، فسمع الحديث من شيوخ أجلاّء كثيرين تقدم ذكر بعضهم 3، وارتحل في سبيل ذلك 4

ومع هذا فهو مقل في رواية الحديث ولعل السبب في ذلك تشدده في الرواية فهو لا يرى الرواية إلا لمن يحفظ. قال ابن الصلاح: "شدد قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرّطوا ومن التشدد

1 المقدمة 3/1052.

2 سير أعلام النبلاء 6/396.

3 انظر ص73 من هذه الرسالة.

4 سير أعلام النبلاء 6/396.

ص: 99

مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة" 1.

وذكر الصالحي سببا آخر، وهو انشغال الإمام أبي حنيفة باستنباط المسائل من الأدلة. يقول: "وإنما قلت الرواية عنه

لاشتغاله عن الرواية باستنباط المسائل من الأدلة كما كان أجلاء الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما يشتغلون بالعمل عن الرواية، حتى قلت رواياتهم بالنسبة إلى كثرة اطلاعهم، وكثرة رواية من دونهم بالنسبة إليهم فيما سمع وكذا الإمام مالك والشافعي لم يرويا إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعا كل ذلك لاشتغالهما باستخراج المسائل من الأدلة

" 2.

وأعتقد ـ والله أعلم ـ أنه لا يوجد للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى تأليف في الحديث، وإنما هناك مسانيد 3 ألفت بعد وفاته وليست من

1 علوم الحديث 185-186، ومع التقييد والإيضاح ص185، والانتقاء 139.

2 عقود الجمان ص319، 320.

3 جمع مسانيد الإمام بعض أهل العلم من الحنفية منهم:

"أ" عبد الله بن يعقوب بن الحارث الحارثي الحنفي المعروف بالأستاذ "340هـ"، وهو مسند كبير ثم اختصره صدر الدين موسى بن زكريا الحصكفي الحنفي وشرحه الملا على القاري وهو مطبوع، ثم قام بترتيبه على أبواب الفقه العلامة المحدث محمد بن عابد السندي وهو أيضا مطبوع، ثم تولى شرحه محمد بن حسن السمبلي الحنفي الهندي وسماه تنسيق النظام في مسند الإمام وهو مطبوع أيضا، والحارثي هذا كذاب يضع الحديث. راجع الميزان 2/296، واللسان 3/349.

"ب" ومحمد بن محمود الخوارزمي المتوفى سنة 655هـ، وسماه جامع المسانيد وهو مطبوع في مجلدين جمع فيه خمسة عشر مسندا منها مسند الحارثي المذكور آنفا وكان سبب تأليفه لهذا المسند أنه سمع بعض أهل الشام نسب إلى الإمام أبي حنيفة قلة الرواية في الحديث قال: "فلحقتني حمية دينية ربانية =

ص: 100

تأليفه 1، كما قال الشاه عبد العزيز 2 الدهلوي الحنفي، بل جمعها الجامعون بعد أزمنة متطاولة والسنة كثيرة متناولة. قال المعلمي:"غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون، وجماعة منهم متهمون بالكذب، ومن لم يكن منهم متهما يكثر أن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة من لا يعتد بروايته"3.

ويظهر من كلام الشاه ولي الله أن هذه المسانيد ساقطة عن مرتبة الاحتجاج؛ إذ أوردها في الطبقة الرابعة من طبقات الحديث، فقد قال:"وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفا محتملا، وأسوؤها ما كان موضوعا، أو مقلوبا شديد النكارة، وهذه الطبقة مادة كتاب الموضوعات لابن الجوزي"4.

ولذا قال ابن حجر: "قوله 5 وكذلك مسند أبي حنيفة توهم أنه جمع أبي حنيفة، وليس كذلك. والموجود من حديث أبي حنيفة مفردا إنما هو كتاب الآثار التي رواها محمد بن الحسن عنه، ويوجد في تصانيف

= وعصبية حنفية نعمانية" جامع المسانيد 1/504، وهذه شهادة من الرجل على نفسه بالتعصب وليست العصبية المذهبية بمحمودة بل هي مذمومة في الدين.

1 بستان المحدثين ص50، ط/ الباكستانية.

2 هو عبد العزيز بن الشاه ولي الله الدهلوي الملقب بسراج الهند ولد عام تسعة وخمسين ومائة وألف، وتوفي سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف من مؤلفاته كتاب بستان المحدثين وكتاب تحفة الإثني عشرية وله تفسير في القرآن سماه بفتح العزيز وهو في مجلدات كبار ضاع معظمها في ثورة الهند.

