الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما التحفظ الثاني فهو أننا حتى إذا افترضنا وجود موطن أصلي لمجموعة بشرية كانت تتحدث اللغة السامية الأم، فإن انتشار هذه اللغة في المناطق المحيطة بها ليس معناه أن الجماعات التي حملتها معها أصبحت وحدها تشكل الشعوب السامية، وإنما كل ما هناك أنها نشرتها بين أقوام أخرى كانت موجودة في هذه المناطق وانتهت إلى اتخاذ هذه اللغة لسانًا لها لسبب أو لآخر بعد أن طبعتها بالتراث المحلي لمجتمعاتها وباحتياجات هذه المجتمعات وشتى ظروفها الأخرى. ومن هنا فإن حديثي عن الموطن الأصلي المفترض للساميين والأدلة التي تشير إليه سيكون من منطلق انتشار اللغة وليس من منطلق وحدة العنصر.
والافتراضات التي ظهرت حتى الآن متعددة ومتداخلة في كثير من الأحيان، ولكنها تقوم على أساسين: أولهما هو التشابهات اللغوية التي تظهر بين بعض المناطق وما قد يدعم هذه التشابهات من ظروف تاريخية أو جغرافية تشير، تقريرا أو احتمالا، إلى تحركات أو معاملات أو تأثيرات بين الجماعات البشرية، وترجح أن تكون هذه التحركات أو المعاملات أو التأثيرات قد اتخذت طريقا دون الآخر. أما الأساس الثاني فهو ما قدمته التوراة من حديث عن أبناء نوح "سام وحام ويافث" وعن الأماكن التي حلوا بها.
افتراض اصل افريقي للساميين
…
ب- افتراض أصلي إفريقي للساميين:
وأحد هذه الافتراضات الأساسية يرى أصحابه أن إفريقيا هي موطن الساميين. وهؤلاء يقدمون بين أدلتهم صلات لغوية تربط بدرجات متفاوتة بين الأحباش والعرب والبربر. ويرى بعضهم، بناء على هذه الصلات اللغوية والاعتبارات التاريخية والجغرافية التي يفترضون أنها تدعمها، أن شمالي غرب إفريقيا هو الموطن الأصلي للساميين ومنها انحدروا إلى شبه جزيرة العرب، بينما يرى البعض الآخر أن إفريقيا الشرقية تمثل الأصل المشترك بين الساميين
والحاميين وأن مجموعات من هذا الموطن الأصلي قد عبرت إلى شبه الجزيرة العربية عن طريق شبه جزيرة سيناء ومنها هبطوا إلى العربية الصخرية، في القسم الشمالي الغربي من شبه جزيرة العرب ثم إلى بقية شبه الجزيرة، أو عبرت مضايق الطرف الجنوبي للبحر الأحمر عند باب المندب إلى شبه الجزيرة، وأصحاب هذا الرأي الأخير يدعمون رأيهم بوجود عبادة الإله "ألمقه" في كل من الحبشة ومنطقة سبأ في العربية الجنوبية الغربية، كما يدعمونه كذلك بوجود تشابه بين الخط المسند الذي عرفت الكتابة به في كل من هاتين المنطقتين ثم ينتهي أصحاب هذا الافتراض الإفريقي إلى أن المجموعات التي استقرت في شبه الجزيرة العربية قد أكسبهم مكان إقامتهم الجديد خصائص جديدة ولكن هذه لم تتمكن من القضاء على الخصائص القديمة المشتركة التي لا تزال تشير إليها صلة التقارب بين اللغات الحامية واللغات السامية9.
على أن هذا الافتراض الإفريقي للموطن الأصلي للساميين تعترضه بعض الصعوبات والاحتمالات التي قد تقلل من وقعه بعض الشيء. وعلى سبيل المثال فإن لغة البربر "على القسم الغربي من الساحل الإفريقي الشمالي" لا يمكن أن نؤكد أنها لغة محلية نقية، بل من المرجح أن يكون العكس هو الصحيح إذا أدخلنا في اعتبارنا أن قسما لا يستهان به من قبائل الوندال vandal الجرمانية التي أتت من أواسط أوروبا واخترقت حدود الإمبراطورية في الغرب لتستقر في شبه جزيرة أيبرية iberia "إسبانية والبرتغال في الوقت الحالي" بعد القرن الرابع الميلادي قد واصلت زحفها عبر المضيق "الذي عرف في العصر
9 george barton: المرجع ذاته، صفحات 6 وما بعدها. هذا ويقدم بارتون في دراسته هذه عرضًا لكل من سبقه من الكتاب في صدد النظريات التي تتصل بأصل الساميين. جواد علي: المرجع ذاته، صفحات 234 وما بعدها. ويقدم كذلك عرضا للنظريات المتعلقة بالموضوع ذاته. راجع كذلك:
philip k. hitti:history of the arab ط 7، "1961 london".
