الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه
ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص 1، والإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان كما تقدم.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "والإيمان لا يزيد ولا ينقص"2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى"3.
واستدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على مذهبه بما يأتي:
1 انظر مقالات الإسلاميين ص139؛ وشرح المقاصد 5/211؛ وشرح المواقف 8/397؛ والفرق بين الفرق ص123 تحقيق الكوثري؛ والملل والنحل للشهرستاني 1/141؛ والملل والنحل للبغدادي ص140،والتبصير في الدين ص60، والتمهيد للنسفي ص102. وبحر الكلام ص41؛ والمسامرة بشرح المسايرة س317؛ والنبراس ص402؛ وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص99.
2 شرح كتاب الوصية ص3.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 43، 44.
أولا: لا يتصور نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:"الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا"1.
ثانيا: "أن الناس لا يختلفون في التصديق، ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم، ودين أهل السماء وين الرسل واحد؛ يقول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} "سورة الشورى: الآية13"2.
هذا وقد جاء في الفقه الأكبر قول الإمام أبي حنيفة: "وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمَن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، ومتفاضلون في الأعمال"3.
وهذا النص فيه إشكال؛ وهو أنه مخالف للمتقدم من قول أبي حنيفة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص مع تفسير الإمام للإيمان بالتصديق والإقرار، ولما ثبت عن أبي حنيفة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وقد تقدم.
وهذا صريح في أن الإيمان وهو التصديق عنده لا تفاضل فيه بين
1 كتاب الوصية ص3.
2 رسالة أبي حنيفة لعثمان البتي ص35.
3 الفقه الأكبر ص304.
المؤمنين، وإنما التفاضل بينهم في الأعمال من الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى. وهذا يقتضي أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وفي هذا النص من الفقه الأكبر صرح بأن الإيمان يزيد وينقص، من جهة اليقين والتصديق. فيظهر والله أعلم أن كلمة "لا" في الجملة الأولى من خطأ النسّاخ ومحلّها الجملة الثانية لتكون العبارة هكذا:"وإيمان أهل السماء والأرض يزيد وينقص من جهة المؤمن به ولا يزيد ولا ينقص من جهة اليقين والتصديق".
لتتفق مع ما تقدم من كلام أبي حنيفة وما نقله الطحاوي.
ولكن شرّاح 1 الفقه الأكبر لم يروا هذا النص مشكلا؛ فخرجوه على الفرق بين اليقين وأصل التصديق فأصل التصديق لا يتفاوت، وأما اليقين فإنه مما يجري فيه التفاضل. وهذا عندي لا يرفع الإشكال؛ فإن اليقين 2 هو التصديق الجازم الذي تستقر معه النفس فهو مرتبة من مراتب التصديق.
هذا ما استدل به الإمام أبو حنيفة، أما أصحابه فاستدلوا بما هو آت:
أولا: أن الأعمال تشارك الإيمان في اسم الطاعة، والعبادة دون اسم الإيمان. فبزيادة الأعمال تزداد الطاعة، والعبادة ولا أثر لها في زيادة الإيمان 3.
ثانيا: "أن التصديق شيء بسيط لا يتجزأ ولا ينقسم، فلا يحتمل الزيادة والنقصان، لأنه لو اختل لتبدَّل بالتكذيب، وصار باطلا زائلا
1 انظر شرح الفقه الأكبر لأبي المنتهى المغنيساوي ص33؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص126، 127.
2 انظر كتاب التعريفات ص259؛ والمفردات ص552؛ والمعجم الفلسفي ص216؛ والمعجم الوسيط ص1066.
3 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
بالكلية، ولم يبق منه شيء أصلا، ولو لم يختلَّ بقي كاملا، فالقول بزيادته ونقصانه باطل" 1.
