الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية
أمر الله بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن التفرق والاختلاف في الدين. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} "سورة آل عمران: الآيتان 102-103".
وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم وشتتوه، وتفرقوا فيه من اليهود والنصارى، وممن هم على شاكلتهم، واقتدى بهم من أهل الفرقة والأهواء والبدع، فهم ليسوا منك ولست منهم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} "سورة الأنعام:159".
وبحمد الله لم يحصل نزاع بين الصحابة يستوجب تضليل أو تفسيق بعضهم ببعض، بل كانوا على عقيدة واحدة. قال طاش كبرى زاده 1: "إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدةٍ
1 هو أحمد بن مصطفى بن خليل أبو الخير عصام الدين طاش كبرى زاده مؤرخ تركي الأصل مستعرب ولد في بورسة سنة 901هـ ونشأ في أنقرة وتأدب وتفقه، ولي القضاء سنة 958هـ في القسطنطينية وكف بصره سنة 961هـ وتوفي سنة 968هـ، الأعلام 1/257.
واحدة لأنهم أدركوا زمان الوحي وشرف الصحبة" 1.
وربما يحصل بينهم الاختلاف في بعض مسائل الأحكام خلافا لا يوجب الفرقة والتفسيق أو التكفير، بل هو اجتهاد منهم في فهم النص، فالمصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد.
قال ابن القيم: "وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال"2.
وهذا هو حال من هم من غير الصحابة من المسلمين؛ فكانوا متفقين في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان لا تنازع بينهم إلى أن قام أهل الفتنة 3 والضلال والبغي بقتل عثمان رضي الله عنه، فتفرق المسلمون بعد ذلك. وأول فرقة فارقت جماعة المسلمين وخرجت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، هي الخوارج فتبرأت من إمام المسلمين، وكفرته ومن معه من المسلمين، ومعاوية ومن معه، فعند ذلك ظهرت الشيعة تؤيد عليا وتنصره. ثم توالى بعد ذلك ظهور البدع، فحدثت في آخر عصر الصحابة بدعتا القدرية والمرجئة، ثم في أواخر الدولة الأموية ظهرت الجهمية ثم المعتزلة.
ويتطلب الحديث عن عقيدة الإمام أبي حنيفة إلمامة موجزة بالفرق والنحل التي في عصره لنعرف مدى تأثره بها أو مخالفته لها.
1-
الخوارج
عرفنا أن الخوارج هم فئة خرجت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكفروا المسلمين بفعل كبائر الذنوب، واستحلوا
1 مفتاح السعادة 2/143 ط/دار الكتب العلمية.
2 أعلام الموقعين 1/49.
3 انظر منهاج السنة 6/231.
دماءهم وأموالهم؛ فلا يرثون ولا يوَرَّثون ولا يدفنون في مقابر المسلمين وفي الآخرة سيخلدون في النار.
ولا ريب أنهم أخطئوا في تكفير المسلمين بالذنوب؛ حيث إن الناس عندهم قسمان:
مؤمن لا ذنب له، وكافر لا حسنة له، بينما قسّم الله تعالى الأمة التي أورثها الكتاب وصنفها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات1.
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} "سورة فاطر: الآية32".
وأما موقف الإمام من بدعة الخوارج في تكفير المسلمين بارتكاب الذنوب، فقد قال في الرد على تلك البدعة:"ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه الإيمان"2.
وقال كذلك: "ولا نقول إنه يخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا"3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"4.
1 مجموع الفتاوى 7/485 بتصرف.
2 الفقه الأكبر ص304.
3 الفقه الأكبر ص304.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص40.
وقال: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون"1.
هذا هو موقف الإمام من بدعة الخوارج، ومع هذا كان يناظر رؤساء الخوارج على اختلاف طبقاتهم.
قال الإمام أبو حنيفة: "وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية 2 والصفرية3 وغيرهم"4.
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص45.
2 الإباضية: هم أتباع عبد الله بن إباض التميمي خرج في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية فأرسل إليه مروان بن محمد جيشا فقاتله وقضى عليه.
وافترقت الإباضية فيما بينها إلى أربع فرق هي الحفصية، والحارثية، واليزيدية، وأصحاب طاعة لا يراد الله بها وهم مجمعون على القول بإمامة عبد الله بن إباض والقول بأن كفار هذه الأمة يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الأمة ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار
…
انظر الفرق بين الفرق ص103؛ والملل والنحل 1/134؛ والتبصير في الدين ص34؛ واعتقادات فرق المسلمين ص57.
3 الصفريَّة وهي فرقة من فرق الخوارج اختلف في سبب تسميتها بالصُّفرية فقيل نسبة للصفرة التي تعلو وجوههم وقيل نسبة إلى عبد الله بن صفار وقيل نسبة إلى زياد بن الأصفر وقد تنسب إلى عبد الله التميمي.
وهم أقل شذوذا وغلوا من بقية فرق الخوارج إذ أنهم لم يكفروا مرتكب الكبيرة على الإطلاق كما فعل غيرهم بل ميزوا بين الذنوب التي فيها حد مقرر كالزنا والسرقة فهذه في رأيهم لا يتجاوز بمرتكبها ما سماه الله به من أنه زان أو سارق، وأما الذنوب التي ليس فيها حد مقرر كترك الصلاة والفرار من الزحف فمرتكب مثل هذه الذنوب يعتبرونه كافرا.