انظر ترجمته في نزهة الخواطر 7/275، 283، أبجد العلوم 3/244.

3 التنكيل 1/214، وانظر مثل هذا الكلام في تنسيق النظام ص3-7.

4 حجة الله البالغة 1/135، وانظر الحطة ص121، وقواعد الحديث ص251.

5 يعني الحافظ محمد بن علي بن حمزة الحسيني الدمشقي.

ص: 101

محمد بن الحسن وأبي يوسف قبله من حديث أبي حنيفة أشياء أخرى" 1.

وكذلك ليس للإمام مؤلف في الجرح والتعديل، وإنما له أقوال مبثوثة تلقاها عنه علماء هذا الفن بالقبول وعملوا بها من ذلك.

1-

قول أبي حنيفة: "ما رأيت أكذب من جابر الجعفي 2، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح"3.

2-

وقول أبي حنيفة: "طلق بن حبيب 4 كان يرى القدر"5.

3-

وقول أبي حنيفة: "زيد بن عياش 6 مجهول"7.

4-

وسئل أبو حنيفة عن الأخذ عن الثوري، فقال لمن سأله:"اكتب عنه فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحريث وحديث جابر الجعفي"8.

1 تعجيل المنفعة ص5.

2 هو جابر بن يزيد الجعفي أبو عبد الله الكوفي مات سنة 128، انظر ترجمته في التاريخ الكبير 2/210، والمجروحين 1/208، 209.

3 العلل للترمذي، ضمن سنن الترمذي ص741، المجروحين لابن حبان 1/209، شرح علل الترمذي ص64.

4 هو طلق بن حبيب العنزي البصري، قال عنه ابن حجر:"صدوق عابد رمي بالإرجاء". من الثالثة، مات بعد التسعين. تقرب التهذيب 1/380، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 5/31.

5 الطبقات السنية 1/97.

6 هو زيد بن عياش بتحتانية ومعجم أبو عياش المدني قال عنه ابن حجر: "صدوق من الثالثة". تقريب التهذيب 1/276، وانظر ترجمة تهذيب التهذيب 3/365 ط/ دار الفكر.

7 تهذيب التهذيب 3/366 ط/دار الفكر.

8 الطبقات السنية 1/97.

ص: 102

5-

وقول سفيان بن عيينة: "أول من أقعدني للحديث بالكوفة أبو حنيفة أقعدني في الجامع، وقال: هذا أقعد الناس بحديث عمرو بن دينار؛ فحدثتهم"1.

وكذا له أقوال وآراء في أصول الحديث، كانت موضع عناية علماء الحديث واهتمامهم، وهي مبثوثة في كتب المصطلح، من ذلك على سبيل المثال:

1-

شرط أبي حنيفة في رواية الحديث:

قال ابن الصلاح: " شدد قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرّطوا ومن التشديد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة"2.

2-

رأي أبي حنيفة في رواية المبتدع:

روى الخطيب بإسناده، عن عمر بن إبراهيم، قال:"سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة الإمام أبا حنيفة بمن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقائدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعا، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي، ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم، فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين"3.

3-

رأي أبي حنيفة في رواية المستور:

قال السرخسي: "روى الحسن عن أبي حنيفة أنه ـ أي مستور ـ

1 الانتقاء ص128.

2 علوم الحديث 185-186، ومع التقييد والإيضاح ص185.

3 الكفاية ص203، تقديم محمد التيجاني، ط/ دار التراث العربي.

ص: 103

بمنزلة العدل في رواية الأخبار؛ لثبوت العدالة له ظاهرا بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض" 1

" 2.

4 -

رأي أبي حنيفة بالاحتجاج بالمرسل:

قال النووي: "ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين، والشافعي، وكثير من الفقهاء، وأصحاب الأصول، وقال مالك وأبو حنيفة في طائفة صحيح"3.

5-

رأي أبي حنيفة في المناولة:

ذكر الحاكم وابن الصلاح عدة من الأئمة، فيهم الإمام أبو حنيفة، وذكر أنهم لم يروا المناولة سماعا4.

وأما الاحتجاج بحديث الإمام أبي حنيفة؛ فقد اختلف نقاد الحديث في ذلك.

فمنهم 5 من قبل حديثه ورأى أنه حجة فيما يرويه.

