الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2371-
2316 ق. م" وإن كان هذا لا يعني أنهم لم يكونوا موجودين في المنطقة قبل ذلك. وقد كانت منطقتهم أكّد تقع إلى شمالي المدن السومرية التي ظهرت منذ فجر التاريخ في جنوب الوادي ورغم أن تداخلا حدث بين الأكديين وبين السومريين قبل عهد سارجون كما يشير إلى ذلك عدد من الألفاظ السومرية التي تبناها الأكديون وعدد من الألفاظ الأكدية السامية التي تبناها السومريون "وهم شعب كان يتحدث لغة لا علاقة لها بالمرة باللغات السامية" إلا أننا لا نجد نصا سومريا واحدا -على كثرة ما عثر عليه من هذه النصوص- يصف الأكديين بأنهم أعداء أو غزاة أو بدو، وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا وافدين إلى المنطقة من الصحراء، وإنما كانوا مستقرين فيها مثلما كان السومريون مستقرين في الجنوب. وفي الواقع فإن هذا الاستقرار يشير إليه أكثر من دليل، فقد كان الأكديون -رغم اختلاف اللغة- يمارسون نفس نمط الحياة الذي كان يمارسه السومريون "ولا غرابة في ذلك فالشعبان تحيط بهما ظروف طبيعية واحدة". فهم يعيشون مثلهم حياة حضرية في المدن والقرى ويشاطرونهم نفس أسلوب الحياة ونفس المعتقدات الدينية. وحين أصبحت السيادة على المنطقتين للأكديين منذ عهد الملك سارجون غيرت هذه السيادة تاريخ وادي الرافدين بأكمله، ولكنه رغم ذلك لم تغير الشخصية السومرية لحضارة وادي الرافدين. ومن بين الجوانب الكثيرة التي تشير إلى هذه الحقيقة جانب المعتقدات الدينية التي ظلت كما هي في مضمونها، وجانب الملاحم البطولية التي ظلت تتخذ محورا لها أبطالا سومريين وجانب الأساطير التي كانت في عهد السياسية الأكدية مجرد ترجمة للأساطير السومرية في أغلب الأحيان33.
33 G.ROUX: المرجع ذاته، صفحات 139-140.
ب-
تصور مطروح حول هذه الفكرة:
وبعد هذه الملاحظات المبدئية، وفي ضوئها، انتقل الآن إلى التصور
الذي أريد أن أقدمه في مسألة الشعوب الناطقة باللغات السامية، إن الناظر إلى المنطقة التي استقرت فيها هذه الشعوب يجد أنها تشكل امتدادًا واحدًا متكاملًا، يضم شبه الجزيرة العربية ووادي الرافدين والصحراء السورية والمنطقة السورية، وحتى منطقة الحبشة التي تقع عبر البحر الأحمر لا يمكن اعتبارها في الحقيقة خارجة عن هذا الامتداد إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الذي يفصل بينها وبين شبه الجزيرة العربية هو المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو مدخل ضيق مليء بالجزر التي تشكل اتصالا بين الحبشة والطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة العرب أكثر مما يشكل انفصالا بينهما. ومن الثابت جغرافيا أن هذه المنطقة كانت قبل نهاية عصر البلايستوسين "حوالي 1000 ق. م" منطقة خضراء آهلة بالسكان، ولنا أن نتصور أن هؤلاء السكان -بحكم تجاورهم وانتمائهم إلى منطقة واحدة- كانوا يتحدثون بلغات متقاربة أو بلهجات متقاربة من لغة واحدة.