ثالثا: أنه يلزم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه بسبب زيادة الأعمال ونقصانها ألا يوجد أحد استكمل الإيمان حتى الأنبياء والمرسلون لأنه لا حدَّ للأعمال الصالحة، فكل من يزداد من الحسنات إلى ما لا نهاية يزداد إيمانه إلى ما لا نهاية فمن كانت طاعته أكبر يكون إيمانه أكبر، ومع ذلك لم يستكمل الإيمان لأنه لو زاد طاعة أخرى زاد إيمانه أيضا" 2.
رابعا: أن الزيادة لا تتصور إلا على شيء كامل وشيء له نهاية، أما الإيمان فهو لم يزل غير كامل لأنه في صدد الزيادة، والزيادة على ما هو لم يكمل بعد ـ وهو في حد النقصان ـ محال كما أن الزيادة على ما لا نهاية له محال أيضا 3.
خامسا: "إن زيادة التصديق ونقصانه يجعلانه في مرتبة الشك والظن؛ وهذا غير مفيد في مقام الاعتقاد"4.
سادسا: "استدل أبو الليث 5 السمرقندي بحديث أبي هريرة 6
1 تبصرة الأدلة ق-399/أ، وشرح العقائد النسفية ص124.
2 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
3 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
4 روح المعاني 9/165.
5 هو نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي قال عنه الذهبي: "الإمام الفقيه المحدث الزاهد
…
صاحب كتاب تنبيه الغافلين وله كتاب الفتاوى يروي عن محمد بن الفضل البخاري وجماعة وتروج عليه الأحاديث الموضوعة" مات سنة خمسين وسبعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 13/322؛ والفوائد البهية 221.
6 بحر العلوم ق-99/أ.
رضي الله عنه مرفوعا ولفظه: "جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان كمل في القلب زيادته ونقصانه كفر" قلت وفي معنى هذا الحديث تروى أحاديث أخرى كحديث ابن عباس وابن عمر مرفوعا: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص".
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق، ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن".
الجواب عن أدلة أبي حنيفة أصحابه:
"أ" الجواب عن أدلة أبي حنيفة:
أولا: قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: " الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر
…
".
الجواب عنه:
أن العقل يتصور اجتماع الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} "سورة يوسف: الآية106".
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "القلوب أربعة: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفَّح، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيما غلب عليه غلبه"1.
1 السنة لعبد الله بن أحمد ص102.
ويدل على قول حذيفة رضي الله عنه قول الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} "سورة آل عمران: الآية167".
فقد كان فيهم نفاق مغلوب؛ فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلى الكفر أقرب1.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب النفاق وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية كما قال الصحابة ابن عباس وغيره كفر دون كفر وهذا قول عامة السلف وهو الذي نص عليه أحمد وغيره"2.
ويقال أيضا: زيادة الإيمان ونقصانه قد تكون في صفة الإيمان كتفاوت التصديق قوة وضعفا وقد يكونان في الأعمال المستحبة فلا يلزم إذن من زيادة الإيمان ونقصانه وجود كفر ولا عدمه، فالتفاضل في اليقين وفي الأعمال المستحبة لا يوجب وجود كفر عند المفضول، وهذا ظاهر، نعم الإيمان والكفر الناقل عن الملة لا يجتمعان.
ثانيا: قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: "إن الناس لا يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم
…
".
الجواب عنه:
لا نسلم أن الناس لا يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، إذ إنهم كما يتفاوتون في الأعمال كذلك يتفاوتون في التصديق ضعفا وقوة.
1 انظر كتاب الإيمان لابن تيمية ص298.
2 كتاب الإيمان ص300.
فلا يشك عاقل أن تصديق الأنبياء والملائكة أقوى من تصديق عامة البشر كما صرح بذلك بعض الحنيفة 1.
وأما قوله: "ودين أهل السماء ودين الرسل واحد".
فالجواب عنه: أن مسائل الدين التفصيلية والأحكام التكليفية ليست كلها مشتركة بيننا وبين الملائكة بل ليست مشتركة بين أتباع سائر الأنبياء، بل ولا بين أتباع الرسول الواحد.
وأما قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
…
} .