1 ليس هذا حديثا مرفوعا بل هو أثر عمر أخرجه الدارقطني في سننه كتاب الأقضية والأحكام كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى 4/206، 207 من طريق عبد الله بن أبي حميد عن أبي الملُليح، والبيهقي في السنن: كتاب آداب القاضي باب إنصاف الخصمين 10/155، 156 من طريق سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي عن سعيد بن أبي بردة، وأورده الألباني في إرواء الغليل 8/241، 258، وقال عنه: صحيح.

2 أصول السرخسي 1/370.

3 التقريب مع شرحه، تدريب الراوي 1/198، تحقيق عبد الوهاب.

4 معرفة علوم الحديث ص259، 260، وعلوم الحديث ص148، وانظر التقييد والإيضاح ص161، 162.

5 كيحيى بن معين وعلي بن المديني وشعبة بن الحجاج.

جامع بيان العلم وفضله 2/149، والانتقاء ص127.

ص: 104

ومنهم 1 من ضعفه، ولم يحتج بحديثه، وقالوا لكثرة غلطه وعدم ضبطه.

قال الذهبي: "لم يصرف الإمام همته لضبط الألفاظ والأسانيد، وإنما كانت همته القرآن والفقه، وكذلك حال كل من أقبل على فن؛ فإنه يقصر عن غيره، من ثم ليَّنوا حديث جماعة من أئمة القراء كحفص وقالون، وحديث جماعة من الزهاد كفرقد السبخي 2 وشقيق البلخي 3، وحديث جماعة من النحاة، وما ذاك لضعف في عدالة الرجل؛ بل لقلة إتقانه للحديث ثم هو أنبل من أن يكذب"4.

فهو قد اشتغل بالفقه أو النحو أو القرآن، ولم ينصب نفسه للتحديث وضبط الألفاظ والأسانيد 5. كان ذلك النقد الذي وجه للإمام

1 كالبخاري ومسلم وابن سعد والنسائي وابن حبان وابن عدي.

انظر التاريخ الكبير 8/81، والكنى والأسماء 1/276، والطبقات الكبرى 6/369، وكتاب الضعفاء والمتروكين ص233، والمجروحين 3/63، والكامل في الضعفاء 7/2472-2479.

2 هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري قال عنه ابن حجر: "صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ من الخامسة مات سنة إحدى وثلاثين ومائة".

تقريب التهذيب 2/108؛ وتهيب التهذيب 8/262، 263.

3 هو شقيق البلخي قال عنه الذهبي ثم ابن حجر: "كان من كبار الزهاد منكر الحديث

وكان من كبار المجاهدين رحمه الله تعالى استشهد سنة أربع وتسعين ومائة ولا يتصور أن يحكم عليه بالضعف، لأن نكارة تلك الأحاديث من جهة الراوي عنه وهو شفيق بن إبراهيم أبو علي". الميزان 2/279، واللسان 3/151-152.

4 مناقب أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي ص28.

5 وكذا من المحدثين من يُعنى بضبط المتون فيخطئ بالأسانيد، ومنهم من يعنى بضبط الأسانيد فيخطئ في المتون. قال الدارقطني في العلل: "كان شعبة =

ص: 105

وجعلوا ذلك قاعدة كلية للجرح.

قال ابن رجب: "قاعدة الفقهاء المعتنين بالرأي، حتى يغلب عليهم الاشتغال به، لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيرا ويروون المتون بالمعنى، ويخالفون الحفاظ في ألفاظه، ربما يأتون بألفاظ تشبه ألفاظ الفقهاء المتداولة بينهم، وقد اختصر شريك حديث رافع بن خديج في المزارعة، فأتى فيه بعبارة أخرى فقال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" 1.

= يخطئ في أسماء الرجال لتشاغله بحفظ المتون"، كما قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 4/302، ولم أجده في المطبوع من العلل.

1 هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه: أحمد 4/141، وأبو داود: كتاب البيوع باب زرع الأرض بغير إذن صاحبها 3/692 ح3403، والترمذي: كتاب الأحكام باب ما جاء فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم 3/639 ح1366، وابن ماجه: كتاب الرهون باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم 2/824 ح2466.

جميعهم من طريق عطاء بن رافع بن خديج.

قال الخطابي: "هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث، وحدثني الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون الحمال: أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك، ولا عن عطاء غير أبي إسحاق..وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئا وضعفه البخاري أيضا، وقال: وتفرد بذلك شريك عن أبي إسحاق وشريك يهم كثيرا أو أحيانا".