انظر الملل والنحل 1/137؛ والفرق بين الفرق ص91؛ والتبصير في الدين ص30؛ والأديان والفرق ض119؛ ودراسة عن الفرق ص59.
4 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
ومن تلك المناظرات ما ذكره الموفق المكي في كتابه مناقب الإمام أبي حنيفة حيث قال: "إن الخوارج لما ظهروا على الكوفة أخذوا أبا حنيفة فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال أنا تائب إلى الله من كل كفر فخلوا عنه، فلما ولّى قيل لهم: إنه تاب من الكفر، وإنما يعني به ما أنتم عليه فاسترجعوه. فقال رأسهم: يا شيخ إنما تبت من الكفر، وتعني به ما نحن عليه؟ فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعلم؟ فقال: بل بظن. فقال أبو حنيفة: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} "سورة الحجرات: الآية12".
وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر، فتب أنت أولا من الكفر. فقال: صدقت يا شيخ أنا تائب من الكفر" 1.
ولما بلغ الخوارج أن أبا حنيفة لا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب؛ أوفدوا من يناظره فقالوا له: "هاتان جنازتان على باب المسجد أما إحداهما فلرجل شرب الخمر حتى كظَّته 2 وحشرج 3 بها فمات غرقا في الخمر، والأخرى امرأة زنت حتى إذا أيقنت بالحمل قتلت نفسها فقال لهم أبو حنيفة: من أي الملل كانا؟ أمن اليهود؟ قالوا: لا، أفمن النصارى؟ قالوا: لا، قال: أفمن
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص151، 152.
2 كظته: هو شيء يعتري البطن من امتلاء الطعام يقال: كظه الطعام حتى لا يطيق على النفس.
انظر تهذيب اللغة 9/439، 440؛ والقاموس المحيط 4/57.
3 حشرج: ردد نفسه في حلقه يقال: حشرج المحتضر عند الموت وحشرجت روحه عند صدره أوشك أن يموت.
انظر الصحاح 1/306؛ والمعجم الوسيط 1/175.
المجوس؟ قالوا: لا: قال: من أي الملل كانا؟ قالوا: من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فأخبروني عن الشهادة كم هي من الإيمان؟ ثلث أم ربع أم خمس؟ قالوا: إن الإيمان لا يكون ثلثا ولا ربعا ولا خمسا، قال: فكم هي من الإيمان؟ قالوا: الإيمان كله قال: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين.
قالوا: دعنا عنك، أمن أهل الجنة هما أم من أهل النار؟ قال: أما إذا أبيتم، فإني أقول فيهما ما قال نبي الله إبراهيم في قوم كانوا أعظم جرما منهم:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة إبراهيم: الآية36".
وأقول فيهما ما قال نبي الله عيسى في قوم كانوا أعظم جرما منهما: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "سورة المائدة: الآية118".
وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} "سورة الشعراء: الآيات 111-113".
وأول فيهما ما قال نبي الله نوح عليه السلام وعليهم أجمعين وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} "سورة هود: الآية31".
قال: فألقوا السلاح وقالوا: "تبرأنا من كل دين كنا عليه، وندين الله بدينك فقد آتاك الله فضلا وحكمة وعلما"1.
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص108، 109.
2-
الشيعة
الشيعة والخوارج فرقتان متقابلتان 1 في آرائهما في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فالخوارج تكفّره وتتبرأ منه، والشيعة تنصره وتؤيده وتفضله على عثمان رضي الله عنه. بل إن منهم من يفضله على أبي بكر وعمر، وأنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنص الجليّ والقاطع للعذر، وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن ولده.
فردوا على بدعة الخوارج ببدعة أخرى لا تقل فسادا عنها ألا وهي عصمة علي بن أبي طالب، وأفضليته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه هو الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مع قولهم بفسوق أبي بكر وعمر وبكفرهما.
فمن يقول بهذه البدعة فهو كاذب مفتر، قد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وعقابه الجلد حدا على فريته وكذبه. وكما قال خليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"2.
وكان يقول: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"3.
وسأل محمد بن الحنيفة أباه 4 عليا فقال: "أي الناس خير بعد
1 منهاج السنة 6/2231.
2 النبوات ص132.
3 كتاب النبوات ص132، قال ابن تيمية:"قد تواتر هذا عن علي بن أبي طالب".
4 هو محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي قال عنه ابن حجر: "أبو القاسم ابن الحنفية المدني ثقة عالم من الثالثة مات بعد الثمانين".
تقريب التهذيب 2/192؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 9/354.
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" 1.
ولا ريب أن خير الصحابة هم أهل بدر، وخير أهل بدر هم العشرة، وخير العشرة الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنة، قال ابن عمر:"كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم"2.
وفي رواية أخرى قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم"3.
هذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله حيث قال: "وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب الفاروق ثم عثمان بن عفان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعا"4.
1 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" 7/20 ح4629؛ وأبو داود كتاب السنة باب في التفضيل 5/26 ح4629 كلاهما من طريق أبي يعلى عن محمد بن الحنفية.
2 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم 7/16 ح3655، والترمذي كتاب المناقب باب تقديم عثمان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم 5/629 ح3707 كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
3 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان 7/53 ح3697 وأبو داود: كتاب السنة باب في التفضيل 5/24 ح4627 كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
4 الفقه الأكبر ص303.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون"1.