ومن الثابت جغرافيا كذلك أن عصر الجفاف قد حل بهذه المنطقة "كما حل بامتداداتها في الشرق إلى نهر الإندوس في الهند، وفي الغرب إلى شواطئ المحيط الأطلسي" بحيث أدى الجفاف المستمر إلى إقفار المنطقة وتحولها إلى صحراء فيما عدا بعض المناطق التي سمحت ظروفها الجغرافية ببقاء الخضرة والخصوبة لسبب أو لآخر -مثل وادي الرافدين الذي كان فيه نهرَا دجلة والفرات قد نحتا مجراهما فتكون الوادي الخصب بينهما وأصبحا مصدرا لري هذا الوادي، ومثل بعض المناطق الأخرى في جنوب غربي شبه الجزيرة وعلى الساحل السوري وفي الحبشة، حيث تقوم المرتفعات بصد الرياح المحملة بالأمطار القليلة أو الكثيرة فتسقط هذه الأمطار على قلتها أو كثرتها في هذه المناطق لتعطيها نسبا متفاوتة من الخصوبة. ونتيجة لذلك فإن سكان المناطق التي استطاعت أن تتفادى نتائج الجفاف وتبقى على شيء من الخصوبة ظلوا مستقرين في مناطقهم الأصلية ومارسوا حياة الاستقرار بكثافات مختلفة
حسب حظ مناطقهم من الماء ومن ثم من الخصوبة، في وادي الرافدين والساحل السوري ومنطقة اليمن والحبشة والواحات التي تحيط بالعيون والينابيع المتناثرة في المناطق الصحراوية الواسعة في شبه جزيرة العرب أو على تخومها الشمالية، أما سكان المناطق المقفرة فقد تراجعوا أمام زحف الصحراء إلى تخوم المناطق الخضراء المتبقية ليعيشوا حياة بدوية تقوم على الرعي، ومن ثم الارتحال حيثما تنمو الأعشاب من منطقة إلى منطقة، ومن موسم إلى موسم.
ويقدم لنا أحد الباحثين تصورا منطقيا وتاريخيا لما كان يمكن أن يجري في هذه المناطق الحدية الواقعة بين مناطق الخصوبة والاستقرار من جهة ومناطق البداوة والارتحال في الفترة السابقة لظهور الجمل في مناطق الشعوب السامية في غضون القرن الثاني عشر ق. م. حين كان الحمار لا يزال هو دابة النقل عند هذه الشعوب. وهو يذكر لنا في هذا المجال أن البدو كانوا على علاقة وثيقة ومستمرة مع المزارعين في المناطق الخصبة، فالمزارعون يشترون منهم بعض الأغنام ويزودونهم في مقابلها بالحبوب والتمر والأدوات والأسلحة والسلع الأخرى التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية، والصورة العامة لهذا التبادل هي أن أفرادا أو جماعات من الجانبين كانت تلتقي بشكل منتظم في القرى أو الأسواق الواقعة عادة خارج أسوار المدن، يتبادلون سلعهم ويتبادلون معها، دون شك، أحاديثهم وأفكارهم، وبعدها يعود البدو إلى مراعيهم التي ربما لم تبتعد عن هذه الأسواق والقرى إلا بضعة أميال، وفي بعض الأحيان فإن بعض الأفراد من البدو قد يتركون قبيلتهم لكي يعملوا في المدن إما كجنود مرتزقة أو كحرفيين أو كتجار. وفي أحيان أخرى فإن أسرة من البدو أو عشيرة أو قبيلة بكاملها قد تحصل على قطعة من الأرض داخل المنطقة المزروعة، إما يستولون عليها استيلاء أو يقدمها إليهم أصحاب الأراضي الزراعية أو حكوماتهم، وفيها يمارس البدو حياة الزراعة إلى جانب رعي الأغنام.
وفي ضوء هذه الظروف كان يحدث كثيرا أن تمد حكومات المناطق الزراعية سيطرتها في صورة أو في أخرى إلى القبائل البدوية ليستخدموهم كجنود مرتزقة أو مساعدة بشكل خاص كلما احتاجوا إليهم. ولكن الوضع قد ينعكس في أوقات الاضطرابات أو القلق السياسي فتشن القبائل البدوية بشكل فردي أو جماعي الغارات على المجتمعات الزراعية المستقرة وتنهب مدنها وتحتل مساحة صغيرة أو كبيرة من أراضيها تنتهي بالاستقرر فيها. وهكذا يأتي هذا الباحث إلى ختام تصوره التاريخي ليذكر أن استقرار البدو في المناطق الزراعية كان، على هذا النحو، تطورا بطيئا ويكاد يكون مستمرا مع فترات تدخل مسلح من حين لآخر. وهو في هذا كله لم يتم نتيجة لحركات "هجرات" كبيرة من قلب الصحراء إلى المناطق الزراعية، وإنما اتخذ شكل انتقال على مدى مكاني قصير أو متوسط في المناطق الحدية الواقعة بين الأراضي الزراعية حيث الاستقرار، والأراضي العشبية البدوية34.
