الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة
تمهيد
في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر وتعريف الكبيرة والصغيرة:
اختلف العلماء في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر على قولين:
1-
ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر 1.
2-
وشذت طائفة فقالت: إن جميع الذنوب كبائر ليس فيها صغائر 2.
ونسب هذا القول إلى الخوارج القاضي عبد الجبار 3، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية 4، ونسب النووي والحافظ ابن حجر هذا القول
1 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وفتح الباري 10/409؛ والمرقاة في شرح المشكاة 1/121.
2 انظر فتح الباري 10/409؛ والمراعاة 1/121.
3 انظر شرح الأصول الخمسة ص632.
4 انظر فتح الباري 10/409.
إلى أبي إسحاق الإسفراييني. وقال أيضا: "وحكى القاضي عياض هذا المذهب عن المحققين"1.
ونسب الحافظ ابن حجر هذا القول إلى الباقلاني وأصحابه 2.
قلت: روي هذا أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه 3، ولكن قال القرطبي على ما قاله الحافظ:"ما أظنه يصح عن ابن عباس؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر"4.
قلت: لو سلمت صحته؛ فيحمل على قوله الآخر المفسر المفصل في تحديد الكبيرة 5.
وقد تفلسف إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني فقال: "كل ذنب كبيرة بالنسبة إلى حق الله تعالى، وإن كان في الذنوب تفاوت في الصغر والكبر فيما بينهما"6.
وقد نوه الحافظ ابن حجر بكلام الجويني هذا بعض التنويه 7. ولكن الحقيقة أن كلامه هذا من قبيل القياس الفلسفي، بل الحق أن من الذنوب كبائر وصغائر.
قال أبو حامد الغزالي: "إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه"8.
1 شرح مسلم للنووي 2/84؛ وفتح الباري 10/409.
2 انظر فتح الباري 10/409.
3 رواه ابن جرير في تفسير 5/40.
4 فتح الباري 10/410.
5 انظر حد الكبيرة عند ابن عباس في تفسير ابن جرير 5/4.
6 انظر الإرشاد ص328؛ وشرح الإرشاد لأبي بكر الميموني ص631، 632.
7 انظر فتح الباري 10/409، 410.
8 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وفتح الباري 10/409؛ عن كتاب البسيط للغزالي.
وقال النووي والحافظ ابن حجر: "وقد تظاهر على ذلك ـ أي على الفرق ـ دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها"1.
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: "الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف"2.
وقال في المدارج: "الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن وإجماع السلف"3.
أما القرآن فقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} "سورة النساء: الآية31".
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} "سورة النجم: الآية32".
أما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرّات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"4.
ثم اختلف القائلون بانقسام الذنوب في حد الكبيرة والصغيرة على ضربين:
الأول: من حصر الكبيرة في عدد معين ثم اختلفوا فقيل: هي
1 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وانظر فتح الباري 10/409؛ والمرقاة 1/121.
2 الجواب الكافي ص186.
3 مدارج السالكين 1/342.
4 أخرجه مسلم كتاب الطهارة باب الصلوات الخمس 1/209 ح"233"، من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
ثلاث 1 وقيل: هي أربع 2 وقيل: هي سبع 3 وقيل: هي تسع 4 وقيل: هي إحدى عشرة 5 وقيل: هي سبع عشرة 6 وقيل: سبعون 7 وقيل: سبعمائة.
ولا يخفى أن حصر الكبائر بعدد معين لا وجه له ولا دليل عليه. وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الذنوب بأنها من الكبائر، فقد قال عليه السلام:"اجتنبوا السبع الموبقات "8.
وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور"9.
وقال: "من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"10.
1 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن مسعود 5/41.
2 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن مسعود 5/41.
3 روى ذلك ابن جرير عن علي رضي الله عنه 5/37.
4 روى ذلك ابن جرير عن عمر رضي الله عنه 5/39.
5 الجواب الكافي ص188.
6 قال أبو طالب المكي: "أربع في القلب وأربع في اللسان وثلاث في البطن واثنتان في الفرج واثنتان في اليدين وواحدة في الرجلين وواحدة في جميع البدن". انظر الجواب الكافي ص188.
7 رواه ابن جرير عن ابن مسعود 5/41. وانظر الجامع لأحكام القرآن.
8 أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 5/393 ح"776" من طريق أبي الغيث عن أبي هريرة.
9 أخرجه البخاري كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر 10/403 ح"5976"، من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه.
10 أخرجه البخاري كتاب الأدب باب لا يسب الرجل والديه 10/403 ح"5973"، ومسلم كتاب الإيمان باب بيان الكبائر 1/92 ح"90".
