الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
داخل الجزيرة وجدنا تسربات مسيحية إلى الحجاز من الحيرة ومن سورية ومن بيزنطة التي عرف التجار العرب طريقهم إليها بشكل أو بآخر. يشهد على ذلك بعض الأسماء العربية في المنطقة في الفترة السابقة للإسلام مثل: داود وعيسى وسليمان49. على أننا يجب ألا نبالغ في هذه التأثيرات المسيحية في المنطقة، إذ يبدو أن انتشارها لم يكن واسعًا. وفي هذا المجال فنحن نجد بعض إشارات التوحيد في أشعار الجاهليين الذين ينتمون إلى هذه المنطقة مثل أشعار أمية بن أبي الصلت ونسمع عن اعتناق للمسيحية عند بعض الأفراد البارزين في المجتمع الحجازي مثل ورقة بن نوفل وربما كانوا كذلك ولكن من المحتمل كذلك أن يكونوا من هذه الفئة التي لم تعد الوثنية البدائية تغطي تطلعاتهم نحو قيم اجتماعية وروحية أكثر تطورا وتقدما فعمدوا إلى اعتناق خطوط توحيدية عامة في عقيدة إبراهيم عليه السلام وسموا بالحنيفية50.
49 HITTI ذاته، ص106.
50 الإشارة إلى الحنيفية في القرآن الكريم، سورة البقرة: 135، آل عمران: 67 و95، النساء: 125، الأنعام: 79 و161، يونس: 105، النحل: 120 و123، الروم: 30، الحج: 31، البينة:5.
ب-
الظروف المحيطة بالحياة الدينية:
فإذا تركنا العقائد الدينية ذاتها، سواء فيما يخص تطورها أو انتشارها، وانتقلنا إلى الحديث عن الظروف التي أحاطت بممارستها نجد ظاهرتين واضحتين. وإحدى هاتين الظاهرتين هي المركز القوي أو المؤثر الذي تمتع به رجال الدين في أكثر من قسم من أقسام شبه الجزيرة كما نستطيع أن نستنتج بوضوح سواء من المخلفات الأثرية أو من الكتابات التي تركها لنا الكتاب الكلاسيكيون. وأحد المؤشرات إلى هذا الوضع هو العدد الكبير من المعابد الذي عرفته منطقة العربية الجنوبية على سبيل المثال. لقد كانت كثرة عدد المعابد في مدن هذه المنطقة وبذخها إحدى الظواهر التي شدت انتباه الكتاب الكلاسيكيين
أو التجار والجنود والبحارة اليونان والرومان الذين أخذ عنهم هؤلاء الكتاب معلوماتهم في بعض الأحيان.
وهنا نجد الكاتب الروماني بلينيوس يحدثنا عن عدد هائل من المعابد في مدن هذه المنطقة، فمدينة شبوه SABOTA عاصمة حضرموت بها 60 معبدًا، ومدينة تمنع Thomna عاصمة قتبان بها 65 معبدًا. ولم يكن الأمر قاصرا على هذا العدد الهائل من المعابد، بل يبدو أن شيئا غير قليل من البذخ والعناية كان ظاهرا في بناء هذه المعابد، إذ كان هذا يصل في مستواه إلى مستوى ما يبذل في بناء القصور الملكية ذاتها كما نستنتج من حديث الجغرافي اليوناني سترابون الذي يتحدث عن مدن العربية الجنوبية التي "يزينها جمال المعابد والقصور الملكية". ونحن نجد مصداقا لهذا الكلام في آثار معبد المقه، إله القمر عند السبئيين، التي كشفت عنها في أواسط هذا القرن البعثة المصرية برئاسة أحمد فخري ثم استكملت أعمال التنقيب البعثة الأمريكية برئاسة وندل فيليبس51.
وشيء قريب من هذا نجده في مدينة تدمر التي كان مجمعها الإلهي يزيد على عشرين معبودا، ولا بد أن عددا كبيرا من المعابد التي بنيت على قدر كبير من البذخ كانت تزينها، إذ رغم ما أصابها من تدمير شامل على يد الجيش الروماني بقيادة الإمبراطور أورليانوس aurehanus في 273م لا يزال مستوى البذخ المعماري الذي تميزت به مبانيها يطل علينا من بقاياها الأثرية،
51 strabo: XVI، 4: 3، plinius: HN، VI، 153. عن معبد المقه راجع: ahmad fakhry: an archaelogical journey to yemen "1952 cairo" راجع كذلك Wendell ph'lips: qataban and sheba صفحات 251 وما بعدها.