قلت: حديث المزارعة المروي عن رافع بن خديج له طرق عنه منها رواية ابن عمر عنه وفيها أن أبا جعفر الخطمي قال: بعثني عمي أنا وغلاما له إلى سعيد بن المسيب قال فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث، فأتاه فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعا في أرض ظهير قالوا: ليس لظهير، قال: أليست أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان، قال: فخذوا زرعكم =

ص: 106

هذا يشبه كلام الفقهاء

ثم قال: وكذلك فقهاء الكوفة، ورأسهم حماد بن أبي سليمان وأصحابه وأتباعهم، وكذلك الحكم بن عتيبة، وعبد الله بن نافع الصائغ صاحب مالك وغيرهم" 1.

هذه لمحة موجزة عن ثقافته الحديثية، ومكانته العلمية. وأما أقوال العلماء فيه فسأتناولها في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى.

"ب" أقوال العلماء فيه:

الذين أثنوا على الإمام في علمه وفقهه وورعه وزهده كثيرون، منهم:

1- الفضيل بن عياض، فقد روى عنه الخطيب قوله:"كان أبو حنيفة رجلا فقيها، معروفا بالفقه مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في الحلال والحرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من السلطان"2.

2-

ابن جريج، فقد روى عنه الصيمري قوله: "بلغني عن النعمان

وردوا عليه النفقة، قال رافع فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة.

أخرجه أبو داود: كتاب البيوع والإجارات باب في التشديد في ذلك 3/690 ح339 من طريق أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر. قال الألباني في الإرواء 5/353: "فهذا الإسناد صحيح لا علة فيه".

ومراد ابن رجب أن شريكا لم يحفظ الحديث تاما ولم يقم لفظه وإنما اختصره فأتى بعبارة أخرى لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم.

1 شرح علل الترمذي ص373، تحقيق صبحي السامرائي.

2 تاريخ بغداد 13/340.

ص: 107

فقيه الكوفة أنه شديد الورع، صائن لدينه ولعلمه، ولا يؤثر أهل الدنيا على أهل الآخرة" 1.

3-

أحمد بن حنبل، فقد نقل عنه الصالحي قوله:"هو من العلم والورع والزهد وإيثار الدار الآخرة بمحل، ولقد ضرب بالسياط على أن يلي القضاء لأبي جعفر المنصور فلم يفعل، فرحمة الله عليه"2.

4-

شعبة بن الحجاج العتكي، فقد قال عنه لما علم بوفاته:"لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله علينا وعليه برحمته"3.

5-

إسرائيل بن يونس، فقد روى عنه الخطيب قوله:"كان نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه، وكان قد ضبط عن حماد فأحسن الضبط عنه"4.

6-

الحسن بن صالح، فقد نقل عنه ابن عبد البر قوله:"كان النعمان بن ثابت فهما عالما متثبتا في علمه، إذا صحّ الخبر عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يعده إلى غيره"5.

7-

أبو داود السجستاني، فقد نقل عنه ابن عبد البر قوله:"رحم الله مالكا كان إماما، رحم الله الشافعي كان إماما، رحم الله أبا حنيفة كان إماما"6.

1 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص32، 33.

2 عقود الجمان ص193.

3 الانتقاء ص126.

4 تاريخ بغداد 13/339.

5 الانتقاء ص128.

6 الانتقاء ص32.

ص: 108

8-

ابن عبد البر: فقد قال عنه: "كان في الفقه إماما، حسن الرأي والقياس، لطيف الاستخراج جيد الذهن، حاضر الفهم، ذكيا ورعا عاقلا"1.

9-

أبو الحجاج المزي، قال عنه:"فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي"2.

10-

شيخ الإسلام ابن تيمية، قال عنه:"إن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء، وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه"3.

11-

الذهبي، قال عنه:"كان إماما ورعا عالما متعبدا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان"4.

ورغم ثنائهم عليه في سعة علمه وفقهه وورعه ومجانبته السلاطين، فقد عاب عليه بعض العلماء كلاما بلغهم عنه في الإيمان، وتكلموا فيه من أجلها، كقوله إن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان 5، ومن هنا كان اتهام أبي حنيفة بالإرجاء.

قال ابن عبد البر: "كل من قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل؛ ينكرون قوله، ويبدعونه بذلك"6.

1 الاستغناء 1/572.

2 تهذيب الكمال 3/1415.

3 منهاج السنة 2/619.

4 تذكرة الحفاظ 1/168.