وكان بالكوفة من رؤساء الشيعة محمد البجلي 2 الملقب بشيطان الطاق، وإليه تنسب الشيطانية من فرق الشيعة، جمع بين بدعة التشيع في الإمامة والقول إن الله لا يعلم الشر قبل أن يكون. فقد نقل عنه الأشعري في المقالات أنه يقول:"يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها، فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها"3.
فكان بينه وبين الإمام أبي حنيفة مناظرات عديدة منها أنهما تناظرا في فضائل علي بن أبي طالب، أورد تلك المناظرة ابن تيمية في منهاج السنة4 وفيها: "أن أبا حنيفة لقي محمد بن نعمان فقال أبو حنيفة: عمن
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص57.
2 هو محمد بن علي بن نعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي قال عنه ابن حجر: "أبو جعفر الملقب شيطان الطاق نسب إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس للصرف بها فيقال: إنه اختصم مع آخر في درهم زيف فغلب فقال أنا شيطان الطاق وقيل إن هشام بن عبد الحكم شيخ الرافضة لما بلغه أنهم لقبوه شيطان الطاق سماه مؤمن الطاق ويقال إن من لقبه شيطان الطاق أبو حنيفة". ولم أقف على تاريخ وفاته.
لسان الميزان 5/300، 301.
3 مقالات الإسلاميين ص37.
4 8/197 وأوردها ابن حجر في لسان الميزان 5/301.
رُوِّيت حديث رد الشمس 1؟ فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل".
قال ابن تيمية على إثرها: "هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث، فإنه لم يروه إمام من أئمة المسلمين. وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير، وهو لا يتهم عليا فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة، ولقد لقي من الشيعة وسمع من فضائل علي ما شاء الله، وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث على محمد بن نعمان، وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه النعمان بجواب صحيح إلى أن قال: فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهم كرامات، بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل"2.
وتناظر كذلك بمن هو أحق بالخلافة والأرشد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الإمام أبو حنيفة بما حيره فأسكته حيث قال له: "نحن نقول كان الحق للصديق، فسلم علي رضي الله عنهما الحق له فكان من أشد الناس وأنتم قلتم: كان الحق لعلي فأخذه الصديق بقوة فكان الصديق أشد الناس حيث أخذ منه حقه بقوته بلا تسليم" 3، فلأجل كذب وتمويه طائفة من الشيعة
1 حديث رد الشمس لعلي أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 2/8؛ والجوزقاني في الأباطيل والمناكير 1/158؛ وابن الجوزي في الموضوعات 1/355، 356 جميعهم من طريق فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قال الجوزقاني على أثره:"حديث منكر مضطرب".
أما لفظه فهو: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فرد عليه الشمس قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت".
2 منهاج السنة 8/197، 198.
3 مناقب أبي حنيفة للكردري ص180.
رد الإمام أبو حنيفة شهادتهم فلا يجيزها.
جاء في كتاب الكفاية عن عمر بن إبراهيم قال:"سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة الإمام أبا حنيفة بمن تأمرني أن أسمع الأثر؟ قال: من كلّ عدل في هواه إلا الشيعة فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
…
" 1.
وفي هذا المعنى يذكر ابن تيمية 2 أن أبا حنيفة ردّ شهادة من عرف بالكذب كالخطابية 3، هذا هو موقف الإمام من الشيعة وبدعتهم.
3-
المرجئة الخالصة
تقدم أن الخوارج تعد كل كبيرة كفرا، فجاءت المرجئة الغالية فأعلنت أن الإيمان هو المعرفة 4 فقط. وهؤلاء معروفون بمرجئة الجهمية، وبعضهم قالوا:
1 الكفاية ص302.
2 منهاج السنة 1/62.
3 هم أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع المقتول سنة 143هـ.
قال البغدادي: "الخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الإله في جعفر الصادق وبعده في أبي خطاب الأسدي، فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ومن جهة دعواها أن الحسن والحسين وأولادهما أبناء الله وأحباؤه".
الفرق بين الفرق ص255.
انظر عن مقالة هذه الفرقة في مقالات الإسلاميين 1/75؛ والفصل 4/187؛ والملل والنحل 1/380؛ والتبصير ص73.
4 مقالات الأشعري ص132، 279 تحقيق ريتر.
"إن الإيمان هو الإقرار باللسان 1، وهم مرجئة الكرامية 2، وبعضهم زعموا أن الإيمان: هو التصديق فقط3. وذهب جمهورهم 4 إلى أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وهؤلاء معروفون بمرجئة الماتريدية.
وقال بعضهم: إن الإيمان هو التصديق والإقرار 5. وهؤلاء معروفون بمرجئة الفقهاء. وسموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان".
ولم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة إلا النوعان الأول والرابع، فكان
1 انظر مقالات الأشعري ص141 تحقيق ريتر؛ والفرق بين الفرق ص212؛ وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص126؛ والملل ونحل 1/108.
