الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول: المنطقة والشعب والأرض
الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب
إبعاد منطقة نشوء الحضارات
تحديد المنطقة
…
الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب
1-
أبعاد منطقة نشوء الحضارات:
أ- تحديد المنطقة:
الحديث عن الحضارات القديمة لا يزال يشكل مجالًا خصبًا لكثير من المناقشات وكثير من التكهنات، سواء من حيث المناطق التي ظهرت فيها هذه الحضارات، أو من حيث توقيت ظهورها ومن ثَمَّ السبق الزمني لكل منها، فالكتابات التاريخية القديمة التي حاول أصحابها أن يقوموا بالتعريف بهذه الحضارات بشكل جدي لم تظهر إلا في فترة متأخرة من العصور القديمة، ومن ثم فإن القدر الأكبر من تاريخ هذه الحضارات لم يعاصره المؤرخون القدماء، وكانت سبيلهم الوحيدة إلى التعرف إليه هي ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من أخبار المجتمعات القديمة عن طريق الرواية أو عن طريق المعلومات المتناثرة التي كانت تتأرجح بشكل غير محدد بين الحقيقة والمبالغة والأسطورة. كذلك لم تكن كتابة التاريخ تمارس آنذاك على أساس علمي كما هو الحال في الوقت الحاضر، ومن ثم فإن المؤرخ القديم لم يكن في مقدوره دائمًا أن يقوم بتحقيق المعلومات التي يجمعها، بل إنه في أغلب الأحوال لم يكن يرى من الضروري أساسًا أن يقوم بمثل هذا التحقيق ليميز بين ما هو حقيقي وما هو
غير حقيقي. هذا إلى أن هؤلاء المؤرخين القدماء لم يتناولوا في كتاباتهم إلا أماكن أو مناطق محدودة، هي التي أثارت انتباههم لسبب أو لآخر، أو هي التي استطاعوا أن يصلوا إليها أو يسمعوا عنها؛ ومن هنا فإن هذه الكتابات، حتى إذا تغاضينا عما جاء فيها من عيوب في جمع المعلومات أو تدوينها، لا يمكن أن ننظر إليها على أنها حصر لكافة الحضارات التي ظهرت في العصور القديمة أو لترتيبها الزمني.
فإذا انتقلنا إلى علم الآثار الذي يعني بالتنقيب عن المخلفات القديمة وكشفها وتفسير مدلولاتها، نجد أن هذا العلم لم يبدأ إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا لا تزيد في عمومها على قرن ونصف القرن. وفي هذا المجال فإننا إذا تغاضينا عن مجهودات الهواة أو المجهودات الاستطلاعية الفردية أو شبه الفردية، فإننا نجد أن التنقيبات الأثرية التي قامت على أساس منظم ومنتظم تدعمه الإمكانات العلمية والمادية لم يبدأ في مصر، على سبيل المثال، إلا في أواسط القرن الماضي، ولم يبدأ في العراق إلا في أواخره، ولم يبدأ في شبه الجزيرة العربية إلا في أواسط القرن الحالي، وهكذا نجد أنفسنا -مرة أخرى- بعيدين عن ادعاء المعرفة اليقينية بكل الحضارات السالفة أو بالتوقيت الدقيق لظهور ما نعرفه من بينها. وما أكثر ما يؤدي كشف أثري في منطقة أو في أخرى إلى تعديل في تواريخ ظهور الحضارات القديمة قد يصل إلى عدة قرون، أو إلى تسبيق ظهور حضارة على حضارة يؤدي إلى تعديل جذري في ترتيب كان معترفًا به، بكل ما يستتبعه هذا من تغيير في الأبعاد الحضارية من حيث التأثر والتأثير والتأصيل والتفصيل في الجوانب المتعددة التي تتشكل من مجموعها ومن تداخلاتها وتفاعلاتها هذه الحضارات.