العربي باسم مضيق جبل طارق" ليستقر جزء منها في القسم الغربي من الشواطئ الإفريقية الشمالية. وقد كانت هذه القبائل التي عبرت إلى الشاطئ الإفريقي على قدر من العدد والقوة بحيث استطاعت أن تسقط الولاية الرومانية هناك وتقيم على أنقاضها مملكة خاصة بهذه القائل في 429م10. ومثل هذا الزخم الاستقراري الاستيطاني يفترض تعاملا كثيفا، إن لم يكن اندماجا مع السكان الأصليين للبلاد، بما يستتبعه هذا من التأثير على لغة هؤلاء السكان أو على الأقل تفاعلًا معها.
هذا عن القسم الشمالي الغربي لإفريقيا، أما فيما يخص شرقي أفريقيا الذي يشير إلى الحبشة كموطن أصلي للساميين، فحقيقة: إن الصلة بين الحبشة وجنوبي غربي الجزيرة العربية تشجعها سهولة العبور بين الجانبين عبر مضيق باب المندب. وحقيقة: إن الأحداث التاريخية تؤكد هذه الصلة فيما نراه من احتلال الأحباش لمنطقة اليمن عدة مرات ربما كان أكثفها ما حدث في القسم الأول من القرن السادس الميلادي، بل أكثر من هذا لقد أقام عدد من الأحباش في اليمن حتى في غير أوقات الاحتلال الحبشي، بل إن هناك احتمالًا كبيرًا أن الأحباش كانت لهم مستوطنات في المنطقة11، وهذا كله قد يشير إلى تأثير من جانب الحبشة على الجزيرة العربية على سبيل الترجيح طالما أن الحبشة هي الطرف القوي في هذا "الحوار" من الناحية العسكرية.
ولكن هذا الاتجاه مردود عليه، فإذا كان الغزو العسكري يحمل معه في بعض الأحيان تأثيرات الطرف الغازي، فإن هذا في حد ذاته لا يشكل في كثير من الأحوال قاعدة يمكن الاستناد إليها. ودليلنا على هذا أن الرومان
10 j.h.breasted: المرجع ذاته، صفحات 271-272.
11 maxime rodinson: mohammed "الترجمة الإنجليزية قامت بها anne carter - 1971 london" صفحات 30-31.
غزوا بلاد اليونان والمناطق المتأثرة بالحضارة اليونانية على امتداد القرون الأخيرة قبل الميلاد، ومع ذلك فإن الحضارة اليونانية هي التي غزت الرومان طوال هذه القرون وبعد هذه القرون غزوًا يكاد يكون كاملا، سواء من جانب العلم أو الأدب أو الفلسفة أو المسرح أو الفن في كافة صوره، بل إنه رغم احتفاظ الرومان بلغتهم اللاتينية وتطويرها إلى مستوى النثر الفني والكتابة الفكرية الراقية إلا أن اللغة اليونانية بقيت رغم ذلك لغة الثقافة الأولى التي لا يستغني أديب أو خطيب أو مفكر أو سياسي روماني عن دراستها والتعمق فيها. والشيء ذاته يقال عن الفترة التي بدأت فيها الإمبراطورية الرومانية تترنح تحت ضربات القبائل الجرمانية المتبربرة القادمة من الشمال. لقد استمرت هذه الضربات نحو قرن من الزمان انتهت بسقوط روما "410م" ثم بإزاحة آخر الأباطرة الرومان عن العرش الروماني "476م" وبقيام الممالك التي أسسها البرابرة قبل وبعد هذا التاريخ على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، ولكن مع ذلك فإن الحضارة الرومانية هي التي غزت هذه الممالك ثقافة وفنًّا وتأثيرًا، لغة ودينًا12.
ومن هنا فالاحتمال قائم، فيما يخص سبأ والحبشة، أن الخط المسند قد يكون تأثيرا سبئيا على الحبشة وليس العكس، وأن التأثير اللغوي قد سار في الطريق ذاته، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن التأثير الديني الذي يرمز إليه الإله "إلْمَقَهْ" الذي لا يوجد من الأدلة القاطعة ما يثبت أنه كان بالضرورة حبشيا. كذلك فمن الأمور الواردة، إن لم يكن من الأمور المرجحة، أن يكون الأثر الذي تركته الديانتان اليهودية والمسيحية قد قرب ثقافة الحبشة من
12 عن التأثير الحضاري اليوناني على الإمبراطورية الرومانية راجع: m.cary &t.haarhoff: life and thought: in the greek"london 1961" and roman world. عن التأثير الروماني على البرابرة راجع breasted: المرجع ذاته، صفحات 769 وما بعدها.