2 الكرامية: فرقة إسلامية تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي في بيت المقدس سنة 256هـ. والكرامية مجسمون أطلقوا على الله لفظ الجسم لذلك عدهم الشهرستاني من الصفاتية الذين غلوا في الإثبات حتى انتهى بهم إلى التشبيه والتجسيم، وأما الأشعري في المقالات: فعدّهم من فرق المرجئة لقولهم: إن الإيمان هو الإقرار والتصديق دون اعتقاد القلب وعمل الجوارح، وعرفوا بالزهد والتقشف والعبادة، وتعدّت فروعهم دون الاختلاف في الأصول، وأكثر أتباعهم في خراسان وما رواء النهر.
انظر الملل والنحل 1/108؛ ومقالات الإسلاميين ص141، وخطط المقريزي 2/357.
3 انظر المسامرة ص330، 331؛ والبداية للصابوني ص152؛ وأصول الدين للبزدوي ص153؛ وبحر الكلام للنسفي ص41؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص119.
4 قلت جمهور الماتريدية لأن بعضهم ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار. انظر شرح العقائد النسفية ص120؛ وشرح المقاصد 5/176.
5 مقالات الأشعري ص132-141، وكتاب الإيمان لابن مندة 1/331، وشرح العقيدة الطحاوية ص273.
يرد على النوع الأول كما سيأتي، ويقول بالنوع الرابع.
قال في الرد على من يقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن أهل القبلة لا يدخلون النار مهما اقترفوا من المعاصي، وزعموا أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة 1: "ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، لا نقول: إنه لا يدخل النار
…
ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة"2.
وسيأتي مزيد من ذلك في مناظرته للجهم بن صفوان في مفهوم الإيمان. وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال:"ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم"3.
ولقد تبرأ الإمام أبو حنيفة ممن نسب إليه الإرجاء؛ فقال في رسالته إلى البتي 4: "وأما ما ذكرت من اسم المرجئة فما ذنب قوم تكلموا بالعدل، وسماهم أهل البدع بهذا الاسم، ولكنهم أهل عدل وأهل السنة وإنما هذا اسم سماهم به أهل الشنآن"5.
وإنما قال ذلك بناء على مفهوم الإرجاء عنده، وهو مذهب غلاة المرجئة الذين يجعلون الإيمان: هو المعرفة؛ فلا يضر معه ذنب كما
1 الفصل 4/45 دار المعرفة؛ والفرق بين الفرق ص202؛ والتبصير ص97.
2 الفقه الأكبر ص304.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص41.
4 تقدم ترجمته ص135.
5 رسالة أبي حنيفة للبتي ص38.
تقدمت الإشارة إليه. فأبو حنيفة عنده شيء من الإرجاء الخفيف، وهو النوع الرابع، غير أنه بريء من بقية أنواع الإرجاء.
4-
القدرية
اسم أطلقه أهل السنة على الذين نفوا القضاء والقدر السابق من الله تعالى، وزعموا أنهم هم الفاعلون لأعمالهم دون تقدير من الله عز وجل وأن الأمر أُُنُف 1.
وأول من نطق بهذه البدعة رجل كان نصرانيا فأسلم يقال له سوسن 2 من أهل العراق، فأخذها عنه معبد الجهني 3، وأخذها عن معبد غيلان الدمشقي 4. قال الأوزاعي: "أول من نطق بالقدر رجل من
1 الفصل 3/22؛ الملل والنحل 1/43 بتصرف.
2 لم أقف له على ترجمة.
3 هو معبد بن عبد الله الجهني البصري قال عنه الذهبي:
"صدوق في نفسه ولكن سنّ سنّة سيئة فكان أول من تكلم بالقدر ونهى الحسن الناس عن مجالسته وقال هو ضال مضل". وقال ابن العماد: "وفي سنة 80هـ صلب عبد الملك معبدا الجهني وقيل بل عذبه الحجاج بأنواع العذاب وقتله".
ميزان الاعتدال 4/141؛ وشذرات الذهب 1/88؛ وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4/85؛ وتهذيب التهذيب 10/225.
4 هو غيلان بن مسلم الدمشقي أبو مروان قال عنه الذهبي:
"المقتول في القدر ضال مسكين
…
كان من بلغاء الكتّاب". وقال عنه طاش كبري زاده: "من أصحاب الحسن البصري في الفقه وله أتباع يقال لهم الغيلانية كان قبطيا قدريا لم يتكلم أحد في القدر قبله ودعا إليه إلا معبدا الجهني" قتل في أول خلافة هشام بن عبد الملك بعد مناظرته للأوزاعي حيث أفتى بقتله.
ميزان الاعتدال 3/338؛ ومفتاح دار السعادة 2/144. وانظر ترجمته في لسان الميزان 4/424.
أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"1.
فتصدى لهم من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما وأخبروا أنهم مجوس هذه الأمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم"2.
ولقد اهتم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بالرد على بدعة القدرية اهتماما بالغا وخاصة في كتابه الفقه الأكبر؛ حيث يقول فيه: "وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره"3.
ويقول: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة، والله تعالى خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره"4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن"5.
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/749-750؛ والشريعة ص242؛ وسير أعلام النبلاء 4/187.
2 أخرجه أبو داود: كتاب السنة باب في القدر 5/66 ح4691؛ والحاكم في المستدرك 1/85، كلاهما من طريق أبي حازم عن ابن عمر قال الحاكم على أثره:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص.
3 الفقه الأكبر ص302، 303.
4 المصدر السابق.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
وقال: "وأفعال العباد خلق الله وكسبهم من العباد"1.
