المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ طرق التجارة البرية: - العرب في العصور القديمة

[لطفي عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تقديم الطبعة الثانية

- ‌تقديم الطبعة الأولى

- ‌المحتوى

- ‌القسم الأول: المنطقة والشعب والأرض

- ‌الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب

- ‌إبعاد منطقة نشوء الحضارات

- ‌تحديد المنطقة

- ‌ المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة:

- ‌ المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى:

- ‌أسباب نشأة الحضارات الاولى في هذه المنطقة

- ‌مدخل

- ‌ ظرف المناخ:

- ‌ ظرف المواصلات السهلة:

- ‌ الحدود شبه المانعة للمنطقة:

- ‌شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات

- ‌حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب

- ‌ مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام:

- ‌الباب الثاني: الساميون وشبه الجزيرة والعرب

- ‌قضية الساميين أو الشعوب السامية

- ‌مدخل

- ‌ افتراض لوجود عنصر سامي:

- ‌ رد على هذا الافتراض:

- ‌قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب

- ‌ملاحظات مبدئية

- ‌افتراض اصل افريقي للساميين

- ‌ افتراضات أصل آسيوي للساميين:

- ‌ حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب:

- ‌الساميون والعرب

- ‌مدخل

- ‌ ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين:

- ‌ تصور مطروح حول هذه الفكرة:

- ‌ العرب وفكرة الأصل السامي:

- ‌الباب الثالث: شبه جزيرة العرب: الملامح العامة

- ‌ الموقع والسطح والأقسام الطبيعية:

- ‌ المناخ:

- ‌ النبات والحيوان:

- ‌القسم الثاني: المصادر

- ‌الباب الرابع: الاثار والنقوش

- ‌مدخل

- ‌ قيمة الآثار والنقوش في التاريخ لشبه الجزيرة:

- ‌امثلة من المخلفات الأثرية

- ‌مدخل

- ‌ الآثار المعمارية:

- ‌ النحت والمخربشات:

- ‌ الفخار والعملة:

- ‌النقوش

- ‌نقوش عن الاحوال الداخلية لشبه الجزيرة

- ‌ نقوش عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة:

- ‌ تقويم عام للنقوش:

- ‌الباب الخامس: المصادر الدينية

- ‌مدخل

- ‌القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌ أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن:

- ‌ أمثلة عن الحياة الدينية في شبه الجزيرة:

- ‌ مثال لتكوين المجتمع في شبه الجزيرة:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ التوراة والتلمود:

- ‌الباب السادس: المصادر الكتابية

- ‌مدخل

- ‌الكتاب الكلاسيكيون

- ‌كتاب المرحلة المبكرة

- ‌ كتاب العصر المتأغرق:

- ‌ كتاب العصر الروماني:

- ‌ كتاب العصر الإمبراطوري الروماني المتأخر:

- ‌الكتابات العربية في العصر الاسلامي

- ‌صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات

- ‌ استثناءات ممكنة من هذا التعميم:

- ‌الباب السابع: الشعر الجاهلي

- ‌ الشعر كمصدر تاريخي:

- ‌ اعتراضات على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي:

- ‌ ردود على هذه الاعتراضات:

- ‌ حول مجالات الشعر الجاهلي:

- ‌القسم الثالث: المجتمع

- ‌الباب الثامن: الوضع الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌الرعي

- ‌الرعي والرعاة

- ‌ الموارد المكملة لحياة الرعاة:

- ‌الزراعة والمحاصيل الطبيعية

- ‌المورد الزراعي

- ‌ المحاصيل الطبيعية:

- ‌التجارة

- ‌مدخل

- ‌ أهمية هذا المورد ومظاهر ذلك:

- ‌ طرق التجارة البرية:

- ‌ النشاط التجاري البحري:

- ‌ التعدين والصناعة:

- ‌الباب التاسع: الأوضاع الداخلية

- ‌مدخل

- ‌الوضع السياسي

- ‌مدخل

- ‌ التكوينات السياسية:

- ‌ نظام الحكم:

- ‌الوضع الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌ عوامل التماسك:

- ‌ عوامل الانقسام:

- ‌الوضع الديني

- ‌مدخل

- ‌ تطور العقائد الدينية وانتشارها:

- ‌ الظروف المحيطة بالحياة الدينية:

- ‌الباب: العاشر: العلاقات الخارجية

- ‌المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية

- ‌بدايات غير محددة

- ‌ العلاقات مع العبرانيين:

- ‌ العلاقات مع القوى الشرقية:

- ‌المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية

- ‌الاسكندر الأكبر والدول المتأغرقة

- ‌ العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية:

- ‌المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب

- ‌مدخل

- ‌ الإمارات العربية الحدّية:

- ‌ الدين والسياسة في الصراع الدولي:

- ‌الملاحق

- ‌اللوحات

- ‌ الخرائط:

- ‌مختارات من‌‌ المصادروالمراجع

- ‌ المصادر

- ‌ المراجع

الفصل: ‌ طرق التجارة البرية:

ب-‌

‌ طرق التجارة البرية:

ومن خلال هذه التفاصيل ومن عدد من النقوش والمصادر الأخرى نستطيع أن نميز عدة اتجاهات رئيسة للطرق البرية. والاتجاه الأول كانت تتبعه طريق موازية تقريبا للبحر الأحمر من أقصى جنوب شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية وشواطئها في الشمال. هذه الطريق كانت تبدأ من مناطق قتبان في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة وحضرموت الواقعة إلى شرقيها وسبأ المتاخمة لهما من ناحية الشمال. ويبدو أن اتفاقًا ما كان قائما في أواسط القرن الثاني الميلادي "وربما كان قائما قبل ذلك التاريخ، وربما استمر قائما بعده" بين اثنتين من هذه المناطق الثلاث على الأقل، وهما سبأ وقتبان، تتجمع بمقتضاه أحمال الطيوب في تمنع "thomna عند الكاتب الموسوعي الروماني بلينيوس plinius" عاصمة قتبان، ولعل التضاريس الجغرافية هي التي قضت بهذا الاتفاق، ومن تمنع تبدأ طريق القوافل الرئيسة نحو الشمال مخترقة الحدود الشمالية لمنطقة سبأ لتتخذ بعد ذلك شكل ممر طويل ضيق يقع في أرض المعينيين ثم تصل بعد ذلك إلى مكة التي نراها قبل ظهور الإسلام مركزا تجاريا نشطا يعقد الصفقات ويبرم الاتفاقات سواء منها الداخلية أو التي تتم مع الدول المتاخمة لشبه الجزيرة، ثم تستمر الطريق شمالًا إلى ديدان "العلا الحالية" ثم إلى مدين "مغاور شعيب حاليا" حيث لا تزال الآثار التي تنم عن ثروة هاتين المدينتين تشير إلى الثروة التجارية التي كانتا تتمتعان بها ثم إلى أيلة -العقبة حاليا- ثم بعد ذلك إلى البتراء "petra عند الكتاب الكلاسيكيين" عاصمة الأنباط، ثم تتفرع الطريق هنا إلى فرعين أحدهما إلى تدمر "palmyra عند الكتاب الكلاسيكيين" في الشمال والآخر يتجه إلى الغرب مع ميل طفيف إلى الشمال الغربي حتى يصل إلى غزة ورينوكولورا rhinokoloura على الشاطئ الفلسطيني. هذا وقد زيد على هذين الفرعين فرع ثالث في عهد الإمبراطور تراجان "ترايانوس trajanus" يصل بين أيلة -العقبة- وتدمر

ص: 314

ثم شقّه في 110-111 مارًّا بالبتراء وآريوبوليس areopolis "ربة عمون" وفيلادلفيا philadelphia "عمان" وبصرى bostra ومنتهيا إلى تدمر32.

هذه هي الطريق البرية الطولية التي كانت تصل بين جنوبي شبه الجزيرة العربية وشماليها، اتجاها إلى المنطقة السورية. ويذكر لنا أراتوسثنيس الجغرافي اليوناني "275-194ق. م" أن القوافل التجارية كانت تقطع الجزء الواقع من هذه الطريق بين جنوبي شبه الجزيرة وأيله -العقبة- في الشمال في 70 يومًا33، كما يذكر بلينيوس "23 /24 -75م" أن رحلة القوافل من تمنع "عاصمة قتبان" إلى غزة كانت مقسمة إلى 65 شوطا "تمثل بالضرورة 65 يوما" في كل شوط منها مواقف للجمال، وأن أصحاب القوافل كان عليهم أن يدفعوا في كل شوط من هذه الأشواط ثمن الحصول على الماء أو الحشائش والعلف للجمال أو أجر النزل الخاصة بالمبيت أو رسومًا لقاء السماح بالمرور أو الحماية وهكذا34.