كما لا يزال هناك عدد من بقايا معابدها ومبانيها الدينية الأخرى مثل معبد "بل" ومعبد "بعل شمين" والأبراج الجنائزية المضلعة "المربعة"، وعدد من التوابيت التي وجدت في مغارة الجديدة، تزينها مناظر من النحت البارز تشهد بعظمة المستوى الفني وبالعناية الفائقة التي كانت تبذل في المجال الديني52.
ومثل هذه العناية التي بلغت مبلغ البذخ بالمعابد تشير دون شك إلى مدى القوة التي كان يتمتع بها رجال الدين في تلك المناطق، وهي قوة يبدو أنها كانت موجودة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فعلى الصعيد الاقتصادي كان لرجال الدين حق معلوم من محصول اللبان ابتداء من جمعه ومرورًا بتسويقه وانتهاء بنقله. وهنا يحدثنا الكاتب الروماني بلينيوس عن الالتزام الشديد بالمراسم الدينية التي كانت تصاحب جمع اللبان، كما يذكرنا أن أحمال هذه السلعة المجزية كان لا يسمح لها بأن توضع في سوق شبوه "عاصمة حضرموت" قبل أن يحصل رجال الدين منها على الحصة المخصصة للإله، والشيء ذاته كان يحدث عندما تمر القوافل التجارية بهذه الأحمال في منطقة قتبان، فهنا كذلك كان لرجال الدين حصة من الطيوب لا بد من الوفاء بها53. ولنا أن نتصور مقدار الثروة التي كان يحصل عليها رجال الدين من "حقهم" في هذه الطيوب إذا أدخلنا في اعتبارنا عاملين: أحدهما هو مستوى البذخ الذي كانت عليه المعابد التي رأينا كيف أنها كانت من نفس مستوى القصور الملكية، والآخر هو الأثمان الباهظة التي كانت تباع بها الطيوب في العصر القديم كما رأينا في مناسبة سابقة، وهكذا قد لا نبتعد كثيرًا عن الصواب إذا قلنا: إن طبقة رجال الدين كانت، إلى جانب ما تحرقه من هذه الطيوب
52 عن عدد الآلهة راجع dussaud: ذاته، صفحات 90-91. عن الاثار راجع، kammerer: ذاته، الجزء الثاني الخاص بالأطلس واللوحات، لوحات: 115، 116، 118 "1"، 120 "2".
53 plinius: HN، XII، 54، 63-4.
بالضرورة في المعابد، كانت تحصل على دخل كبير من التجارة التي كان لا بد أن تمارسها في هذا المجال.
ولعل هذه القوة الاقتصادية هي التي انعكست على الصعيد السياسي في واحدة على الأقل من هذه الممالك العربية الجنوبية، وهي مملكة سبأ، التي رأينا رجال الدين فيها ينتزعون الصلاحيات الدينية من يد الملوك بعد أقل من قرن ونصف قرن من قيام هذه المملكة، لينفردوا بها "منذ حوالي 610 ق. م" نحو خمسة قرون كاملة54. وقد كان السلطة المترتبة على الصلاحيات الدينية في العصر القديم هي إحدى السلطات الرئيسة في نظم الحكم في المجتمعات المستقرة.
والمركز الذي كان يتمتع به رجال الدين في ممالك العربية الجنوبية، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية السياسية، نجد شبيهًا له في العربية الشمالية في مملكة تدمر. فهنا كذلك نجد رجال الدين على قدر كبير من القوة والنفوذ في هاتين الناحيتين. وعلى سبيل المثال فالكهنة الذين كانوا يقومون على معبد الإله بل "كبير الآلهة" وتابعيه الإله يرحبول "إله الشمس في أحد مظاهره" والإله عجلبول "إله القمر" كانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل ضمن صفوفهم إلا إذا كان ينتمي إلى الأرستقراطية التجارية في تدمر. كذلك كانت موافقتهم لازمة لتعيين كبار الموظفين في الدولة، وهكذا فإن النصوص التي تشير إلى أن الإله يرحبول قد سمى أحد الأشخاص ليشغل إحدى هذه الوظائف معناها في الحقيقة أن مجموعة هؤلاء الكهنة قد اختاروا هذا الشخص للوظيفة المسماة55.