وأرشد أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعض تلاميذه إلى كيفية مناظرة القدري؛ فقد روى الخطيب عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا كلمت القدري فإنما هما حرفان إما أن يسكت وإما أن يكفر. يقال له: هل علم في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء كما هي؟
فإن قال لا، فقد كفر، وإن قال: نعم. يقال له: أفأراد أن تكون كما علم، أم أراد أن تكون بخلاف ما علم؟ فإن قال أراد أن تكون كما علم فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان ومن الكافر الكفر، وإن قال أراد أن تكون بخلاف ما علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا لأن من أراد أن يكون ما علم أنه لا يكون، أو لا يكون ما علم أنه يكون، فإنه متمنٍّ متحسر، ومن جعل ربه متمنيا متحسرا فهو كافر"2.
وتناظر أبو حنيفة رحمه الله تعالى مع غيلان الدمشقي أحد كبار القدرية وفيه أن غيلان الدمشقي قال لأبي حنفة: "تقول إن المعاصي بمشيئة الله ومراده فقال له أبو حنيفة: وأنت تقول إنها بكره من الله وعجزه، ومن نسب الله إلى العجز فهو كافر فانقطع غيلان"3.
وتناظر أبو حنيفة مع قدري آخر وفيها:
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص53.
2 تاريخ بغداد 13/382، 383.
3 من كتاب الكنز الخفي من اختيارات الصفي للشيخ أبي محمد عثمان بن عبد الله بن الحسن ق "135/ب".
أن أبا حنيفة قال له: "جئت أم جيء بك؟ قال: بل جئت باختياري فقال: اجلس فجلس، فقال أبو حنيفة جلستَ أو أُجلست؟ قال: بل جلست باختياري فقال له: قم، فقام القدري فقال له أبو حنيفة: ارفع إحدى رجليك فرفعها فقال له: رفعت أو رُفعت لك قال: بل رفعتها قال: فإن كان كما زعمت؛ فكل هذه الأفعال منك وباختيارك فارفع الرجل الأخرى قبل أن تضع الأولى، فتحير القدري"1.
وناظر أبو حنيفة جماعة من القدرية حيث أتوا إليه فقالوا له: "نخاصمك قال: فيم تخاصمونني قالوا: في القدر، قال: أما علمتم أن الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة..أو قال تحيرا. قالوا: ففي القضاء والعدل، قال: فتكلموا على اسم الله فقالوا: هل يسع أحدا من المخلوقين أن يجري في ملك الله ما لم يقض؟ قال: لا، إلا أن القضاء على وجهين، منه أمر وحي والآخر قدرة، فأما القدرة فإنه لا يقضي عليهم ويقدر لهم الكفر، ولم يأمر به بل نهى عنه، والأمر أمران أمر الكينونة إذا أمر شيئا كان وهو على غير أمر الوحي. قالوا فأخبرنا عن أمر الله أموافق لإرادته أم مخالف؟ قال: أمره من إرادته وليس إرادته من أمره. وتصديق ذلك قول الله عز وجل لإبراهيم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} "سورة الصافات: الآية102".
ولم يقل ستجدني صابرا من غير إن شاء الله؛ فكان ذلك أمره ولم يكن من إرادته ذبحه.
قالوا: فأخبرنا عن اليهود والنصارى الذين قالوا على الله عز وجل
1 من كتاب الكنز الخفي من اختيارات الصفي ق "135/ب".
ما قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} "سورة التوبة: الآية30".
فقضى الله على نفسه أن يشتم وأن تضاف إليه الصاحبة والولد؟.
فقال أبو حنيفة: إن الله لا يقضي على نفسه إنما يقضي على الله عباده، ولو كان يقضي على نفسه لجرت عليه القدرة.
قالوا: فأخبرنا عن الله عز وجل إذا أراد من عبده أن يكفر أحسن إليه أم أساء؟ قال: لا يقال أساء ولا ظلم إلا لمن خالف ما أمر به، والله قد جلّ عن ذلك، وقد عرف عباده ما أراد منهم من الإيمان به، فقالوا: يا أبا حنيفة أمؤمن أنت؟ فقال: نعم، قالوا: أفأنت عند الله مؤمن؟ قال: تسألوني عن علمي وعزيمتي أو عن علم الله وعزيمته؟ قالوا: بل نسألك عن علمك، ولا نسألك عن علم الله، قال: فإن بعملي أعلم أني مؤمن ولا أعزم على الله عز وجل في علمه، فقالوا: يا أبا حنيفة: ما تقول فيمن جحد حرفا من كتاب الله؟ قال: كافر لأن الله عز وجل قال مهددا لهم وموعدا: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} "سورة الكهف: الآية29".
قالوا: فإن كان هذا من باب الوعيد وقال إني لا أؤمن ولا أكفر. قال: فقد خصمتم أنفسكم، ألا ترون أني إن لم أؤمن فأنا مجبور في إرادة الله عز وجل على الكفر، وإن لم أكفر فأنا مجبور في إرادة الله عز وجل على الإيمان قالوا: يا أبا حنيفة حتى متى تضل الناس؟ قال: ويحكم إنما يضل الناس من يستطيع أن يهديهم والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء" 1.
1 الانتقاء ص164، 165.