5 الوصية مع شرحها ص2، والفقه الأكبر ص304، وسيأتي ذكر أقوال الإمام في مسمى الإيمان بتفصيل في الفصل الأول من الباب الثالث.

6 الانتقاء ص149.

ص: 109

ولا شك أن هذا القول خلاف مذهب السلف، لكنه إرجاء مقيد لا يصل إلى الإرجاء الخالص المطلق الذي يزعم أصحابه أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فبرغم موافقته لهؤلاء في عدم إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، لكنه يختلف معهم اختلافا جذريا؛ فهم يرون أنه لا تضر مع الإيمان معصية 1، وهو يرى أن مرتكب الذَّنب مستحق للعقاب، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في رده هذا المذهب الخبيث: "ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول إنه لا يدخل النار

ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة" 2.

فالمقصود أنه لا يجوز لنا أن نصف الإمام بالإرجاء المطلق الذي لا يقول به مسلم.

قال صاحب كتاب الإيمان بين السلف والمتكلمين: "وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن ركنيه في الإيمان، فإنه لم يدع برأيه هذا أرباب الشهوات لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغراء، كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللوم عن العصاة، وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله دون خشية من عقاب الله تعالى، إذ أنّ الإنسان في حل مما يفعل، فلا تثريب عليه أبدا إذا هو اتصف بالإيمان، الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب.

وأبو حنيفة حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف ذلك الموقف، فلا

1 الفقه الأكبر ص304.

2 انظر تاريخ بغداد 6/109.

ص: 110

يجوز لنا أن نصفه بالإرجاء المطلق، لأن الإرجاء الذي يتبادر إلى الذهن هو ذلك القول الذي لا يقول به مسلم أبدا" 1.

ومع هذا فإن أبا حنيفة لم يختص بهذا المذهب وحده، بل إنه مذهب لبعض أهل العلم 2 ممن اشتغلوا بعلم الحديث وروايته، بل إن منهم من روى له الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ في صحيحيهما.

قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: "وفي كتب الرجال نسب الإرجاء إلى جماعة من رجال البخاري ومسلم وغيرهما من الثقات الرفعاء؛ منهم ذر 3 بن عبد الله الهمداني أبو عمر التابعي، حديثه في كتب الجماعة كلهم. وقال أحمد: هو أول من تكلم في الإرجاء.

وأيوب بن عائذ الطائي 4، حديثه عند "خ، م، ت، د"، وسالم بن عجلان الأفطس 5 حديثه في "خ، د، س، ق"، وكان داعية إلى الإرجاء.

1 كتاب الإيمان بين السلف والمتكلمين ص91.

2 وفي هذا يقول ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/148 ط/ دار الكتب العلمية: "ونقموا أيضا على أبي حنيفة الإرجاء. ومن أهل العلم من ينتسب إلى الإرجاء كثير، لم يعن أحد بنقل قبيح ما قيل فيهم كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضا مع هذا يحسد وينسب إليه ما ليس فيه ويختلق عليه ما لا يليق" وبمثل هذا قال شيخ الإسلام. انظر منهاج السنة 2/619.

3 هو ذر بن عبد الله بن زرارة المرهبي الهمداني أبو عمر الكوفي، قال عنه ابن حجر:"ثقة عابد رمي بالإرجاء من السادسة مات قبل المائة".

تقريب التهذيب 1/238، وتهذيب التهذيب 1/406.

4 هو أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي البحتري بضم الموحدة وسكون المهملة وضم المثناة الكوفي قال عنه ابن حجر: "رمي بالإرجاء من السادسة".

تقريب التهذيب 1/90؛ وتهذيب التهذيب 1/406.

5 هو سالم بن عجلان الأفطس الأموي مولاهم أبو محمد الحراني قال عنه =

ص: 111

وشبابة بن سوار أبو عمرو المدائني 1، وكان داعية وقيل: إنه رجع عنه.

وابن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي 2، حديثه عند "خ، م، ت، ق" وكان داعية إلى ذلك.

وعثمان بن غياث الراسبي البصري 3، حديثه عند "خ، م، د، س" وعمرو بن ذر الهمداني الكوفي من كبار الزهاد والحفاظ، كان رأسا في الإرجاء، حديثه في "خ، د،ت، س".

وعمرو بن مرة الجملي 4، أحد الأثبات من كبار التابعين، حديثه عند الجماعة كلهم.

= ابن حجر: "ثقة رمي بالإرجاء من السادسة قتل صبرا سنة اثنتين وثلاثين ومائة".

