المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله - أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين

-

- ‌الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الأول: حياته الشخصية

- ‌المبحث الثاني: حياته العلمية

- ‌المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين

-

- ‌الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين

- ‌المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام

- ‌المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية

-

- ‌الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد

-

- ‌الفصل الأول: توحيد الربوبية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه

- ‌المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية

- ‌المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية

-

- ‌الفصل الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف

- ‌المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه

- ‌المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة

- ‌المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

-

- ‌الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها

- ‌المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها

-

- ‌الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل

- ‌الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان

- ‌الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان

- ‌الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة

- ‌الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين

- ‌ تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: النبوات

- ‌المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول

- ‌المبحث الثاني: آيات الأنبياء

- ‌المبحث الثالث: عصمة الأنبياء

- ‌المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-

- ‌الفصل الثاني: اليوم الآخر

- ‌المبحث الأول: أشراط الساعة

- ‌المبحث الثاني: فتنة القبر

- ‌المبحث الثالث: البعث

- ‌المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر

- ‌الفصل الثالث: القدر

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة

- ‌المبحث الثاني: مراتب القدر

- ‌المبحث الثالث: أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها

- ‌الفصل الرابع: الصحابة

- ‌المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم

- ‌المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

- ‌المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم

- ‌الفصل الخامس: الإمامة

- ‌المبحث الأول: الإمامة في قريش

- ‌المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر

-

- ‌الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه

-

- ‌الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية

- ‌المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج

- ‌المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين

- ‌الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

‌المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله

التوسل إلى الشيء في عرف أهل اللسان: هو التقرب إليه، واستعمال السبب الموصل إليه، وهو الوسيلة.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".

قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "الوسيلة هي الفعيلة من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه

وقوله: وابتغوا إليه الوسيلة يقول: واطلبوا القرب إليه بالعمل بما يرضيه" 1.

وقال الجوهري: "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل

"2.

1 انظر جامع البيان 6/226، ط الحلبي.

2 الصحاح 5/1841.

ص: 267

أما التوسل في الشرع فهو خاص بالتقرب إلى الله تعالى.

ويقسم العلماء التوسل إلى الله إلى قسمين:

أولا ـ توسل مشروع.

ثانيا ـ توسل ممنوع.

فالتوسل المشروع ما قام عليه دليل من الشرع وهو ثلاثة أنواع:

"أ" التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا:

وصفته أن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي.

ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".

ومن السنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" 1.

1 أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة باب الدعاء 2/167، 168 ح1495.

بنحوه والنسائي: كتاب السهو باب الدعاء بعد الذكر 3/52 ح1300.

وابن حبان كما في موارد الظمآن ص592 ح2382، والحاكم في المستدرك 1/503، 504، جميعهم من طرق حفص عن أنس وابن ماجه: كتاب الدعاء باب اسم الله الأعظم 2/1268 ح3858 من طريق أنس بن سيرين عن أنس بن مالك. =

ص: 268

ويوجد في كلام أبي حنيفة ذكر هذا النوع من التوسل كما في قوله: "ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180"1.

أما النوعان الآخران للتوسل المشروع فلم أقف له على قول فيهما.

"ب" التوسل بالعمل الصالح:

وصفته كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي.

ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".

وقوله جلّ وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} "سورة الإسراء: الآية57".

وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "سورة آل عمران:16".

ومن السنة: قصة أصحاب الغار الثابتة في الصحيحين فقد توسلوا بأعمالهم الصالحة فتوسل أحدهم ببره لوالديه، والآخر

= قال الحاكم عن هذا الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.

1 الدر المختار مع حاشية رد المحتار 6/396، 397.

ص: 269

بعفته عن الفاحشة، والثالث بإحسانه إلى أجير كان عنده 1.

"ج" التوسل بدعاء الصالحين:

ودليل مشروعيته ما ورد في صحيح مسلم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: "قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، فقالت: فادع الله لنا بخير. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به، آمين، ولك بمثل" 2.

وقد كان الصحابة يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومنه قول الأعرابي حين أصابت سَنَة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا

" 3.

1 أخرجه البخاري: كتاب البيوع باب إذا اشترى أشياء لغيره بغير إذنه فرضي 4/408 ح2215.

ومسلم: كتاب الذكر والدعاء باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال 4/2099 ح2743.

كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.

وأحمد في المسند 2/116 من طريق سالم بن عبد الله عن ابن عمر.

2 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب 4/2094 ح2733.

وابن ماجه: كتاب المناسك باب فضل دعاء الحاج 2/967 ح2895 كلاهما من طريق أبي الزبير عن صفوان بن عبد الله بن صفوان.

3 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة 2/507 ح1014=

ص: 270

فالصحابة توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم بعد وفاته توسلوا بدعاء عمه العباس، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال فيُسقَون"1.