فالمراد منها أن حقيقة دين الرسل واحدة وأصله واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وطاعته في أمره ونهيه، وأما تفاصيل الشرائع فمعلوم أنها مختلفة كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 2 " سورة المائدة: الآية48".
"ب" الجواب عن أجوبة أصحاب أبي حنيفة:
الدليل الأول:
"إن الأعمال تشارك الإيمان في اسم الطاعة والعبادة دون اسم الإيمان
…
".
الجواب عنه:
يقال: هذا مبني على أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان
1 كالألوسي في روح المعاني 9/167؛ والقاري في شرح الفقه الأكبر ص127.
2 تفسير القرآن العظيم 6/192.
شرعا. وقد سبق القول فيه وذكر الأدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فإذا بطل هذا الأصل بطلت هذه الدعوى المبنية عليه والله أعلم.
الدليل الثاني:
"إن التصديق شيء بسيط لا يتجزأ ولا ينقسم فلا يحتمل الزيادة والنقصان
…
".
الجواب عنه:
أن يقال هذه الشبهة مركبة من مقدمتين:
الأولى: أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط.
الثانية: أن التصديق بسيط غير مركب لا ينقسم.
أما المقدمة الأولى: فقد ظهر بطلانها مما تقدم ذكره من أدلة الكتاب والسنة الصحيحة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان ومسماه.
وأما المقدمة الثانية: فباطلة لأنها مخالفة لدلالة الكتاب والسنة والآثار السلفية والمعقول الصريح.
فأما الكتاب فقد قال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} "سورة الأحزاب: الآية22".
ولا شك أن المراد من الإيمان في هذه الآية إنما هو التصديق واليقين بتحقيق وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من تحقيق النصر للمؤمنين. وهكذا قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} "سورة آل عمران: الآية173".
فأنت ترى أن المراد من الإيمان في هذه الآية ليس إلا تصديق القلب وإيقانه وإذعانه، فهاتان الآيتان تدلان على زيادة التصديق نفسه، إذ ليس هنا قطعا زيادة الأعمال.
وأما من السنة فمنها ما رواه أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت"1.
وحديث الشفاعة الكبرى المتواتر وفيه 2:
فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان
…
فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان" 3.
ولا شك أن المراد من الإيمان في هذا الحديث في القلب، لأن ما في القلب ليس إلا التصديق لا غير. فهذا الحديث صريح في أن التصديق القلبي قد ينقص إلى حد يصل إلى مثقال ذرة أو خردلة، وقد يصل إلى حد يكون أدنى من مثقال حبة خردل، فدل على أن التصديق نفسه يتفاوت يزيد وينقص. وأما لآثار عن سلف هذه الأمة فمنها قول
1 أخرج الإمام أحمد في المسند 1/271؛ والحاكم في المستدرك 2/321، كلاهما من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم على أثره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص والألباني في مشكاة المصابيح 3/1599.
2 انظر قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي ص303؛ ولقط اللآلئ المتناثرة للزبيدي ص75-78؛ ونظم المتناثر للكتاني ص233.
3 أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب كلام الرب عز وجل 13/473 ح"7510"، ومسلم كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182، 183 ح"326" كلاهما من طريق معبد بن هلال عن أنس بن مالك.
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها"1.
فهذا الأثر صريح في المقصود بل قال الحافظ ابن حجر:"وهذا الأثر أصرح في المقصود"2.
لأن اليقين والفقه لا يتعلقان إلا بالقلب لأنهما من أنواع العلم، بل اليقين هو التصديق الجازم 3 وهو على ثلاث مراتب:
1-
علم اليقين.
2-
وعين اليقين.
3-
وحق اليقين.
فقد دل على أن التصديق يتفاوت، هذا وقد قال أئمة السنة كسعيد بن جبير وسعيد والضحاك وقتادة رحمهم الله تعالى في قوله تعالى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} "سورة البقرة: الآية260".
قالوا: "ليزداد إيماني ويقيني"4.