5-
الجهمية
تنسب الجهمية إلى جهم بن صفوان أبي محرز مولى بني راسب يلقبه بعضهم بالترمذي، والبعض الآخر بالسمرقندي المتوفى سنة 218هـ. وأتباعه يعرفون بالجهمية نسبة إليه، وقد صار لقبا على معطلة الصفات باعتبار أن الجهمية هي أول من قالت به ولها بدع أخرى غير هذه البدعة منها القول بأن الإيمان هو معرفة الله تعالى فقط والكفر هو الجهل به، والقول بالجبر حيث زعمت أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله1.
فهم بهذا مخالفون لنصوص الكتاب والسنة الصريحة القاطعة؛ لذا يرى بعض السلف أنهم ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الله بن المبارك: "الجهمية ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة"2.
لذلك كفر الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى جهم بن صفوان.
فقد روى الخطيب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني 3 قال:
"سمعت أبا حنيفة يقول: جهم بن صفوان كافر"4.
1 انظر مقالات الإسلاميين 1/338؛ والفرق بين الفرق ص221؛ والتبصير في أصول الدين ص63؛ والملل والنحل 1/86-87؛ وتاريخ الطبري 7/335؛ والبداية والنهاية 10/26، 27..
2 كتاب النبوءات ص133.
3 هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم أبو يحيى الكوفي، قال عنه ابن حجر:"صدوق يخطئ ورمي بالإرجاء من التاسعة". مات سنة 202هـ. تقريب التهذيب 1/469، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1206.
4 تاريخ بغداد 13/382.
وفي رواية أخرى أنه بعدما ناظره قال له: "اخرج عني يا كافر"1.
ولقد أوَّل صاحب كتاب المسايرة كلام الإمام أبي حنيفة هذا.
قال الكشميري 2: "وفي المسايرة عن أبي حنيفة أنه قال بعدما ناظره في مسألة: اخرج عني يا كافر. وقد أوّل قوله هناك ثم قال الكشميري: قلت: بل ما قاله صحيح لا ينبغي أن يؤوّل قوله؛ فإن شأن الإمام أرفع 3 من أن تجري كلمة على لسانه لا يرضاها الله ورسوله، وكان جهم ينفي الصفات
…
"4.
وكان الإمام أبوح حنيفة رحمه الله تعالى يذم جهما ويعيب قوله، كما ذكر أبو يوسف فقد قال:"إن أبا حنيفة كان يذم جهما ويعيب قوله"5.
وممّا عاب على جهم قوله بخلق القرآن. فقد روى الخطيب عن ابن أبي شيبة قال: "قدم ابن المبارك على أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما هذا الذي دبّ فيكم؟ قال: له رجل يقال له جهم، قال: وما يقول؟
1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 1/11.
2 هو محمد أنور بن معظم شاه بن عبد الكبير بن عبد الخالق النروري الكشميري ولد في سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين وتوفي في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف في ديوبند ومن أشهر مؤلفاته التصريح بما تواتر في نزول المسيح وفيض الباري على صحيح البخاري.
انظر ترجمته في نزهة الخواطر 8/80؛ ومقدمة فيض الباري ص17-24.
3 هذا من غلو بعض الحنفية في أئمتهم.
4 فيض الباري 14/514.
5 تاريخ بغداد 13/382.
قال: يقول القرآن مخلوق، فقال أبو حنيفة:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} " 1.
فنهى عن القول بقوله أو الصلاة خلفه. فعن أبي سوف أن أبا حنيفة قال: "من قال القرآن مخلوق فهو مبتدع؛ فلا يقولن أحد بقوله ولا يصلين أحد خلفه"2.
وعاب عليه إفراطه في نفي الصفات؛ حيث قال: "قاتل الله جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان هذا أفرط في النفي، وهذا أفرط في التشبيه"3.
وفي رواية أخرى قال: "أفرط جهم في نفي التشبيه؛ حيث قال: إن الله ليس بشيء"4.
ورد عليه قوله بفناء الجنة والنار حيث قال: "والجنة والنار مخلوقتان اليوم لا تفنيان أبدا، ولا تموت الحور العين أبدا، ولا يفنى عقاب الله وثوابه سرمدا"5.
وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا، ولا تبيدان، والله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق"6.
ورد عليه قوله بأن الإنسان مجبور، لا قدرة له ولا اختيار، حيث
1 تاريخ بغداد 13/384.
2 تاريخ بغداد 13/383-384.
3 تاريخ بغداد.
4 تاريخ بغداد 13/166؛ وفتح الباري 13/345.
5 الفقه الأكبر ص305.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 51.
قال: "ولم يجبر 1 أحدا من خلقه على الكفر، ولا على الإيمان"2.
وقال كذلك: "فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده للحق وبخذلان الله تعالى إياه، وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له"3.
وأختتم موقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من جهم وبدعه برده عليه في قوله إن الإيمان هو معرفة الله تعالى فقط؛ حيث قال له: "قد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان بكتابه بجارحتين بالقلب واللسان، فقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} " إلى قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} "سورة المائدة: الآيات من: 83-85".
فأوصلهم الجنة بالمعرفة والقول وجعلهم مؤمنين بالجارحتين القلب واللسان.
قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} "سورة البقرة: الآيتان 136، 137".
وقال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} "سورة الفتح: الآية26".