كلاهما من طريق حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو.
الضرب الثاني: من عرّف الكبيرة بضابط دون ذكر عدد معين، ثم اختلفوا فقيل: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة 1.
وقيل: الكبائر ما كان فيه من المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله 2.
وقيل: كل معصية يقدِم عليها المرء من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والتجرؤ عليها اعتيادا 3 وقيل: كل ذنب عظم عِظَما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة 4.
وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر 5.
والراجح: هو أن كل ذنب توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب فهو كبيرة وهذا أمثل الأقوال قاله ابن أبي العز 6.
ومن أجمع ما قيل في بيانه؛ ما قاله المباركفوري: "والراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب في الآخرة أو ختم بالغضب واللعنة أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه أو وصف فاعله بالفسق فهو كبيرة"7.
1 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن عباس 5/41.
2 قاله سفيان الثوري. انظر مدارج السالكين 1/349.
3 قاله أبو حامد الغزالي. انظر شرح مسلم للنووي 2/85.
4 قاله ابن الصلاح. انظر شرح صحيح مسلم للنووي 2/85.
5 شرح العقيدة الطحاوية ص414، د دار البيان.
6 شرح العقيدة الطحاوية ص414.
7 مرقاة المفاتيح 1/12.
قال شيخ الإسلام: " إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السلف بخلاف تلك الضوابط فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين.
الثانى: أن الله قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} "سورة النساء:31".
فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضى ذلك فإنه خارج عن هذا الوعد
…
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب فهو حد يتلقى من خطاب الشارع وما سوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر
…
1.
وبما ذكر من هذه الوجوه يتبين رجحان هذا القول، وإنه أولى من سائر تلك الضوابط.
وأما الصغيرة فهي خلاف الكبيرة؛ فكل ذنب لم يقترن بوعيد أو حد أو لعن أولم يشدد النكير عليه ولم يوصف فاعله بالفسق فهو صغيرة 2.
1 مجموع الفتاوى 11/654-655.
2 انظر الجواب الكافي ص188.
حكم مرتكب الكبيرة:
نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج من الدين بسبب ارتكابه للكبيرة، وإنما ينقص إيمانه فلا يذهب عنه الإيمان بالكلية، بل يبقى معه مطلق الإيمان، وارتكاب الكبيرة ليس سببا للخلود في النار، إلا الشرك بالله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها ما لم تكن الكبيرة شركا بالله"1.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} "سورة البقرة: الآية178".
فسمى المقتول أخا للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} .
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} "سورة الحجرات: الآية9".
فالإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب والكبائر التي دون الشرك2.
1 جامع البيان 5/126.
2 انظر تفسير الكلام المنان 7/134، 135.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه"1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} "سورة هود: الآية18"2.
وأدلة الكتاب والسنة جميعها متضافرة على تقرير ذلك، ولقد بوّب البخاري باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنك امرؤ فيك جاهلية "3.
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/64 ح"11". ومسلم كتاب الحدود باب الحدود كفارا لأهلها 3/1333 ح"1709". كلاهما من طريق أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله عن عبادة بن الصامت.
2 أخرجه البخاري كتاب المظالم باب قول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 5/96 ح"2441"، ومسلم كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل 4/2120 ح"2768"، كلاهما من طريق صفوان بن محرز عن ابن عمر.
3 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية 1/20، ومسلم في الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك، 3/1282، رقم الحديث: 1661، من طريق المعرور عن أبي ذر.
وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".
وهذا هو قول أهل السنة والجماعة جميعهم، قال الصابوني قي تقريره لمذهبهم:"ويعتقد أهل السنة والجماعة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانما غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم اصطحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار"1.
وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة فمرتكب الكبيرة عنده لا يخرج من الدين ولا يذهب الإيمان عنه بالكلية، هذا بالنسبة للتسمية الدنيوية وأما في الآخرة فأمره مفوض إلى الله إن شاء غفر له وعفا عنه برحمته وفضله، وإن شاء عذبه بعدله وحكمته. دل على ذلك قول الإمام أبي حنيفة:"ولا نكفر أحدا بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمنا حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمنا فاسقا غير كافر".
إلى أن قال: "وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب منها صاحبها حتى مات مؤمنا فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بالنار وإن شاء عفا عنه"2.
1 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص103، 104، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.
2 الفقه الأكبر ص304.
