الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أ-
افتراض لوجود عنصر سامي:
وقد تشعب الحديث حول هذا الموضوع وترددت الآراء وتعددت وتعارضت أحيانا وتقاربت أحيانا أخرى وتوافقت أحيانا ثالثة في نتائجها رغم اختلافها في منطلقاتها. ولكن تركز الحوار حول محورين رئيسيين. وأول هذين المحورين هو كنه هؤلاء "الساميين" أو هويتهم: هل هم جنس أو عنصر بالمعنى الأثنولوجي للكلمة؟ أي أنهم ينحدرون من أصل واحد له مقوماته الجسمانية التي يعرفها علماء الأثنولوجية "علم الأجناس" بمقارنة الملامح ومقاييس أجزاء الجسم ونسبتها إلى بعضها ومقاييس الرأس، طولًا من مقدمة الرأس إلى مؤخرته، وعرضًا من أحد جانبي الرأس إلى الجانب الآخر، ونسبة هذا القياس إلى ذاك فيكون الجنس من ذوي الرأس العريض brachycephalic إذ بلغت نسبة العرض إلى الطول ثمانين بالمائة أو زادت على ذلك أو يكون من ذوي الرأس الطويل Dolichocephalic إذا انخفضت النسبة إلى 75 بالمائة أو قلت عن ذلك -هل الساميون جنس أو عنصر واحد يشترك المنحدرون منه في هذه المقومات الجسمانية؟ أم أنهم مجموعة من الشعوب أو الأقوام تتحدث لغات متشابهة أو متقاربة دون أن يفترض هذا التشابه أو التقارب اللغوي بالضرورة أصلا عنصريا واحدا لهذه الشعوب أو الأقوام؟.
أما المحور الثاني لهذا الحديث الذي تردد بين الباحثين ولا يزال يتردد تعارضا وتقاربا وتوافقا في نتائج تختلف رغم ذلك في منطلقاتها فهو عن الموطن الأصلي لهؤلاء "الساميين" سواء أكانت هذه التسمية تفترض أصلا واحدا أو تشير إلى مجرد تشابه أو تقارب لغوي بين مجموعة من الشعوب أو الأقوام، هل كان هذا الموطن الأصلي إفريقيًّا أم آسيويًّا؟ وإذا كان آسيويا فهل هو في خارج شبه الجزيرة العربية أم في شبه الجزيرة نفسها؟ وإذا كانت الأخيرة فمن أي قسم من أقسامها كانت بداية تفرعه وانتشاره؟ ثم ماذا كانت الأسباب التي دفعت إلى هذا الانتشار: هل هي أسباب تتعلق بتغير في المناخ ترك أثره
على الموطن الأصلي المفترض للشعوب السامية جفافا وإجدابا فتركته بعض المجموعات بحثا عن آفاق جديدة تجد في خيراتها ما بدأت تفتقده من أسباب الحياة؟ أم أن له أسبابًا أخرى تتصل بتدهور في الحكم ومن ثم تخلخل في الأمن والأمان وإهمال لموارد البلاد، أو بتغير في إيقاع الحركة التاريخية والحضارية بين دول العالم القديم أثر بالضرورة في الأوضاع السائدة أو في أهمية الطرق التجارية المعروفة ومن ثم دفع الجماعات البشرية في المنطقة، أو بعض هذه المجموعات، إلى أن توائم بين نفسها وبين الأوضاع الجديدة الناجمة عن كل ذلك، حركة هنا ودفعا هناك واندماجا في منطقة ثالثة وتقوقعا في منطقة رابعة وهكذا؟ أسئلة كثيرة ومتداخلة، وكلها تدفعنا إلى الاهتمام بهذه القضية حتى نتعرف على وضع العرب وشبه جزيرة العرب وسط الأقوام والمناطق التي أحاطت بها، ومن ثم إلى تفهم سليم للدور الذي قام به العرب حين جاء الوقت الذي ظهروا فيه على المسرح التاريخي بشكل له أثر واضح.
أما عن سبب هذه التساؤلات حول قضية الساميين فهو أن عددًا من الباحثين في لغات الشرق الأدنى لاحظوا تقاربا واضحا بين عدد من هذه اللغات من بينها الأكدية "البابلية والآشورية" والكنعانية والعبرية والفينيقية والآرامية والنبطية والحبشية والعربية. وقد وجد هؤلاء الباحثون أن هذه اللغات تتقارب في عدد من المواضع له أهميته ومغزاه. ومن بين هذه المواضع أن جذور الأفعال فيها جميعا جذور ثلاثية تعطي الانطباع العام للمعنى، فإذا تخللت حروف هذا الجذر الثلاثي حروف "أو أشكال" تفيد الحركة الطويلة أو القصيرة، فإن المعنى يتحدد حسب نوع هذه الحروف المضافة. وعلى سبيل المثال، فإن حروف "ك ت ب" في العربية تفيد معنى الكتابة بوجه عام، فإذا بدأنا في تشكيلها "والشكل يؤدي دور الحركات القصيرة" أو إضافة حروف الحركة الطويلة إليها أو المزج بين الاثنين، فإن هذا المعنى العام يتحدد
باختلاف الشكل وحروف الحركة بحيث تصبح فعلًا في زمن معين أو اسمًا في تصريف معين مثل "كَتَبَ" التي تؤدي بمعنى فعل الكتابة في الزمن الماضي بالنسبة للغائب، و"كَاتِب" التي تؤدي معنى اسم الفاعل. و"كتاب" التي تؤدي معنى اسم المفعول في إحدى صيغه وهكذا. وقد وجد الباحثون أن هذه الصفة التي تتعلق بطريقة تركيب الكلمات، تشترك فيها مجموعة اللغات المشار إليها وتميزها عن غيرها من مجموعات اللغات الأخرى التي تظهر في كل منها طرق لتركيب الكلمات خاصة بها.
كذلك وجد الباحثون أن هذه اللغات التي نحن بصدد الحديث عنها تتشابه فيها "وتتطابق في بعض الأحيان" مجموعات من الألفاظ ذات مدلولات لا يمكن إغفالها أو تجاهل مغزاها. فمن بين هذه الألفاظ تلك التي تدل على الأعداد، والأعداد هي الأدوات الأولية والضرورية في تنظيم المعاملات بين الأفراد أو الجماعات، وتطابق أو تقارب الألفاظ الدالة عليها يشير إلى مجتمع واحد أو إلى مجتمعات شديدة التقارب، والشيء ذاته نجده في الألفاظ التي تؤدي معنى القرابة أو صلة الدم، وهذه تشير إلى تكوين الأسرة وهي خلية المجتمع الأولى التي تبدأ قبل أي تكوين اجتماعي آخر، كما نجده في الألفاظ الدالة على تنظيمات الدولة والعلاقات الاجتماعية والقصائد الدينية، وهذه كلها تتصل بالمجتمع في حدوده الواسعة2.
وقد أدت هذه الملاحظات اللغوية بأحد هؤلاء الباحثين، وهو العالم النمساوي أوجست لودفيج شلويستر august ludwig schloester إلى أن يعلن في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر "1781م" أن الشعوب التي تتحدث بهذه اللغات إنما تنحدر من أصل واحد، واعتمادا منه على ما جاء في الإصحاح
2 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت - بغداد، ط 2 ج 1 "1976"، ص 222 وحواشي 1 - 3.