ولا ريب أن المراد هنا إيمان القلب، وهو التصديق مع الانقياد لأنه بمشاهدة كيفية إحياء الطيور مع يقينه السابق ازداد إيمانه ويقينه حتى وصل إلى عين اليقين بل حق اليقين.
1 الأثر رواه أحمد في الإيمان كما قال الحافظ في الفتح 1/48 وعبد الله بن أحمد في السنة 1/368، 369، والآجري في الشريعة ص112، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/942، وقال الحافظ في الفتح 1/48، "إسناده صحيح".
2 فتح الباري 1/48.
3 انظر المفردات ص552؛ والتعريفات ص259؛ والمعجم الوسيط ص1066؛ والمعجم الفلسفي ص216.
4 انظر جامع البيان 8/50، 51، والسنة لعبد الله بن أحمد ص369.
وأما المعقول الصريح فلا يشك عاقل في أن إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، فلا تعتريهم الشبهة ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، وأما غيرهم من المؤلفة قلوبهم فليسوا كذلك 1، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكّلا منه في بعضها 2.
وبهذا سلم بعض المنصفين من الأشاعرة والماتريدية، كابن اللبان 3 والرازي والبغدادي والإيجي والجرجاني 4 والباقلاني.
قال الإيجي: "والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان من وجهين:
الأول: القوة والضعف
…
الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان، يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، والنصوص الدالة على قبوله لهما" 5.
1 انظر المنهاج شرح صحيح مسلم 1/148، 1498، وفتاوى الإمام النووي المسماة بالمسائل المنثورة ص304.
2 فتح الباري 1/46، 47.
3 هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني. قال عنه الخطيب: "المعروف بابن اللبان أحد أوعية العلم ومن أهل الدين والفضل
…
سمعنا منه وله كتب كثيرة مصنفة وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن ومن أوجز الناس عبارة في المناظرة مع تدين جميل وعبادة كثيرة وورع بيّن" مات سنة "446هـ. تاريخ بغداد 10/144. وانظر ترجمته في المنتظم "1628"، وسير أعلام النبلاء 17/653.
4 انظر أصول الدين للبغدادي ص252؛ والمواقف ص338؛ وشرح المواقف 8/331؛ وتحفة المريد ص51؛ والإيمان للقاضي أبي يعلى ص339؛ والإنصاف ص58؛ والمحصل للرازي ص239.
5 المواقف ص388.
وقال الجرجاني: "فإن التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفا"1.
الدليل الثالث: "أنه يلزم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه ألا يوجد أحد استكمل الإيمان حتى الأنبياء والمرسلون
…
".
الجواب عنه من وجوه:
1-
يقال:"إنه إذا جاز عندك في النوافل أن تصفها أنها طاعة وعبادة ولا آخر لها، فما يمنع أن تصف الإيمان بذلك وإن لم يكن له آخر، وعلى أن لها آخرا في الوصف، وإن لم يكن لها آخرا في الفعل، كما أن للفرائض آخرا في الوصف دون الفعل، لأنه لو قيل بينوا في الفرائض حدا لا زيادة معه؛ لم يمكن لأنه لا يعلم منتهى أجله فيعلم قدر ما يلزمه من الفرائض"2.
2-
أن الإيمان من الكليات 3 المشككة تتفاوت أفرادها، كما أن العلم من الكليات المشككة، وهكذا من يوصف بالإيمان والعلم، فالمؤمن والعالم أيضا من الكليات المشككة، قال الله تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} "سورة يوسف: الآية76".
فإذا كان الأمر كذلك فالأنبياء والمرسلون بعد استكمال إيمانهم بأداء الواجبات واجتناب النواهي يتفاوتون في الدرجات بسبب النوافل وهذا
1 شرح المواقف 8/331.
2 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص250.
3 الكلي: هو المنسوب إلى الكل، تقول: العلم الكلي: أي العلم الشامل لكل شيء. والكلي عند المنطقيين: هو الشامل بجميع الأفراد الداخلين في صنف معين أو هو المفهوم الذي لا يمنع تصوره من أن يشترك فيه. انظر التعريفات ص186، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/238.