32 الطريق التجارية بين حضرموت وقتبان إلى أيلة -العقبة- يذكره أراتوسثنيس، منقول في strabo: XVI، 4:4. بين سبأ وسورية يذكره أرتميدوروس، منقول في strabo: XVI،4: 19. الطريق من تمنع إلى عزة في plinius: xii، 64. اتفاق مرور تجارة سبأ من تمنع في plinius: XII 64. احتكار مرور القرفة من تمنع، ذاته: XXI، 93. المرور في أرض المعينيين، ذاته: XII، 54. المرور بمكة، سورة قريش: 1-2 والمعاهدات المشار إليها في الحاشية السابقة. عن المرور في العلا "ديدان" راجع:

rene dussaud: La penetration des arbes en syrie avant l'lslam "paris 1955 ص 48. عن الطريق بين البتراء وغزة راجع: plinius: VI،145. عن طريق البتراء ودمشق راجع dussaud: ذاته، ص 24. عن الفرع بين أيلة -العقبة- وتدمر راجع dussaud: ذاته، ص24 وصفحات 154-155.

33 منقول في strabo: XVI، 4:4.

34 plinius: XII، 65.

ص: 315

ونحن نجد، إلى جانب هذا التعميم، مثالًا محددًا لما كان يحدث في تمنع في بداية الطريق، حيث كان ملك قتبان يجبي ضريبة على كل الطيوب المارة بمنطقته، كما كانت حصص من الطيوب تعطى لرجال الدين ولأمناء الملك وحرس حاشيته وخدمه ولحراس البوابات مما كان يرتفع كثيرا بثمن هذه الطيوب قبل أن تصل إلى نهاية طريقها على شواطئ المتوسط35. أما الطريق بين أيلة وتدمر، وهي الطريق التي شقت في عهد الإمبراطور تراجان فقد لقيت عناية مستمرة من جانب الولاة الرومان الذين أقاموا عليها مراكز شرطة للحراسة عند محاطِّ القوافل التجارية التي كانت تمر بها، أقاموا عددا آخر من هذه المراكز على امتداد هذه الطريق في الطريق الرئيسة جنوبا حتى الحدود التي كانت تفصل بين سورية والحجاز، أي: إلى منطقة ديدان -العلا حاليا- وإجرا "الحجر في القرآن الكريم والوجه حاليا"36.

أما عن الطرق التي كانت تخترق شبه الجزيرة عرضًا فقد عرفت المنطقة أربعًا منها على الأقل في العصور السابقة للإسلام. وأولى هذه الطرق جنوبا يشير إليها إراتوسثنيس "أراتسطين" الجغرافي حين يذكر أن طريقا كانت تمتد من المناطق المنتجة للمر في الغرب، متخذة اتجاها شرقيا بطول الساحل المتعرج لشبه الجزيرة حتى تصل إلى المنطقة المنتجة للقرفة بعد 5000 ستاديون -حوالي 600 ميل- ولكن يبدو أن هذه الطريق لم تكن توصل إلى ميناء على شاطئ المحيط الهندي أو الخليج الفارسي -الخليج العربي الآن- إذ يذكر لنا هذا الكاتب أن أحدا لم يكن قد وصل بعد في عصره "275-194ق. م." إلى أبعد من منطقة القرفة التي يتحدث عنها، كما يزيد على ذلك أنه لا توجد مدن كثيرة على الشاطئ بينما يوجد في الداخل عدد من المدن الجميلة وهي

35 الكاتب ذاته: الموضع ذاته.

36 DUSSAUD: المرجع ذاته ص55.

ص: 316

إشارة لنا أن نستنتج منها عدم وجود موانئ على الشاطئ37. وهكذا يبدو لنا أن نعتبر أن هذه الطريق كانت مهمتها الأساسية، وربما الوحيدة، أن تتبعها قوافل القرفة "سواء أكانت هذه القوافل لتجار من منطقة القرفة، أم لتجار أتوا إليها من الغرب وعادوا بأحمال القرفة" متجهة نحو الغرب حتى تتجمع في تمنع "عاصمة قتبان" عند بداية خط القوافل المتجهة شمالًا. وهو استنتاج يؤيده ما يذكره لنا الكاتب الموسوعي بلينيوس الذي نعرف منه أن ملك قتبان كان الوحيد الذي يتحكم في تجارة القرفة38.