1 لفظ "جبر": ليس له أصل في الكتاب والسنة لذلك كره السلف أن يقال: "جبر" أو يقال: "ما جبر" قال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبْل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال الزبيدي: "أمر الله أعظم وقدرته أجل وأكبر من أن يجبر أو يقهر ولكن يقضي ويقدر ويجبل عبده على ما أحب".
انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/700.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 الفقه الأكبر ص303.
وقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} "سورة الحج: الآية 24".
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} "سورة فاطر: الآية10".
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} "سورة إبراهيم: الآية27".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " 1، فلم يجعل الفلاح بالمعرفة دون القول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه كذا"2.
ولم يقل يخرج من النار من عرف الله وكان في قلبه كذا
…
ولو كان القول لا يحتاج إليه ويُكتفى بالمعرفة لكان من جحد الله باللسان وعرفه
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/611، 612 من طريق جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال الحاكم على أثره:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص. وأخرجه أحمد في المسند 4/63 من طريق شيبان عن أشعث عن شيخ من بني مالك بن كنانة، وأرده الهيثمي في المجمع 6/21-22 وقال:"رجاله رجال الصحيح".
2 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/392، 393 ح7410، ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182 ح325، وابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة 2/1442 ح4312، جميعهم من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
ولفظه عند مسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
بقلبه مؤمنا، ولكان إبليس مؤمنا لأنه عارف بربه يعرف أنه خالقه ومميته وباعثه ومغويه قال:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} "سورة الحجر: الآية 39".
وقال تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} "سورة الأعراف: الآية 14".
وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} "سورة الأعراف: الآية 12".
ولكان الكفار مؤمنين بمعرفتهم ربهم وإن أنكروا بلسانهم. قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} "سورة النمل: الآية 14".
فلم يجعلهم مع استيقانهم بأن الله واحد مؤمنين مع جحدهم بلسانهم. وقال عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} "سورة النحل: الآية 83".
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} "سورة يونس: الآيتان 31،32".
فلم ينفعهم معرفتهم مع إنكارهم:
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"} "سورة البقرة: الآية 146".
يعني النبي صلى الله عليه وسلم؟! فلم تنفعهم المعرفة مع كتمانهم أمره وجحودهم
به فقال له الجهم في خلدي شيئا فسأرجع إليك، فقام من عنده ولم يعد إليه" 1.
هذا جارٍ على مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من الإيمان، وإنما الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان.
وما ذكر من الأدلة غايتها أن تدل على أن القول باللسان من الإيمان، وأن أصل الإيمان الذي هو الدخول في الإسلام لا يحصل إلا بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان لا تدل على أن الأعمال ليست من الإيمان.
ويتلخص موقف أبي حنيفة من جهم وبدع الجهمية فيما يلي:
"أ" تكفيره لهم ويظهر من هذا أنه لا يعتبرهم من أهل القبلة.
"ب" عدم جواز الصلاة خلفهم.
"ج" إنكاره لبدعهم أشد الإنكار كخلق القرآن والقول بالجبر وتعطيل الصفات والقول بالإرجاء المطلق.
6-
المعتزلة
ظهرت هذه الفرقة في نهاية القرن الهجري الأول وبلغت شأوها في العصر العباسي الأول. يرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء 2
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص124، 125، 126.
2 هو واصل بن عطاء المعروف بالغزّال من موالي بني مخزوم وقيل من موالي بني ضبة، قال عنه الذهبي: "البليغ الأفوه..كان ألثغ بالراء غينا فلاقتداره على اللغة وتوسعه يتجنب الوقوع في لفظة فيها راء
…
وهو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال طرده الحسن من مجلسه لما قال: "الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن وتبعهما أنصارهما فسموا المعتزلة". مات سنة =
مجلس الحسن البصري لقول واصل: "إن مرتكب الكبيرة ليس كافرا ولا مؤمنا، بل هو في منزلة بين المنزلتين. ولما اعتزل واصل مجلس الحسن البصري وجلس عمرو بن عبيد 1 وتبعهما أنصارهما قيل لهم المعتزلة أو معتزلون 2، ومنذ انضمام عمرو بن عبيد لواصل بن عطاء واعتزالهما الناس ظهر منهما آراء مبتدعة لم يكن عليها الأوائل عاداهما علماء السلف وحذّروا منهما: قال عبد الله بن المبارك:
أيها الطالب علما
ائت حماد بن ز يد
فخذ العلم بحلم
ثم قيّده بقيد
وذر البدعة من
أثار عمرو بن عبيد 3
وروى الهروي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك، وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال:"لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرو بن عبيد فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"4.
= 131هـ. سير أعلام النبلاء 5/464، 465.
وانظر ترجمته في لسان الميزان 6/214؛ وشذرات الذهب 1/182.
1 هو عمرو بن عبيد البصري التميمي بالولاء قال عنه ابن حبان: "كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة" مات سنة 143هـ وقيل سنة 144هـ.
ميزان الاعتدال 3/273، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 12/187.
2 انظر الفرق بين الفرق 3/273؛ والتبصير ص37؛ والملل والنحل 1/46-49؛ والخطط للمقريزي 2/345، 346.
3 ذم الكلام "ق-196/أ".
4 ذم الكلام "ق-173/ب".
وكذلك لعنه الإمام أبو حنيفة؛ فقد روى الهروي عن محمد بن الحسن قال: قال أبو حنيفة: "لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام"1.