لا شك فيه، ولا عيب في ذلك عليهم، ولا يؤثر على مراتهبم بعد أن استكملوا الإيمان بأداء الواجبات واجتناب المنهيات، كيف لا وهم أكمل الناس إيمانا وعلما وبعضهم فُضِّل على بعض.
3-
يقال: إن الأنبياء قد استكملوا الإيمان، وإن كان أذنب بعضهم فقد غفر الله لهم ذلك، أما من عداهم فليس مثلهم في هذا، فالطاعات لا حد لها من ناحية فعل العبد، بل العبد على الدوام في السعي إلى إكمال إيمانه حتى يدركه الموت وهو على هذا 1. وقد ورد عن السلف نحو هذا.
من ذلك ما رواه الخلال عن إسحاق بن منصور قال: "قلت: لإسحاق: هل للإيمان منتهى حتى نستطيع أن نقول: المرء مستكمل الإيمان؟ قال: لا لأن جميع الطاعة من الإيمان فلا يمكن أن نشهد باستكمال الإيمان لأحد إلا للأنبياء أو من شهد له بالجنة، لأن الأنبياء وإن كانوا قد أذنبوا فقد غير لهم ذلك الذنب قبل أن يخلقوا"2.
وروى عبد الله بن أحمد في السنة بسنده عن الوليد بن مسلم قال: "سمعت أبا عمرو ـ يعني الأوزاعي ـ ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبدا. وينكرون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكال"3.
الدليل الرابع:
"إن الزيادة لا تتصور إلا على شيء كامل وشيء له نهاية، وأما
1 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص251، بتصرف.
2 كتاب السنة للخلال ص569.
3 السنة لعبد الله بن أحمد ص82.
الإيمان فهو لم يزل غير كامل لأنه في صدد الزيادة
…
".
الجواب عنه:
يقال لا شك أن الزيادة على الشيء إنما تكون بعد كماله، ولكن ما قلنا: إنه يزاد شيء على الإيمان بل قلنا: إن الإيمان نفسه يزيد وينقص، ولم نقل: إن شيئا آخر يزاد على الإيمان، فلا ترد هذه الشبهة إطلاقا".
الدليل الخامس:
"إن زيادة التصديق ونقصانه تجعلانه في مرتبة الشك والظن
…
".
الجواب عنه:
إن التصديق له مراتب تتفاوت قوة وضعفا وكلها فوق الظن والشك، فالشك إذن ضد التصديق لا جزء منه، فإذا صار التصديق ضعيفا فلا يقال: إن صاحبه وقع في الشك والظن، ولا يقال للشاك: مصدِّق، فالشك والتصديق لا يجتمعان.
قال الألوسي الحنفي: "مراتب اليقين متفاوتة: إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها"1.
الدليل السادس:
"استدل أبو الليث السمرقندي بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا
…
قلت وفي معنى هذا الحديث تُروى 2 أحاديث أخرى كحديث ابن عباس
…
".
الجواب عنه:
حديث أبي هريرة أخرجه أبو الليث السمرقندي في تفسير بحر
1 روح المعاني 9/165.
2 انظر السواد الأعظم ص34، والنبراس ص402.
العلوم 1 والجوزقاني في الأباطيل والمناكير 1/22-23، وقال:"هذا حديث لا يرجع منه إلى الصحة، وليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال ابن كثير: "إن الإسناد من أبي الليث السمرقندي إلى أبي مطيع مجهولون، لا يعرفون في شيء من كتب التاريخ المشهورة. وأما أبو مطيع فهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو داود والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني، وغيرهم".
وأما أبو المهزوم الراوي عن أبي هريرة وقد تصحف على الكاتب، واسمه يزيد بن سفيان، فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال:"لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثا"3.