تقريب التهذيب 1/281؛ وتهذيب التهذيب 3/441

1 هو شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان قال عنه ابن حجر: "قال كان اسمه مروان مولى بني فزارة ثقة حافظ رمي بالإرجاء من التاسعة مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين".

حديثه في الكتب الستة، انظر تقريب التهذيب 1/345.

2 هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم أبو يحيى الكوفي قال عنه ابن حجر: "صدوق يخطئ ورمي بالإرجاء من التاسعة مات سنة اثنتين ومائتين".

تقريب التهذيب 1/469؛ وتهذيب التهذيب 6/120.

3 هو عثمان بن غياث الراسبي أو الزهراني البصري قال عنه ابن حجر: "ثقة رمي بالإرجاء من السادسة".

تقريب التهذيب 2/13؛ وتهذيب التهذيب 7/146.

4 هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي بفتح الجيم والميم المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى. قال عنه ابن حجر: "ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء من الخامسة مات سنة ثماني عشرة ومائة وقيل قبلها".

تقريب التهذيب 2/78؛ وتهذيب التهذيب 8/102.

ص: 112

وإبراهيم بن طهمان الخراساني1، أحد الأئمة، حديثه عندهم، وقيل رجع عن الإرجاء.

ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير 2، أثبت أصحاب الأعمش حديثه عندهم، وورقاء بن عمرو الكوفي اليشكري 3 حديثه عندهم.

ويحيى بن صالح الوحاظي 4 حديث عند "خ، م، ت، د، ق"، وعبد العزيز بن أبي روّاد 5 خرّج له الأربعة واستشهد به البخاري.

1 هو إبراهيم بن طهمان الخراساني أبو سعيد، سكن نيسابور ثم مكة. قال عنه ابن حجر:"ثقة يغرب، تكلم في الإرجاء ويقال رجع عنه من السابعة مات سنة ثمان وستين ومائة".

تقريب التهذيب 1/36؛ وتهذيب التهذيب 1/129.

2 هو محمد بن خازم أبو معاوية الضرير الكوفي عمي وهو صغير، قال عنه ابن حجر:"ثقة أحفظ الناس بحديث الأعمش قد يهم في حديث غيره من كبار التاسعة مات سنة خمس وتسعين ومائة وله اثنتن وثمانون سنة وقد رمي بالإرجاء".

تقريب التهذيب 157، وتهذيب التهذيب 11/137.

3 هو ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن قال عنه ابن حجر: "صدوق في حديثه عن منصور لين من السابعة".

تقريب التهذيب 2/330، وتهذيب التهذيب 11/113.

4 هو يحيى بن صالح الوحاظي بضم الواو وتخفيف المهملة ثم المعجمة الحصي قال عنه ابن حجر: "صدوق من أهل الرأي من صغار التاسعة مات سنة اثنتين وعشرين ومات وقد جاوز التسعين".

تقريب التهذيب 2/349، وتهذيب التهذيب 11/229.

5 هو عبد العزيز بن أبي روّاد بفتح الراء وتشديد الواو، قال عنه ابن حجر:"صدوق عابد وربما وهم ورمي بالإرجاء من السابعة مات سنة تسع وخمسين ومائة".

تقريب التهذيب 1/509؛ وتهذيب التهذيب 6/338.

ص: 113

فهؤلاء ممن ذكرهم ابن حجر في مقدمته لـ "شرح البخاري" 1 هذا وقد قيل: إن أبا حنيفة رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان. قال ابن أبي العز الحنفي:

"والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنفية. وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث "أي الإسلام أفضل

" 2 قال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل، قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيف.

قال: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" 3.

وبالجملة فهذه القصة على اعتبار صحتها، تشعر بأنه قد رجع، واتبع ما جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به رحمه الله تعالى، فكيف لا وهو القائل:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"4. وإن لم يكن رجع عن قوله في الإيمان، فعفا الله عنا وعنه وغفر الله له.

1 هدي الساري ص459، 460؛ وإيثار الحق على الخلق ص405، 406.

2 أخرجه أحمد في المسند 4/144، وعبد الرزاق في المصنف 11/127، كلاهما من طريق أبي قدامة عن عمرو بن عتبة، ورواه الهيثمي في المجمع 1/59 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات".

3 شرح الطحاوية ص395، وانظر التمهيد لابن عبد البر 9/247.

4 حاشية ابن عابدين 1/67، ورسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 1/4.

ص: 114