والطريق الثانية تنطلق كذلك من القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة، متخذة اتجاها شماليا إلى جرهاء GERRHA وهي مدينة من المرجح أن موقعها كان على مقربة من ميناء العقير الحالية "شمال شرقي الهفوف" في وسط ساحل شبه الجزيرة المطلّ على الخليج. ويبدو أن نشاط هذا الخط التجاري كان مكثفًا إلى حد كبير، فجرهاء كانت إحدى المنطقتين التي أفاض الكتاب الكلاسيكيون في وصف سكانهما بالثراء الذي يصل إلى حد البذخ، كما يبدو أن هذا النشاط التجاري يرجع إلى فترات زمنية موغلة في القدم، كما تدل على ذلك آثار الأماكن القريبة منها في الدوسرية وجزيرة تاروت وأبقيق وكلها تشير إلى علاقة حضارية قوية مع حضارة عصر العُبيد -بضم العين- التي سادت وادي الرافدين في أواسط الألف الرابعة ق. م. أما عن نشاط هذه الطريق في العصر المتأغرق "عصر ما بعد الإسكندر الأكبر خلال القرون الثلاثة الأخيرة ق. م."، فتدل عليه، إلى جانب ما ذكره الكتاب الكلاسيكيون، الآثار التي وجدت في منطقة الفاو بوادي الدواسر في منطقة نجد والتي ترجع إلى حوالي 300 ق. م. وهي منطقة يشير موقعها أنها كانت إحدى المحطات

37 منقول في strabo: XVI، 4:4.

38 plinIus: XII، 93.

ص: 317

على الطريق التي نحن بصدد الحديث عنها. وقد سبق أن رأينا من بين ما عثر عليه من آثار هذا الموقع سوقًا تجارية كاملة تضم مخازن تجارية وطرقًا ونزلًا لمبيت التجار، كذلك تدل بعض هذه الآثار، ومنها مقابض أبواب من البرونز على شكل رأس أسد، على قدر من الثراء والترف يصلح مؤشرا إلى مدى النشاط الاقتصادي على هذه الطريق التجارية التي كانت تحمل طيوب العربية الجنوبية إلى وادي الرافدين. هذا وحين كانت أحمال الطيوب تصل إلى جرهاء كانت تنقل بعد ذلك إلى وادي الرافدين إما برا، وإما في قوارب تبحر في الخليج حتى تصل إلى نهر الفرات ومن هناك تستأنف رحلتها البرية إلى حيثما توجد أسواق المنطقة39.

الطريق البرية الثالثة التي تخترق شبه الجزيرة عرضا تبدأ من مكة وتنتهي إلى وادي الرافدين. ودليلنا التاريخي على ذلك هو إبرام القرشيين لاتفاق مع الإمبراطور الفارسي كما أشرت في مناسبة سابقة، وهو اتفاق كان هدفه تأمين تجارة القرشيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفرس، ومن ثم يشير إلى وجود مثل هذه الطريق. وفي الواقع فإن هناك آثارًا لا تزال باقية حتى

39 عن الطريق من سبأ إلى وادي الرافدين MESOPOTAMIA وربط جرهاء كنقطة الانطلاق الرئيسة إلى وادي الرافدين، أرتميدوروس، منقول في 19: strabo: XVI، 4: 19، كذلك سترابون XVI، 3: 3 عن ثروة الجرهائيين وبذخهم، أرتميدوروس: الموضع ذاته المنقول في سترابون. تحديد موقع جرهاء قرب ميناء العقير وصلت إليه البعثة الدانماركية التي قامت بحفائر في منطقة الأحساء والقطيف في عام 1968. عن هذا وعن الآثار التي تدل على قدم المدينة راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة، راجع كذلك: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية "إدارة الآثار والمتاحف، وزارة المعارف، المملكة العربية السعودية، 1975" صفحات 37-38، واللوحات الموجودة في صفحات 43-45، 52. راجع كذلك ملحق اللوحات في هذه الدراسة، لوحات 7أ، 14أ. عن السوق التجارية في مدينة الفاو راجع الفصل الرابع في هذه الدراسة، كذلك مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية ص 18 واللوحات على صفحتي 20 و21، كذلك ملحق اللوحات في هذه الدراسة.