وبهذا يتبين أن ما استدل به السمرقندي لا تقوم به الحجة؛ إذ هو موضوع.
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير 4، وابن الجوزي في الموضوعات5 وقال: "هذا حديث
1 تفسير بحر العلوم له نسخة خطية بمكتبة أوغلي باشا في إستانبول بتركيا ولها نسخة مصورة في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية تحت رقم 107.
2 الأباطيل والمناكير 1/23.
3 شرح العقيدة الطحاوية 2/480. وفي طبعة دار البيان ص276.
4 1/16-17.
5 1/132.
موضوع من موضوعات الجويباري 1.
وهو أحمد بن عبد الله الهروي ويقال الجوباري، وجوبار من أعمال هراة 2 قال عنه ابن عدي:"كان يضع الحديث لابن كرّام على ما يريده، وكان ابن كرام يضعها في كتبه، ويسميه أحمد بن عبد الله الشيباني"3.
وقال عنه ابن حبان: "دجال من الدجاجلة كذاب، يروي عن ابن عيينة ووكيع وأبي ضمرة وغيرهم من ثقات أصحاب الحديث، ويضع علهم ما لم يحدثوا، وقد روى عن هؤلاء الأئمة ألوف الأحاديث ما حدثوا بشيء منها، كان يضعها عليهم لا يحل ذكره في الكتب أصلا إلا على سبيل الجرح فيه"4.
واما حديث عبد الله بن عمر فقد أخرجه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير 5، وابن الجوزي في الموضوعات 6.
وقال الجوزقاني: "هذا حديث موضوع باطل وليس له أصل"7.
1 1/132.
2 هراة: بالفتح مدينة مشهورة من أمهات مدن خراسان قال عنها ياقوت: "لم أر بخراسان عند كوني بها في سنة 607 مدينة أجل ولا أعظم ولا أفخم ولا أحسن ولا أكثر أهلا منها".
انظر معجم البلدان 5/396.
3 الكامل في ضعفاء الرجال 1/181.
4 المجروحين 1/142.
5 1/18.
6 1/131، 132.
7 الأباطيل والمناكير 1/18.
وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع من موضوعات أحمد بن عبد الله الجويباري"1.
وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ابن حبان في المجروحين 2. وابن الجوزي في الموضوعات 3 وقال: "هذا حديث موضوع وهو من موضوعات محمد بن القاسم الطالكاني".
ويقال: الطايكاني 4 بفتح الطاء وبالياء المثناة التحتية الساكنة وفتح الكاف نسبة إلى طايكان 5؛ قرية من قرى بلخ. قال عنه ابن حبان: "من أهل بلخ يروي عن العراقيين وأهل بلده، روى عنه أهل خراسان أشياء لا يحل ذكرها في الكتب فكيف الاشتغال بروايتها"6. وبهذا يتبين لنا أن الأحاديث في عدم زيادة الإيمان ونقصانه لم يصح منها شيء، وما استدل به أبو الليث السمرقندي لا تقوم به حجة إذ هو موضوع.
أما موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه فتأولها بما لا يتفق مع ظاهرها وإليك نماذج من ذلك:
"أ" أن المراد من الزيادة والنقصان في الإيمان الواردين في نصوص الكتاب والسنة أنهم آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمنون بعد
1 الموضوعات 1/132.
2 2/311.
3 1/133.
4 هكذا في المجروحين لابن حبان 2/311.
5 أوردها ياقوت الحموي في معجمه 4/12، سماها طيقان وقال عنها: قرية من قرى بلخ بخراسان.
6 المجروحين 2/311.
كل فرض جاء جديدا فيزداد إيمانهم بالتفصيل مع إيمانهم السابق في الجملة 1، وقالوا في قول الله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} "سورة المدثر: الآية31".
بأن هذا في حق الصحابة رضي الله عنهم فالقرآن كان ينزل في كل وقت فيؤمنون به ويكون تصديقهم الثاني زيادة على الأول وأما في حقنا فلا؛ لأنه انقطع الوحي" 2.