أما الظاهرة الأخرى أو الظرف الآخر الذي اتصل بالحياة الدينية في شبه
54 راجع الوضع السياسي أعلاه في هذا الباب.
55 SYRIG: SYRIA، xxii "1941" صفحات 268 وما بعدها.
الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام فهو ظاهرة الارتباط الشديد بين التغييرات الاجتماعية والسياسية من جانب والتغييرات الدينية من جانب آخر، وقد ظهرت شدة هذا الارتباط في كثير من الأحيان في التصدي العنيف الذي كانت تلقاه أية محاولة للتغيير الديني. وليس هذا غريبًا في الواقع في مجتمعات العصر القديم التي كان الدين يقوم فيها بدور أساسي كقاعدة تقوم عليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية "سواء في ذلك النظم السياسية أو حتى العلاقات السياسية الخارجية"، ومن هنا فقد كانت أية محاولة للتغيير في العقيدة الدينية معناها في الحقيقة محاولة للتغيير في واقع العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من علاقات الإنتاج وما تؤدي إليه من نظم سياسية تبلور هذه العلاقات وتعطيها شرعيتها اللازمة لاستقرارها، كما كانت تؤثر كذلك في العلاقات السياسية الخارجية في مجتمع دولي يشتد فيه التوتر والصراع بين القوى الكبرى المتصارعة التي كانت بدورها ترى في الدين عامل اقتراب وتوافق أو عامل ابتعاد وتصادم حسب الظرف المطروح.
وقد مر بنا في هذا الصدد العنيف الذي تعرض له أصحاب الدعوات الدينية في أقوام عاد وثمود ومدين وسبأ. وقد رأينا في هذه الدعوات أن كلًّا من هذه الدعوات كانت تستقطب طبقة من المجتمع الذي ظهرت فيه هي طبقة المستضعفين على حد وصف القرآن الكريم لها في مواجهة طبقة أخرى من المتسلطين الذين كانوا يملكون موارد الثروة في المجتمع. كما رأينا الجدل العنيف الذي كان يقوم بين الطرفين حول الدعوة الدينية التي كان يبشر بها هؤلاء الرسل والأنبياء والتي يبدو واضحًا من سياق وصفها ووصف الجدل الذي أثارته بين طبقتي المجتمع أنها كانت تستهدف تعديل النظام الاجتماعي وإحداث تغيير في توزيع موارد الثروة أو النظم التي كانت تحكم الانتفاع بهذه الموارد بصورة أو بأخرى56.
56 راجع الباب السادس من هذه الدراسة، صفحات 172-173 وحاشية 17 في الباب ذاته.
ويبدو واضحا أن هذه الأوضاع الاجتماعية كانت متداخلة إلى حد كبير مع الأوضاع الدينية السائدة ومستندة إليها ومتساندة معها لإبقاء الأمور على ما كانت عليه بحيث انتهت الدعوات الدينية المذكورة إلى الإخفاق. والصراع ذاته نجده في حالة الدعوة الإسلامية حيث نجد رسولها محمدًا صلى الله عليه وسلم وأتباعه يتعرضون لشيء مماثل من الجدل العنيف ومن التضييق والاضطهاد الذي وصل إلى محاولة التصفية الجسدية لصاحب الدعوة. ولا شك أن جانبًا من نجاح الدعوة الإسلامية، يرجع إلى مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم للخطط بخطط مثلها وتصديه للقوة بقوة مثلها، ومن بين ذلك هجرته هو وأتباعه من مكة إلى يثرب "المدينة المنورة" حيث وجد أنصارًا يتصدون معه لقريش، ومنها تصديه هو وأتباعه لقريش في عدد من الغزوات عند المواقع التي تقطع على القرشيين طرقهم التجارية، ومنها نجاحه في مهادنتهم عند اللزوم في صلح الحديبية ومنها فتحه لمكة التي كانت معقد الخطوط التجارية بين وادي الرافدين من جهة وبين سورية واليمن من جهة أخرى. ولكن بقيت فكرة التصدي للدعوة الدينية التي كانت تستهدف تغيير النظم الداخلية في المجتمع هي الفكرة المسيطرة على مسار الأمور طوال وقت الدعوة وحتى نجاحها "وقد كانت حرب الردة التي نشبت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم هي دون شك انتفاضة أخيرة للتصدي للدعوة الدينية الجديدة حتى بعد نجاحها".