فالصحابة عدلوا عن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء العباس، فدل على أن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع بموته، فلو كان التوسل بالرسول بعد موته جائزا لما عدل الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس، وهذا من الوضوح بحيث لا يخفى على ذي لب.

أما التوسل الممنوع:

فهو ما لا دليل عليه من كتاب أو سنة، وهو ثلاثة أنواع:

1-

التوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهو نوعان:

"أ" أن يدعو المتوسَّل به:

ذلك بأن يدعوه، ويستغيث به، ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله ولو يجعله واسطة فيما يطلبه من الله. وهذا النوع من التوسل هو من الشرك الأكبر لأنه دعاء لغير الله، والتجاء إليه في المهمات وهو من صرف العبادة

= ومسلم: كتاب الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء 2/612 ح897 كلاهما من طريق شريك عن أنس بن مالك.

1 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا 2/494 ح1010.

وابن سعد في الطبقات الكبرى 4/28، 29.

كلاهما من طريق ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك.

ص: 271

لغير الله، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} "سورة المؤمنون: الآية117".

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} "سورة الأحقاف: الآية 5".

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء يجتلبون المنافع ويجتنبون المضار"1.

فلم يأمرنا الله أن نستغيث بالصالحين من عباده أو ندعو أنبياءه حتى تستجاب لنا المسألة، بل قال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "سورة غافر: الآية60".

فأمر بدعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدنا بالإجابة، وتوعد من استكبر عنها بالعذاب والإهانة 2.

"ب" التوسل بالذات في دعاء الله:

هو أن يجعل ذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره وسيلة في دعاء الله كأن يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم".

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء

1 مجموع الفتاوى 1/123-124.

2 انظر تفسير كلام المنان 6/540 بتصرف.

ص: 272

كثير من الناس. لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى

وحديث الأعمى لا جحة لهم فيه؛ فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم، لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم،

وهذا التوسل بالأنبياء ـ بمعنى السؤال بهم ـ هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز، وليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك فضلا عن أن يجعل هذا من مسائل السبب؛ فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوّز التوسل بمعنى الإقسام به أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك" 1.

وقال: "قد نُقل في منسك المروزي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قد يخرج

على إحدى روايتين في جواز القسم به ومعظم العلماء على النهي في الأمرين.." 2.

قلت: اتفق العلماء على أن اليمين بالحلف بمخلوق لا تنعقد إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عند الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه في ذلك روايتين في انعقاد اليمين به 3، والذي عليه الجمهور 4 ـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى ـ أنه لا تنعقد اليمين به عليه الصلاة والسلام

1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص114-117.

2 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص275.

3 انظر المغني 9/513، 514؛ والكافي 4/379؛ والشرح الكبير 6/78؛ وفتح الباري 11/534؛ وطرح التثريب 7/146.

4 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص273.

ص: 273

كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح. وفي هذا يقول ابن قدامة 1:

لأنه حلف بغير الله فلم يوجب كفارة كسائر الأنبياء، ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه، لعدم الشبه وانتفاء المماثلة" 2.

2-

التوسل إلى الله تعالى بحق فلان أو جاهه ونحو هذا: منع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا التوسل، وصفته أن يقول المسلم في دعائه:"اللهم إني أسألك بحق فلان عليك أو بجاهه عندك أن تغفر لي".

قال أبو حنيفة 3: "يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام".

وقال بشير بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك 4،

1 هو عبد الله بن أحمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي.

قال عنه الذهبي: "الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام" مات سنة 626هـ.

سير أعلام النبلاء 22/165-173؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 5/88-92؛ وذيل طبقات الحنابلة 2/133-1498.

2 المغني 9/514.

3 العقيدة الطحاوية ص234؛ وإتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص198.

4 كره الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يقول الرجل في دعائه"اللهم إني =

ص: 274

أو بحق خلقك"1.

وقال أبو يوسف: "وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام"2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:

أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذي يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى

بخلاف المخلوق فإن إقسامه

= أسألك بمعقد العز من عرشك".

لعدم وجود النص في الإذن به، وأما أبو يوسف فقد جوز لوقوفه على نص من السنة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه:"اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدِّك الأعلى وكلماتك التامة".

وهذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير كما في البناية 9/382، ونصب الراية 4/272، 273.

وفي إسناده ثلاثة أمور قادحة:

1-

عدم سماع داود بن أبي عاصم من ابن مسعود.

2-

عبد الملك بن جريج مدلس ويرسل.

3-

عمر بن هارون متهم بالكذب.

من أجل هذا قال ابن الجوزي كما في البناية 9/382 "هذا حديث موضوع بلا شك وإسناده محبط كما ترى".

انظر تهذيب التهذيب 3/189، 6/405، 7/501؛ وتقريب التهذيب 1/520.

1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر شرح الفقه الأكبر ص198.

2 إتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص234.

ص: 275

بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"1.