"ب" أن المراد من الزيادة الثبات على الإيمان والدوام عليه زيادة عليه في كل ساعة إذ يوجد في كل ساعة مثلما انعدم في الأولى 3.
"ج" أن المراد من نصوص الزيادة والنقصان في الإيمان ازدياد نوره وضيائه في القلوب بالأعمال الصالحة ونقص ذلك النور بالمعاصي 4.
الجواب عن تلك التأويلات:
أولا: قولهم: "إن المراد من الزيادة والنقصان في الإيمان أنهم آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض
…
".
الجواب عنه: من وجهين:
"أ" أن يقال: إنكم إذا سلمتم أن المؤمن أولا يؤمن إيمانا إجماليا ثم
1 تبصرة الأدلة ق-ب، ق-339/أ، وانظر النور اللامع ق-104/أ؛ والكفاية ص155؛ وشرح العقائد النسفية ص125؛ وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص102؛ وإتحاف السادة المتقين 2/261.
2 بحر الكلام ص42.
3 تبصرة الأدلة ق-339/أ؛ وشرح العقائد النسفية ص125.
4 تبصرة الأدلة ق-339/أ؛ وانظر شرح العقائد النسفية ص125؛ وإتحاف السادة المتقين 2/260؛ والنبراس ص404؛ والسواد الأعظم ص38؛ والبداية ص155.
إذا جاء فرض جديد فيؤمنون به فيزداد إيمانه بالتفصيل، فقد اعترفتم بزيادة الإيمان ونقصانه وهذا هو المطلوب.
"ب" أنه قد ورد النص الشرعي بزيادة الإيمان بدون إتيان شرع جديد كما في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} "سورة آل عمران: الآية173".
قال ابن أبي العز الحنفي: "وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها أن الزيادة باعتبارها زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة في قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقينا ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} "سورة آل عمران: الآية167" 1.
ثم إن المسلمين من غير الصحابة لا يعرفون أحكام الإسلام دفعة واحدة بل يعرفونها تدريجيا شيئا فشيئا، فيلزم من قولكم هذا أن إيمانهم أيضا يزيد وينقص فلا وجه للتخصيص بالصحابة.
ثانيا: قولهم: "إن المراد بالزيادة والنقصان الثبات على الإيمان والدوام عليه
…
".
الجواب عنه:
1-
أن يقال: إن الدوام والثبات على الإيمان ليسا من باب الزيادة في الإيمان في شيء، وذلك لأن الرجل إذا لم يداوم ويثبت على الإيمان فهو مرتد والعياذ بالله تعالى، فتأويل نصوص الزيادة في الإيمان بالدوام والثبات باطل بل هو تحريف محض، وحقيقة هذا التأويل تفسير زيادة الإيمان بزيادة
1 شرح العقيدة الطحاوية 2/479.
زمنه بسبب الثبات والاستمرار عليه، ومعلوم أن ما ثبت على حاله إذا طالت مدته لا يقال له قد زاد، لأنه حقيقة ثابتة لم تحصل بها زيادة. نعم لا شك أن من داوم وثبت على الإيمان يكثّر طاعاته وعباداته لله تعالى فمن هذه الناحية يزيد إيمانه.
2-
لو سلم قولكم لزم منه ألا يفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى أفراد أمته إلا باستمرار الإيمان لا بزيادة اليقين والأعمال. وبطلانه لا يخفى على الحمقى فضلا عن العقلاء.
ثالثا: قولهم: "إن المراد من نصوص الزيادة والنقصان ازدياد نوره وضيائه في القلوب
…
".
الجواب عنه:
إن حمل نصوص زيادة الإيمان ونقصانه على ازدياد نور الإيمان وضعفه حمل للنصوص على المجاز بدون تعذّر الحقيقة. ويقال كذلك" إن زيادة نور الإيمان وضعفه يلزم منهما قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه، وذلك أنه إذا لم تحدث الزيادة والنقصان في الإيمان لم تحدث القوة والضعف في نوره، فقوة نور الإيمان وضعفه لأجل قوة الإيمان نفسه وضعفه وهذا أمر واضح لا يخفى على ذي لب.