ونحن نجد أمثلة أخرى لهذا العنف الذي واكب التغيرات الدينية في شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة لظهور الإسلام. ففي 523م نجد "ذو نواس" الحاكم الحميري اليهودي يتصدى للمسيحيين في نجران ويقدم على إحراق عدد كبير منهم في حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، لسبب ربما كان مرتبطا بالسياسة الوطنية ضد التدخل الحبشي في المنطقة ومن ثم اعتبر ذو نواس المسيحيين من نفس عقيدة الأحباش أو خشي أن ينحازوا إليهم. وبعد ذلك بحوالي نصف قرن، في 570 أو 571م نجد محاولة من الحبشة لهدم
الكعبة في عام الفيل المشهور، على أساس أن الكعبة كانت تمثل المركز الأول للعبادات الوثنية في شبه الجزيرة ومن ثم فهناك خطر من جانبها على انتشار أي نفوذ مسيحي يمهد الطريق لنفوذ حبشي في الحجاز بكل ما يعنيه هذا من سيطرة حبشية على طرق التجارة التي كانت مكة هي معقدها كما مر بنا57.
والشيء ذاته نجده في تفاصيل مختلفة في علاقات الإمبراطورية البيزنطية بإمارة الغساسنة والإمبراطورية الساسانية "الفارسية" باللخميين "المناذرة". ففي حالة الغساسنة نجد أن حكام هذه الإمارة يتبنون المذهب المسيحي المونوفيزي "مذهب الطبيعة الواحدة" وهو مذهب مخالف للمذهب السائد في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وقد قبل الأباطرة البيزنطيون هذا الوضع على شيء من المضض تمشيًا مع قبول الأمر الواقع طالما ظل انتفاعهم مستمرًّا بولاء الغساسنة في مجال التصدي لأية تحرشات من جانب الإمبراطورية الفارسية أو من جانب أمراء الحيرة الداخلية في نفوذها. ولكن حين بدأ حماس الغساسة لتدعيم مذهبهم الديني المسيحي يظهر بشكل متواتر وملحوظ منذ عهد الحارث "الثاني" بن جبلة "حوالي 529-569م" بدأت الشكوك تساور البيزنطيين، وهكذا أمر الإمبراطور البيزنطي تيبريوس الثاني tiberius II بالقبض على المنذر بن الحارث الذي خلفه على الإمارة في أثناء افتتاحه لكنيسة في "حوارين" بين دمشق وتدمر حوالي 580م، وذلك رغم ما قام به هذا الأمير الغساني من تصدٍّ للأمراء اللخميين وصل إلى حد إحراقهم للحيرة، عاصمتهم، قبل ذلك بقليل في السنة ذاتها، وقد اقتيد المنذر إلى القسطنطينية، ثم سجن في صقلية.
أما في حالة اللخميين من أمراء الحيرة، فنحن نجدهم لا يعتنقون المسيحية ويبقون على وثنيتهم رغم انتشار المسيحية في مجتمع الحيرة ورغم أن إحدى
57 يجد القارئ عرضًا موجزًا لهذه الأحداث الموجودة في الفقرات التالية في، hitti: ذاته، صفحات، 62، 64، 79-80، 83.
الأميرات وهي هند "أم عمرو بن هند" كانت قد اعتنقت هذه العقيدة، وكان الاستثناء الوحيد بين هؤلاء الحكام هو النعمان الثالث أبو قابوس "حوالي 580-602م". ومن المرجح أن عدم إقدام هؤلاء الأمراء على اعتناق المسيحية هو عدم إثارة شكوك الإمبراطورية الفارسية ضدهم حيث إن المسيحية هي العقيدة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وهي العدو اللدود للفرس.
وحت حين اعتنق النعمان الثالث هذه العقيدة نجد أنه اعتنقها على المذهب النسطوري المونوفيزي "الذي لا تدين به الإمبراطورية البيزنطية" ومن ثم يصبح أقرب المذاهب إلى القبول لدى حكام الإمبراطورية الفارسية.