وهذا التصور وارد إلى حد كبير. ورغم اقتصار الباحث في حديثه على الفترة السابقة لظهور الجمل في حياة الشعوب السامية، إلا أنه بالإمكان أن يغطي، بشكل جانبي، الفترة التالية لظهور الجمل كدابة نقل تصلح للمسافات البعيدة. وفي الواقع فإن ظهور الجمل في حياة البدو من الممكن أن يزيد من حجم هذا الاتصال بين سكان المناطق الواقعة حول العيون والينابيع في قلب الصحراء وبين المناطق الخصبة المرزوعة. وقد يتم هذا عن طريق التعامل التجاري بين أطراف شبه الجزيرة العربية وهو أمر وجد فعلا فظهرت خطوط القوافل التجارية لتصل بين سكان شبه الجزيرة العربية والمناطق المتاخمة لها في وادي الرافدين والمنطقة السورية، وقد ساعد على هذا دون شك الموقع المتوسط لشبه الجزيرة الذي كانت تمر بشماله الخطوط التجارية البرية الآتية
34 الكاتب ذاته: المرجع ذاته، ص 138.
من الشرق الأقصى والذي كانت تمر على شواطئه الخطوط البحرية من المحيط الهندي والموانئ اليمنية في الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية، ومنها تنتقل بالطرق البرية إلى الساحل السوري في الشمال ومنه إلى الشواطئ المتعددة للبحر المتوسط، وهي طرق لم تندثر حتى بعد أن نشطت الحركة التجارية في البحر الأحمر.
هذه الحركة التجارية التي كانت تجعل أجزاء شبه الجزيرة العربية على اتصال دائم مع المناطق المتاخمة لها -كانت دون شك استمرارا موسعا لما كان يحدث في الفترة السابقة من تداخل بين مناطق البداوة والحضارة قبل أن يظهر الجمل في أفق الشعوب السامية. وقد كان هذا كله وسيلة لاتصال مستمر بين هذه الشعوب لا يجعل لغاتها تنفصل عن بعضها إلى نقطة اللا عودة أو حتى إلى نقطة الاختلاف الكبير -وهو اتصال لم تقتصر مقوماته على هذه التحركات السلمية، وإنما امتد ليشمل تحركات من نوع آخر كانت تتم بشكل توسعي، سياسي وعسكري، وكانت تتخذ عادة شكل حروب وغارات تقوم بها القوات الآشورية والبابلية الحديثة بشكل خاص على المناطق الواقعة إلى غربيها، وفي أثناء هذه التوسعات سواء أكانت مؤقتة أو طويلة الأجل كانت في حد ذاتها نوعا من استمرار الصلة، وإن تم بشكل عنيف، داخل دائرة هذه الشعوب35. وشيء مثل هذا يمكن أن يقال بتفاصيل أخرى عن العلاقة بين جنوب غربي شبه الجزيرة ومنطقة الحبشة عبر مضيق باب المندب عند الطرف الجنوبي للبحر الأحمر وبخاصة في القرن السادس الميلادي.
35 يوجد عرض وتحليل للنصوص المسمارية المتعلقة بهذه العلاقات التوسعية في رضا جواد الهاشمي: العرب في ضوء النصوص المسمارية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، عدد 22، شباط 1978، صفحات 639 - 666.
ونحن نستطيع أن ندرك مدى استمرار الصلة بين هذه الشعوب "بغض النظر عن الصورة التي تتخذها هذه الصلة" ومن ثم استمرار التقارب بين لغاتها، إذا أضفنا إلى كل هذا أن المنطقة بأكملها كانت تقع بين القوات أو الإمبراطوريات الكبيرة؛ في الشرق حيث الفرس، وفي الغرب حيث الدول المتأغرقة التي قامت في بداية القرن الثالث على أنقاض إمبراطورية الإسكندر الأكبر، ثم الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية البيزنطية، وأن هذه الإمبراطوريات كانت في صراع شبه دائم إن لم يكن دائما فعلا في علاقاتها، وأن هذا الصراع كان يمتد في بعض الأحيان لكي يدخل فيه طرف ثالث مثل دولة الحبشة "وبخاصة في فترة الصراع بين البيزنطيين والفرس". وفي خلال كل هذا كان سكان المنطقة ينشطون بأشكال وصور مختلفة حسب نوعية الظروف التي تبرز من مرحلة إلى مرحلة، فتقوم لهم دول مستقلة مثل مملكة تدمر أو مملكة الأنباط أو إمارات تابعة أو شبه تابعة مثل إمارة المناذرة في الحيرة وإمارة الغساسنة في الشام، وتنشط الخطوط التجارية من حين لآخر إذا تمخضت كل هذه العلاقات أو بعضها عن ظروف مواتية، أو تنشط المواجهات العسكرية في ظروف أخرى، فيتم الاتصال سلاما أو عنفا، ولكنه في كلتا الحالين محافظ على استمرار التقارب بين لغات هذه الشعوب.