بل يمكن أن يقال: إن هذا اعتراف بزيادة الإيمان، فإن الإيمان نور يجعله الله في قلب من شاء من عباده فسواء قيل: إن الإيمان يزيد وينقص، أو نور الإيمان يزيد وينقص، فلا مشاحة بالتعبير إذا كانت الحقيقة واحدة. فتبين بهذا أن هذا التأويل نقض لأصل مذهبهم، وهو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
رابعا: قولهم: "إن المراد من الزيادة الثواب على الإيمان
…
".
الجواب عنه:
أن قول السلف يقتضي الزيادة والنقصان في الإيمان وثواب الإيمان ليس بإيمان، وهذا ظاهر لأن الثواب جزاء على عمل الطاعة، وليس هو الطاعة كما أن العقاب على المعصية ليس هو المعصية1.
وبهذا يتبين لنا ضعف استدلالاتهم وتهافت تأويلاتهم والقول الحق في هذه المسألة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه سلف الأئمة من أن الإيمان يزيد وينقص. قال الله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} "سورة آل عمران: الآية173".
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} "سورة التوبة: الآيتان 124-125".
وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} "سورة مريم: الآية76".
وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} "سورة الكهف: الآية13".
وقال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} "سورة الأحزاب: الآية22".
1 انظر كتاب مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص407.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} "سورة الفتح: الآية4".
وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} "سورة المدثر: الآية31".
وأما الأدلة من السنة: فقد عقد البخاري باب "زيادة الإيمان ونقصانه وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} .
وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" 1.
ثم ساق حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير"2.
ومن الأدلة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبٍّ منكن" قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل
1 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/103.
2 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه 1/103 ح"44" ومسلم كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182 ح"32 كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" 1.
وفي صحيح مسلم: "لقي أبو بكر حنظلة الأسدي فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"2.
ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم"3.
1 أخرجه البخاري كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم 1/405 ح"504" ومسلم كتاب الإيمان باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/87 ح"80" كلاهما من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري.
2 كتاب التوبة باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض أوقات الاشتغال بالدنيا 4/2106 ح"2750" من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي.
3 أخرجه أبو داود كتاب السنة باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه 5/60 ح4682، والترمذي كتاب الرضاع باب ما جاء في حق المرأة على زوجها 3/457 ح1162 كلاهما من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، قال الترمذي على أثره:"هذا حديث حسن صحيح".
وأما الآثار عن السلف فمنها قول عبد الله بن مسعود في دعائه: "اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها"1.
وقول عمير بن حبيب الخطمي: "الإيمان يزيد وينقص قيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه"2.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيمانا فيذكرون الله"3.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول للرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة؛ فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه"4.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصناه في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل أقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله لا على تزكية النفوس، وكلما ازداد طاعة وتقوى ازداد به إيمانا"5.
1 شرح أصول الاعتقاد 3/942، وكتاب الشريعة ص112..
2 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والشريعة للآجري ص112.
3 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والشريعة للآجري ص112.
4 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والإيمان لأبي عبيد ص72؛ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/943.
5 الإيمان ص66.
وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان"1.
والأدلة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن السلف في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة جدا. وبمناسبة كثرة الأدلة في هذه المسألة وعدم حصرها يقول العلامة الألوسي مفتي الحنفية في بغداد: "وما عليَّ إذا خالفتُ في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"2.
فظهر أن القول بأن الإيمان يزيد وينقص هو الصواب؛ لأنه موجب الشرع، بل وموجب العقل لما تقدم بيانه من أن التصديق يزيد وينقص وأن اليقين على ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وهذا أمر معلوم بالفطرة إذ ليس المخبر كالمعاين كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة
…
" 3.
1 التمهيد 9/238.
2 روح المعاني 9/167.
3 تقدم تخريجه.