وقال في الرد على المخالفين في ذلك: "ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول: إنه لا يدخل النار، ولا نقول: إنه مخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا، ولا نقول: إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة، ولكن نقول: من عمل حسنة بجميع شرائطها، خالية من العيوب المفسدة والمعاني المبطلة، ولم يبطلها بالكفر والردة حتى خرج من الدنيا مؤمنا فإن الله تعالى لا يضيعها بل يقبلها منه ويثيبه عليها"1.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر الله عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} "سورة النساء: الآية48".
وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم برحمته وشفاعة الشافعين من أهل الطاعة ثم يبعثهم إلى جنته" 2. وقال الطحاوي في الرد على المخالفين في ذلك: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله"3. وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة هو الحق لدلالة النصوص الشرعية عليه فهي متضافرة على تقريره وتأصيله.
1 الفقه الأكبر ص304.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص45.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 40، 41.
هذا آخر الحديث في حكم مرتكب الكبيرة. وقبل أن أختم الكلام عن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في مسائل الإيمان أود أن أبيّن نوع الخلاف بينه وبين السلف هل هو حقيقي؟ أم لفظي؟.
فإلى الأول ذهب الألوسي وعبيد الله المباركفوري والألباني، قال الألوسي:"والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم قلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير. وما عليّ إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه للأدلة الكثيرة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"1.
وقال المباركفوري: "وقد ظهر من هذا أن الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي، كما توهم بعض الحنفية"2.
وقال الألباني: "وليس الخلاف بين المذهبين اختلافا صوريا كما ذهب إليه الشارح بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان وأنه في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحا فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان؛ لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته ونقصه بالمعصية مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك"3.
1 روح المعاني 9/176.
2 مرقاة المفاتيح 1/37.
3 متن العقيدة الطحاوية بتعليق وشرح الألباني ص42.
والقول الثاني: قال به الغزالي 1 والذهبي 2 وابن أبي العز 3. وفي ذلك يقول ابن أبي العز: "الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد" 4.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فذهب إلى أن الخلاف لفظي في بعض من المسائل المتنازع فيها، حقيقي في بعضها. وفي ذلك يقول:"إنه لم يكفر أحد، من السلف من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب"5.
ويقول: " ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء ـ كحماد بن أبى سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم ـ متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: أن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون: أيضا أن من
1 كما في روح المعاني 9/167.
2 سير أعلام النبلاء 5/33.
3 شرح العقيدة الطحاوية ص362، ط دار البيان.
4 شرح العقيدة الطحاوية ص362.
5 كتاب الإيمان ص337، ط المكتب الإسلامي.
أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة"1.
قلت: وما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن الخلاف في أكثر المسائل الخلافية بين مرجئة الفقهاء وبين بقية أئمة السنة يرجع إلى نزاع لفظي معناه: أن هناك بعض الجوانب يرجع الخلاف فيها إلى نزاع حقيقي، وتفصيل ذلك أن بين مرجئة الفقهاء، ومنهم الإمام أبو حنيفة، وبين بقية أئمة السنة قدرا مشتركا وقدرا مفترقا. فأما القدر المشترك فهو:
"أ" أن الإيمان مركب وليس بسيطا، كما عليه غلاة المرجئة من الكرامية والماتريدية.
"ب" أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا ينفى عنه مسمى الإيمان ولا يخلد في النار بل هو مؤمن فاسق.
"ج" أن الإقرار يزول وقت الإكراه، دون التصديق 2.
"د" أن الاستثناء في الإيمان لا يجوز لأجل الشك.
وأما القدر المفترق فيه:
"أ" أن الإيمان عند أبي حنيفة التصديق بالجنان والإقرار باللسان فقط، وأما عند بقية الأئمة فهو هذان الأمران والعمل بالأركان.
"ب" أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان عند أبي حنيفة داخلة فيه عند بقية الأئمة.
"ج" أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أبي حنيفة ويزيد وينقص عند بقية أئمة السنة.
1 مجموع الفتاوى 7/297.
2 انظر تفسير النسفي 2/228؛ وتفسير أبي السعود 5/143.
"د" لا يجوز الاستثناء في الإيمان عند أبي حنيفة مطلقا، ويجوز في حال دون حال كما تقدم عند أئمة السنة.
ويظهر لي مما تقدم أن القول بأن الخلاف حقيقي أرجح لما ترتب عليه من وجوه الافتراق المذكورة. وأما قول شيخ الإسلام: " ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي"1.
فليس مقصوده النزاعَ اللفظي الذي لا يترتب عليه خلاف في المعنى، فيكون من قبيل اختلاف التنوع، بل مقصوده أنه نزاع يتعلق بالأسماء وهي من الألفاظ، يدل عليه قوله:"بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب"2.
1 مجموع الفتاوى 7/297.
2 كتاب الإيمان ص337، ط المكتب الإسلامي.