وأخيرا، وليس آخرا، فنحن نستطيع أن نضيف إلى كل ما سبق ذكره عاملين سبق أن أشرت إلى أحدهما بشكل جانبي، وأحد العاملين هو دون شك الاضطرابات التي كانت تحدث في بعض المناطق مثل اليمن لتصيب الاستقرار والموارد الاقتصادية فيهاجر بعض أبناء المنطقة إلى مناطق أخرى بحثًا عن الأمن والاستقرار وعن موارد جديدة. أما العامل الآخر الذي لا ينبغي أن نستبعده احتمالا، أو حتى ترجيحا، في ضوء ظروف الجفاف والقحط التي يمكن، إذا اشتدت وطأتها، أن تدفع بأعداد منظمة أو شبه منظمة من السكان إلى
ترك مناطقهم إلى مناطق أخرى أكثر خصبًا وبخاصة بعد ظهور الجمل في حياة الشعوب السامية، وإن كنت أبادل فأقول: إن تحديد هذه الهجرات وترتيبها في أزمان محددة واستقرارها في مناطق محددة هو أمر لا نملك أن ندعمه بشواهد تاريخية قاطعة حتى الآن.
وهكذا أصل إلى نهاية النقاش لأذكِّر بأن الحديث عن الشعوب السامية، ومن بينها العرب، ليس حديثا عن شعوب تنتمي إلى عنصر واحد وتنحدر من أصل واحد لهذا العنصر، وإنما هو حديث عن شعوب تتقارب لغاتها إلى حد واضح في عدد من الجوانب المهمة، من بينها جذور ألفاظها وطريقة تكوين هذه الألفاظ وتصريفها ومن بينها الأسماء الدالة على تكوين الأسرة وعلى التنظيمات السياسية والعلاقات الاجتماعية والمعتقدات الدينية -وكلها، كما هو ظاهر، تدور حول تكوين المجتمع وحركته، ومن ثم تدل على احتكاك مستمر بين هذه الشعوب. على أن هذا كله لا يدفعنا، وليس هناك مبرر علمي أو تاريخي لأن يدفعنا، إلى افتراض موطن أصلي لهذه الشعوب انطلقت منه في صورة هجرات دورية كبيرة منتظمة إلى بقية أرجاء المنطقة التي استقرت فيها بشكل نهائي، وإنما التصور الذي يتعارض مع المنطق والذي يتفادى كثيرا من النقد العلمي والتاريخي هو أن التشابه الذي نراه بين لغات هذه الشعوب حتى الآن هو نتيجة لتعامل مستمر اتخذ أشكالًا متعددة.
ومن بين أشكال هذا التعامل، التداخل البطيء الذي كان يتم بين المناطق البدوية والمناطق الزراعية التي تقع على تخومها في الفترة السابقة لظهور الجمل كدابة نقل تملك الإمكانات المناسبة للتنقلات البعيدة سواء من حيث الأحمال أو الاحتمال36. ومن بينها احتمال هجرات كبيرة من حين لآخر
36 عن تاريخ ظهور الجمل عند الساميين راجع: G.ROUX: المرجع ذاته، ص 138. وعن مناقشة هذا التاريخ بتوسع راجع forbs: studies in ancient technology "leiden 1995" صفحات 187-203. عن الإمكانات التي يملكها الجمل للتنقلات البعيدة من حيث الأحمال والاحتمال راجع: حاشية 22 من الباب الثالث من هذه الدراسة.