وقال الإمام أبو حنيفة عن المعتزلة: "لم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد أجدل من المعتزلة؛ لأن ظاهر كلامهم مموه تقبله القلوب"2.
وأنكر عليهم إبطالهم للصفات حيث قال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف"3.
وردّ عليهم قولهم: إن القرآن مخلوق؛ حيث قال: "وكلام الله تعالى غير مخلوق"4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية"5.
وبالجملة فكتابه الفقه الأكبر رد على الجهمية والمعتزلة فيما أنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته؛ فقد ضمنه جملة من الصفات الإلهية التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة.
1 ذم الكلام "ق-196/ب".
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 الفقه الأكبر ص302
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
7-
المشبهة
التشبيه في اللغة دلالة على مشاركة أمر آخر في معنى، فالأمر الأول هو المشبه والثاني هو المشبه به وذلك المعنى هو وجه الشبه 1.
والمشبهة: هم قوم يشبهون الله تعالى بالمخلوقات ويمثلونه بالمحدثات 2، وقاسوا صفات الخالق على ما ألفوه وشاهدوه من صفات المخلوقين. ومن الذين قالوا في التشبيه في الإسلام واشتهروا به مقاتل بن سليمان 3 الذي بالغ في إثبات الصفات لله عز وجل حتى قال بالتجسيم. ولعل السبب في غلوه في إثبات الصفات هو غلو جهم بن صفوان في إنكار صفات الله عز وجل. قال الذهبي:"وظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الرب عز وجل وخلق القرآن، وظهر بخراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم"4.
ونقل عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول: "إن الله جسم وإن له جمّة وأنه على صورة إنسان من لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء
1 التعريفات للجرجاني ص58.
2 التعريفات للجرجاني ص216.
3 هو مقاتل بن سليمان بن بشر الخراساني أبو الحسن البلخي نزيل مرو قال عنه ابن حجر: "كذبوه وهجروه ورمي بالتجسيم" وقال ابن حبان: "كان يأخذ عن اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كبتهم وكان يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث" مات سنة 150هـ، انظر كتاب المجروحين 3/14، وتقريب التهذيب 2/272، وانظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/173، وتهذيب التهذيب 10/279.
4 تذكرة الحفاظ 59-160.
من يد ورجل ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره" 1.
وأتباعه يسمون المقاتلية، فازدهرت مدرسة مقاتل، ولاقت نجاحا في خراسان موطن مقاتل وتأثر بها هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، وداود الجواريبي، وهؤلاء جميعا من الرافضة وتأثر بها فيما بعد ابن كرام.
لذلك وصفهم الإمام أبو حنيفة بأنهم شرار الناس حيث قال: "صنفان من شر الناس بخراسان الجهمية والمشبهة ربما قال والمقاتلية"2.
ووصف التشبيه والتعطيل بأنهما رأيان خبيثان فقال: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطل ومقاتل مشبه"3.
وروى الخطيب البغدادي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة ذكر عنده جهما ومقاتل فقال: "كلاهما مفرط أفرط جهم في نفي التشبيه حيث قال: إنه ليس بشيء، وأفرط مقاتل بن سليمان حتى جعل الله مثل خلقه"4.
فلبدعة مقاتل ذمَه علماء السلف، وتركوا الرواية عنه قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي:"أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير، يعني في البدعة والكذب: جهم بن صفوان، وعمر بن صبيح 5 ومقاتل بن سليمان"6.
1 مقالات الإسلاميين 1/214، 258، 259.
2 تاريخ بغداد 13/382.
3 تاريخ بغداد 13/164.
4 تاريخ بغداد 13/166.
5 هو عمر بن صبيح بن عمر التميمي أو العدوي أبو نعيم الخراساني قال عنه ابن حجر: "متروك كذبه ابن راهويه من السابعة".
تقريب التهذيب 2/58؛ وانظر ترجمته في الكامل في الضعفاء 5/1583.
6 تاريخ بغداد 13/164.
وقال أحمد بن سيار بن أيوب 1: "مقاتل بن سليمان كان من أهل بلخ تحول إلى مرو وخرج إلى العراق، ومات بها، يكنى أبا الحسن، وهو متهم متروك الحديث مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا يحل الرواية عنه"2.
وقال أبو يوسف: "صنفان ما على الأرض أبغض إليّ منهما: المقاتلية والجهمية"3.
ورد الإمام أبو حنيفة على بدعة المشبهة بقوله: "ولا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه"4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "ولا شيء مثله
…
لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام" 5.
وقال: "ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه"6.
وقال كذلك: "من وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر"7.
هذا هو موقف الإمام من الفرق الكلامية وأقوالهم المبتدعة، وأما
1 أحمد بن سيار بن أيوب أبو الحسن المروزي قال عنه ابن حجر: "الفقيه ثقة حافظ من الحادية عشر" مات سنة 261هـ.
تقريب التهذيب 1/16؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/35.
2 تاريخ بغداد 13/163.
3 تاريخ بغداد 13/164.
4 الفقه الأكبر 301.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص18، 19.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص28.
7 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص25.
مفهومه للجماعة فيكفي للدلالة عليه إجابته عن سؤال عطاء بن أبي رباح من أي الأصناف أنت؟ فأجابه بقوله: "أنا ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا بذنب، فقال له عطاء: عرفت فالزم"1.
1 تاريخ بغداد 13/331.