ص: 318

الآن لطريق بين مكة ووادي الرافدين. وعند حائل في وسط المسافة تقريبا تتفرع الطريق إلى فرعين في هذا الاتجاه، أحدهما يصل إلى مصب الفرات مارًّا بموقع "بُرَيْدة" والآخر يصل إلى بابل مارًّا بعدد من المواقع أو بقربها مثل "السِّفن"، و"فيد". وقد أصبح هذا الفرع الأخير طريقًا رئيسة للحج والتجارة في العصر الإسلامي تحت اسم "درب زبيدة""الذي كان يصل إلى المتحف بجوار بابل"، ولكن يبدو مؤكدا أنه كان موجودا ومستخدما قبل ظهور الإسلام، ففي "فيد" توجد آثار يطلق عليها الآن اسم "خرائب قصر جراش" يعتقد أنها تشكل موقع مدينة كانت قائمة في عصر ما قبل الإسلام. وأما السفن -بكسر وتشديد السين- فهي تقع في وادٍ صغير "في سفح جبل أجا إلى الشمال الشرقي من حائل" وقد اكتشفت بها آثار أحواض وقنوات مائية قديمة كانت تستخدم لتصريف مياه الوادي وسقي المزارع، ويستدل من النقوش الموجودة على جبل أجا -الذي تقع عند سفحه- على أن الموقع يعود تاريخه إلى القرن الخامس ق. م. ومثل هذا الوادي بمزارعه وأحواضه وقنواته دليل استقرار يشير إلى أنه موقع صالح لأن يكون محطًّا من محاطِّ طرق القوافل في العصر القديم40.

ويبدو أن طريق مكة، وادي الرافدين لم تكن طريقًا قديمة لها من الشهرة ما كان للطرق الأخرى التي اهتم بها رواد المنطقة أو الذين كتبوا عنها من الجغرافيين والكتاب الكلاسيكيين الأوائل، فنحن لا نسمع عنها حتى عهد بلينيوس الذي كتب في أواسط القرن الأول الميلادي بينما نسمع عن الطريق الجنوبية الشمالية الموصلة بين قتبان وسبأ وحضرموت من جهة وأيلة وغزة من جهة أخرى، وعن الطريق الموصلة بين هذه المناطق وجرهاء. ولكنا نبدأ في التعرف عليها في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي حين نراها

40 مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، ص65.

ص: 319

على خريطة الجغرافي اليوناني بطلميوس كلاوديوس "كتب بين 121، 151م، وهو الذي عرفه الكتاب المسلمون فيما بعد باسم القلوذي أو الجغرافي"، وهي تظهر في خريطته تحت اسم مكارابو makarabu. ونحن إذا تأملنا الاسم نجد أن طريقة نطقه ونهايته لها مسحة أكدية واضحة41 "واللغة الأكدية تطلق على اللهجتين الساميتين: البابلية والآشورية. وهذا يشير إلى حقيقة ظاهرة هي الاتصال القوي بين مكة وبين وادي الرافدين عن طريق القوافل التجارية بحيث أصبح الشكل الأكدي لاسم مكة هو الشكل السائد الذي تعرف به عند الشعوب الأخرى والكتاب الذين ينتمون إلى هذه الشعوب مثل بطلميوس الجغرافي، وهو يوناني من مصر. كذلك نستطيع أن نستنتج من ورود اسم مكة في خريطة هذا الجغرافي مع عدم ورودها في الكتابات الجغرافية أو الموسوعية أو النصوص السابقة أن أهميتها قبل عهد بطلميوس الجغرافي كانت محلية ومحدودة، وأنها لم تبدأ تظهر على أي مستوى له قيمته في مجال التجارة الدولية إلا في الوقت الذي كتب فيه هذا الجغرافي أو قبل ذلك بقليل، ربما في أواخر القرن الأول الميلادي "الذي كتب بلينيوس في وسطه ولم يذكرها، على كثرة ما ذكر من أماكن ومناطق في وصفه لشبه الجزيرة العربية وعلى حرصه على ذلك".