ومن هنا فمن المرجح، أو على الأقل من المحتمل، أن هناك حضارات أخرى وجدت في فترة أو أخرى من العصور القديمة، غير تلك الحضارات التي وصل إلينا العلم بها، ولكنها لم تكشف إلا في حدود ضيقة أو لم تكشف
إطلاقًا حتى الآن، وربما كانت هذه الحضارات التي نجهلها أو نجهل أغلب مراحل تطورها، محلية في طبيعتها، وربما أثرت في الحضارات التي نعرف عنها ما يمكننا من تتبع تطورها وتسجيل صورة عامة أو متكاملة لها. ومن بين المناطق التي تدخل ضمن هذا الإطار، على سبيل المثال، المنطقة الممتدة في أواسط القارة الآسيوية التي شهدت منذ فترة موغلة في القدم قبل بداية التاريخ المعروف حتى الآن إنجازات حضارية في مجال زراعة الحبوب وتدجين الحيوانات واستخدام المعادن وزخرفة الأواني الفخارية، وهي منطقة آناو ANaU في جنوبي تركستان، التي كشف العالم الأثري بمبللي PUMPeLLI في 1907 عن مخلفات أثرية تثبت وجود هذه الإنجازات بها منذ بدايات الألف الخامسة ق. م. على أقل تقدير. وهي إنجازات تشير إلى أن بدايات التطور الحضاري الذي وصل بها إلى هذه المرحلة الحضارية يرجع إلى تاريخ أقدم من هذا بكثير1، ولكن هذه المنطقة شهدت تغيرًا مناخيًّا بدأ فيه الجفاف يزحف عليها بعد أن كانت منطقة أمطار غزيرة تكفي للزراعة والرعي والاستقرار، وعلى أثر هذا الجفاف بدأت الهجرة منها إلى كل الجهات تقريبا، ومن ثم بدأ اختفاء المظاهر الحضارية فيها. ومن بين ما يذكر ضمن هذا الإطار كذلك شذرات عن حضارة قارة أطلانطيس ATLaNTIS التي يتلمس الباحثون شيئًا عن وجودها في حقبة من حقب الماضي السحيق قبل أن تهبط، في حدود الافتراض العلمي السائد الآن، لتستقر في قاع المحيط الأطلسي من شمالي هذا المحيط إلى جنوبيه2، نتيجة لتحركات جيولوجية، وغير هذه الأحاديث أحاديث
1 "CaMbRIDGe ANCIeNT HISTORY "C A H ط 3 ج1، القسم الأول "1970" صفحات 169، 253، 298-303، 460-461. وقد وجدت مخلفات أثرية في بعض مناطق إيران قريبة في أوصافها من تلك التي وجدت في آناو لدرجة توحي بصلات حضارية بين المنطقتين في فجر الحضارة "حوالي 4000ق. م.". قارن المرجع ذاته: صفحات 294، 298، 299.
2 أول إشارة وردت في هذا الصدد نجدها عند أفلاطون "حوالي 429-347 ق. م." في محاورات: Timaeos 25 ، KritiaS 113 وتدور حول حضارة قديمة ظهرت في جزيرة تخيلها أفلاطون "أو بالأحرى سمع بها من الأساطير المتواترة في عصره" قرب الشواطئ الغربية لأوروبة وأفريقية ثم هبطت في قاع المحيط.
أخرى يرد بعضها، نتيجة لروايات متواترة أو لبقايا أثرية لا تزال قائمة، عن دول وحضارات قديمة سادت في مجموعة جزر بولينيزية بالمحيط الهادي، ثم بادت في وقت من الأوقات3.
وفي ضوء هذه الاعتبارات السابقة فإن أي تحديد للمنطقة التي نشأت فيها أولى الحضارات القديمة لا يمكن، بالضرورة إلا أن يكون تحديدا نسبيا. ومن منطلق هذا التحديد النسبي لنا أن نفترض أن منطقة نشوء الحضارات هي تلك المنطقة التي ظهرت فيها حتى الآن أقدم الحضارات التي عرفنا عنها شيئا متكاملا أو قريبا من التكامل من جهة، والتي كان لها، من جهة أخرى، حتى بعد أن اضمحلت وسقطت، تأثير مستمر على الحضارات التالية لها لتترك بذلك طابعها، بشكل مباشر أو غير مباشر، على المسيرة الحضارية التي تعيش الآن أحدث مراحلها.
وفي حدود هذا الإطار فإن مجموعة الحضارات القديمة المتكاملة والمؤثرة بالشكل الذي ذكرته تقع ضمن منطقة حدودها الجغرافية هي خطوط الطول من 10 إلى 70 شرقًا، وخطوط العرض من 10 إلى 45 شمالًا، وتشمل من
3 الظواهر الموجودة في بعض هذه الجزر، مثل التماثيل البالغة الضخامة في "جزيرة الفصح" Easter Island، وعدد من القصص الشعبية التي تواترت عن طريق الرواية لتصف عهدًا كان فيه محاربون من الأبطال وأمم قوية في جزيرتي "ساموا" samoa و"تاهيتي" Tahiti والمقدرة الفنية والحساسية الشعرية عند السكان الحاليين لهذه الجزر، كلها توحي بأننا لسنا بصدد حضارة جديدة في طريق الصعود بقدر ما نحن بصدد حضارة قديمة كانت موجودة ثم اندثرت: راجع:
will Durant: the story of Civilization ج1، ط22 "1954 New york"، ص 187.