وأما الثاني: وهو السؤال المعظَّم كالسؤال بحق الأنبياء، فهذا فيه نزاع وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز، ومن الناس من يجوّز ذلك" 2.

قلت: من هؤلاء: العز بن عبد السلام حيث قال: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: "قل: اللهم إني أقسم عليك بمحمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة".

وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيها على درجته ومرتبته" 3.

قلت: لفظ الحديث هو: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ" 4.

1 تقدم تخريجه ص259.

2 التوسل والوسيلة ص83، 99.

3 فتاوى العز بن عبد السلام ص126.

4 أخرجه أحمد في المسند 4/138.

والترمذي: كتاب الدعوات باب 119، 5/569 ح3578، وابن ماجه كتاب إمامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/441 ح1384 والحاكم في المستدرك 1/313. جميعهم من طريق عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف.

ص: 276

وليس فيه "إني أقسم عليك بمحمد"، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في دواوين السنة النبوية.

وهذا الحديث حكم عليه أئمة هذا الشأن بالصحة كالطبراني 1، والبيهقي 2، وشيخ الإسلام 3، والحاكم4، والذهبي 5، والسيوطي 6، والمناوي 7، والألباني 8.

وليس في هذا الحديث متمسّك لمن يرى جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه؛ فإن الحديث صريح في أن الغرض من مجيء هذا الرجل، وهو ضرير البصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس التوسل بذاته أو جاهه، ولو أراد غير ذلك لجلس في بيته ودعا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم:"ادع الله أن يعافيني".

ورد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ".

فتبين مما سبق أن الحديث ليس فيه ما يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته إذ قوله: "بنبيك" على تقدير المضاف أي بدعاء نبيك أو بشفاعته 9.

1 المعجم الصغير 1/184.

2 دلائل النبوة 6/167؛ وانظر التوسل والوسيلة ص187.

3 التوسل والوسيلة ص187.

4 المستدرك 1/313.

5 تلخيص المستدرك 1/313.

6 الجامع الصغير 1/227..

7 فيض الباري 2/124، 125.

8 التوسل أنواعه وأحكامه ص70.

9 التوسل والوسيلة ص259 ط/ السلفية.

ص: 277

3-

الإقسام على الله تعالى بالمتوسَّل به: وهذا التوسل منعه الإمام أبو حنيفة 1 رحمه الله تعالى، وصفته أن يقول المسلم في دعائه:"اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي".

فالقسم والحلف بالله من تعظيمه، وتعظيمه عبادة، وإنما يكون الحلف بالله من تعظيمه مع الصدق وحفظ الإيمان عما يتضمن الاستهانة بالله. وقد تقدم قول الإمام أبي حنيفة:"لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص"2.

ومن صرف هذه العبادة لغير الله فقد أشرك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"3.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت"4.

1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر روح المعاني 6/126.

2 بدائع الصنائع 3/8.

3 أخرجه أحمد في المسند 2/69، 86، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/570 ح3251.

والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1535.

والبيهقي في السنن 10/29.

والحاكم في المستدرك 1/18.

جميعهم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ولفظه عند الترمذي والبيهقي: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". ولفظه عند الحاكم: "من حلف بغير الله فقد كفر".

قال الترمذي على إثره: "هذا حديث حسن".

وقال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد".

وأقره الذهبي في التلخيص.

4 أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذر باب لا تحلفوا بآبائكم 11/530 ح6646، ومسلم: كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله 3/1267 ح1246، والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1534 جميعهم من طريق نافع عن ابن عمر.

ص: 278

فإذا كان الحلف بمخلوق شركا، فكيف بالحلف بالمخلوق على الخالق؟ فالمقصود أن الدعاء عبادة كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 1.

فلا يتوسل إلى الله بشيء إلا ما جعله الله وسيلة فيه كالتوسل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وسائر أنواع التوسل المشروع؛ فالعبادات مبناها على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ووفق شرعه والإخلاص بالنية والقصد، لا على الهوى والابتداع. فالواجب على المسلم أن يتثبت في هذا فلا يعبد الله إلا بما شرع وأمر به وأذن فيه.

وأن يحرص كل الحرص في أن يميز السنة والبدعة، والتوحيد من الشرك، والحق من الباطل، حتى يخلص وينجو من الوقوع فيما ينقض التوحيد.

هذا هو آخر الحديث عن توحيد الألوهية وبه نهاية الفصل الثاني، ويليه الفصل الثالث وهو في توحيد الأسماء والصفات.

1 أخرجه أحمد في المسند 4/267، والبخاري في الأدب المفرد ص249، وأبو داود كتاب الصلاة باب الدعاء 2/161 ح1479، والترمذي: كتاب الدعاء باب ما جاء في فضل الدعاء 5/456 ح3372، وابن ماجه: كتاب الدعاء باب فضل الدعاء 2/1258 ح3828، والحاكم في المستدرك 1/940.

جميعهم من طريق يسيع الكندي الحضرمي عن النعمان بن بشير، قال الترمذي على أثره:"هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

ص: 279