أما الطريق العرضية الرابعة، فكانت تتفرع من الطريق الطولية الجنوبية الشمالية بعد مسافة شمالي يثرب "iatribu في النصوص الأكَّدية والمدينة المنورة منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها" في اتجاه شمالي شرقي مارة بعدد من الأماكن أهمها تيماء "tema

41 راجع خريطة بطلميوس الجغرافي، رقم 4 في ملحق الخرائط بهذه الدراسة. عن المسحة الأكدية لاسم مكة كما ورد عند بطلميوس قارن على سبيل المثال أسماء المدن ياتريبو "يثرب"، ياداكو "فدك" دادانو "ددان"، وقد وردت في:

c.g. gadd: the harran inscription of nabonidus "anatolianstudies" الجزء الثامن، 1958، صفحات 35 وما بعدها.

ص: 320

في النصوص الأكدية" ثم دومة الجندل "adumatu في النصوص الأكدية، والجوف حاليا" ثم تنتهي إلى وادي الرافدين عند بابل على نهر الفرات. وهذه الطريق من الطرق التجارية المهمة القديمة، فنحن نجد الإشارة إلى تيماء في أكثر من نص من النصوص الأكدية أولها يرجع إلى عهد تجلات بيليسر الثالث "727-744 ق. م" فنجده يستولي عليها في حملة شنها على سورية بعد العام التاسع من حكمه، ثم تظهر في نص آخر غير محدد التاريخ ولكنه يعود إلى حكم الملك ذاته. ثم يتواتر ذكرها عدة مرات في عهد الملك البابلي نابونائيد "555-539 ق. م" الذي يقيم بها نحو عشر سنوات من سني حكمه. والمدينة تقع ضمن واحة كانت على قدر كبير من الازدهار في العصور القديمة، نعرف ذلك من أحد النقوش المتعلقة بالملك نابونائيد الذي يشير إلى المدينة وإلى الريف المحيط بها، وهو ريف يبدو أنه كان غنيًّا ببساتين النخيل التي ظلت سمة هذه الواحة عبر القرون إلى أن نجد إشارة واضحة إليها في شعر امرئ القيس في القرن السادس الميلادي بعد 12 قرنًا من عهد الملك نابونائيد "ولا يزال في الواقع حتى الآن، كما يستطيع الزائر للمنطقة أن يراه وبخاصة حول بئر الهداج التي يحتمل أن يعود تاريخ بنائها إلى القرن الثالث ق. م" كذلك يشير النص إلى قصر اتخذه نابونائيد بتيماء وإلى حامية عسكرية من جنوده اتخذت مراكز هناك لحماية المدينة. وفي الواقع فإن الآثار المتبقية حتى الآن من هذه المدينة تشير بشكل واضح إلى أهميتها التي كانت ذات طابع اقتصادي في المقام الأول. فلا يزال هناك جزء من سورها الضخم يرجع إلى حوالي القرن الخامس ق. م. وبقايا من قصر الرضم الذي يرجع إلى القرن الثالث ق. م. والذي شيدت دعامات سوره من الحجر المصقول، كما لا تزال هناك بعض قواعد الأعمدة التي كانت تشكل جزءًا من قصر السموأل بن عادياء "القرن السادس الميلادي" المسمى بقصر الأبلق والذي نجد إشارة إليه في أكثر من

ص: 321

موضع من شعر الأعشى الكبير الذي عاصر نهاية العصر الجاهلي وبداية العصر الإسلامي42.

أما عن دومة الجندل فهي لا تقل في قدمها وأهميتها عن تيماء فقد ورد ذكرها في نص أكدي كإحدى المدن التي استولى عليها سنخريب الملك الآشوري "704-681". كذلك كانت هذه المنطقة -ولا تزال- واحة تجعل منها محطًّا تجاريًّا من الطراز الأول، يزيد من أهميته وقوعه في نقطة الوسط على الطريق بين وادي الرافدين والخط التجاري الطولي الذي يمتد بإزاء الشاطئ الغربي لشبه الجزيرة. ونحن نستطيع أن نعرف شيئًا عن الأهمية التجارية لهذه المدينة باستقراء الآثار التي لا تزال باقية بها حتى الآن، ومن بين هذه قصر مارد أو قصر الأكيدر الذي يرجع بناؤه إلى القرن الثالث ق. م. كما نستنتج من دراسة هذا الأثر أن فترات بناء متعددة قد تعاقبت عليه بعد ذلك، مما يدل على أهمية موقعه. وإلى جانب هذا فقد عثر في الموقع على عدد من النقوش المتباينة في لهجاتها، بين معينية وثمودية ولحيانية ونبطية43، وهي ظاهرة تدل على قوافل تجارية لأقوام متعددة كانت تمر بهذه المنطقة.

42 النصان عن تيماء في عهد تجلات بيليسر في ANET، صفحات 283-284، في عهد نابونائيد النصوص في anet، صفحات 306، 313. وصفها كمكان كان مليئًا بالنخيل في شعر امرئ القيس، البيت الأول في حاشية 13 أعلاه. بئر الهداج ونخيل تيماء حاليا في مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، لوحة ص20، سور تيماء ملحق اللوحات في هذه الدراسة، لوحة 3ب، بقايا قصر الرضم وقصر الأبلق في نهاية ملحق اللوحات. الإشارات إلى قصر الأبلق في شعر الأعشى في شيخو والبستاني: ذاته، قصيدة قصة السموأل، بيت7:

بالأبلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير غدار

وكذلك في المجموعة ذاتها، قصيدة "مدح المحلق":

ولا عاديا لم يمنع الموت ماله

وحصن بتيماء اليهودي أبلق

43 دومة الجندل في نص سنخريب تحت تسمية adumatu في anet ص291، عن قصر الأكيدر راجع: مقدمة آثار السعودية، ص65، ولوحة على ص80، عن النقوش المتعددة اللهجات، ذاته: ص65.

ص: 322

وتبقى في نهاية الحديث عن الطرق البرية العرضية طريق خامسة، هي الطريق التي تقع إلى أقصى الشمال في شبه الجزيرة العربية. وقد كانت هذه الطريق تشكل في الواقع امتدادًا صحراويًّا لطريق تجارية تبدأ من الرمادي "على نهر الفرات إلى شمالي غربي بغداد" وتسير بمحاذاة النهر حتى ماري mari "قرب أبو كمال الحالية على القسم الشمالي من نهر الفرات من ناحية الصحراء" ثم تمتد غربا إلى تدمر، ومن تدمر تمتد غربا بميل طفيف إلى الشمال الغربي إلى حمص، ومن هناك تتفرع إلى عدة فروع تصل بين حمص من جهة والموانئ الفينيقية ودمشق وفلسطين من الناحية الأخرى. وفي الواقع فإن هذه الطريق كانت حلقة الوصل فيها هي مدينة تدمر، هذه الواحة الغنية بالنخيل التي تقبع في وسط الصحراء، أما بقية الطريق الواقعة إلى شرقي تدمر أو غربيها، فكانت، رغم قصرها "فهي لا تزيد كثيرا على 300 ميل" معرضة لغارات القبائل البدوية المتنقلة بالمنطقة المحيطة بها44. ولكن مع ذلك فقد احتفظت هذه الطريق القديمة بأهميتها. كما احتفظت بالأهمية ذاتها كل الطرق الأخرى التي شقت بعد ذلك واتخذت من تدمر نقطة ارتكاز لها في الوصل بين طرفي الصحراء عند حدود كل من وادي الرافدين وسورية وأهمها طريق دقلديانوس STRATA DIOCLETIANS التي شقت في عهد هذا الإمبراطور "284-305م" بين دمشق في الجنوب الغربي وسرجيوبوليس sergiopolis "الرصافة" في الشمال الشرقي على مقربة من الفرات، بعد تدمير مدينة تدمر "273م". أما السبب الذي أدى إلى أهمية هذه الطريق فله صفة سياسية، إلى جانب صفته التجارية. فالمنطقة، كما أسلفت، كانت تقطنها قبائل بدوية متنقلة تسبب كثيرا من القلق على الحدود السورية أو حدود وادي الرافدين. ومن ثم فقد كان موقع تدمر كنقطة تأمين للطريق ومن ثم إقرار للأمور أمرا واردا لأي من القوتين في شرقي الصحراء أو غربيها، وهكذا انتهى الأمر دائما بتأمين الطريق لهذا

44 g-roux: ancient iraq: ص29.

ص: 323