الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافة السامية؛ ومن ثم أفسح الطريق أمام التأثير السامي في اللغة الحبشية13.
13 جواد علي: المرجع ذاته، ص 237، والحواشي 1 - 4.
ج-
افتراضات أصل آسيوي للساميين:
هذا عن الافتراض الإفريقي للوطن الأصلي للشعوب السامية، على أن عددًا آخر من الباحثين في هذه القضية اتجهوا بأنظارهم صوب القارة الآسيوية محاولين أن يجدوا فيها البقعة التي تصلح في رأيهم أن تكون هذا الوطن الأصلي وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه البقعة. وأحد هذه الآراء يرى صاحبه أن منطقة أرمينية هي أنسب المناطق في هذا الصدد. وهو يعتمد في رأيه هذا على قصة الطوفان كما جاءت في التوراة، ويرى أن أوصاف هذه المنطقة تتفق مع ما يمكن استنباطه مما جاء في التوراة. ولما كانت القصة تذكر أن نوحًا قد أخذ أسرته "بما فيها أبناؤه" في الفلك، فتكون الشعوب السامية والشعوب الآرية التي انحدرت من صلب هؤلاء الأبناء الذين عددتهم التوراة قد بدأت في أرمينية كموطن أصلي لها14.
ولكن هذا الرد تعترضه في رأيي صعوبتان: إحداهما هي أن قصة الطوفان لم يقتصر ورودها على التوراة كجزء من التراث العبري أو اليهودي. ولكنها ترك كذلك في تراث عدد كبير من الشعوب سواء في الفترة التي تسبق التوراة أو تلك التي تليها، وفي منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق في أرجاء مختلفة من العالم إذ هي تشير، احتمالًا، إلى الأمطار الغزيرة التي هطلت في دهر في عصر البلايستوسين، آخر العصور الجيولوجية، في المناطق المدارية في حقبة ما قبل التاريخ، واحتفظت بها الشعوب في ذاكرتها عبر الرواية من جيل لجيل حتى عبروا عنها كتابةً، كلٌّ بتصوره الخاص ومن هنا فإنه
14 صاحب الرأي هو john peters ويرد الرأي في j.barton: المرجع ذاته، ص 8.
يوجد أكثر من مكان مناسب لهذه القصة حسب تصور كل شعب، والصعوبة الثانية، وهي امتداد للأولى، أن قصة الطوفان كما وردت في التوراة تأخذ هيكلها العام وأكثر تفاصيلها عن قصة الطوفان كما وردت في أساطير وادي الرافدين. وقصة الطوفان في وادي الرافدين سواء في ذلك روايتها السومرية أو البابلية أو روايتها كما وردت في ملحمة جلجامش تذكر أماكن في وادي الرافدين مثل مدينة أوروك uruk "الوركاء حاليا" ومدينة شورباك shuruppak "تل فاره حاليا" وكلتاهما تقعان في جنوبي وادي الرافدين، كما تحدد مكانًا في وادي الرافدين كذلك للجبل الذي وصلت إليه سفينة نوح، وهو جبل نيسير nisir الذي يحدده الباحثون عادة بجبل بير عمر كودرون الذي يقع جنوبي نهر الزاب الصغير "أحد روافد نهر دجلة" في سلسلة جبال زاجروس التي تمتد بطول المنطقة الشرقية لوادي الرافدين من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي15.
وإلى جانب هذا الرأي هناك رأي آخر يدخل كذلك ضمن الافتراض الآسيوي للموطن الأصلي للشعوب السامية، وأصحاب هذا الرأي الآخر يحاولون أن ينفذوا إلى اختيارهم لهذا الموطن الأصلي من طريق أخرى، فهم يلاحظون أن الجمل قد لازم الشعوب السامية منذ فجر تاريخهم، ولما كان الموطن الأصلي للجمل هو هضبة آسيا الوسطى أو المنطقة الواقعة إلى جنوب وجنوب شرقي بحر قزوين؛ فقد انطلقت الشعوب السامية إذًا من إحدى هاتين المنطقتين مرورًا بإيران والمناطق الآهلة بالشعوب الهندوأوروبية حتى وصلوا إلى بابل
15 فاضل عبد الواحد علي: الطوفان في المراجع المسمارية، بغداد 1975. وفيه يجد القارئ العربي ترجمة عربية للأصول المسمارية لقصة الطوفان -قصة الطوفان السومرية، صفحات 119 وما بعدها، قصة الطوفان البابلية "أتراخاسيس" صفحات 123 وما بعدها، قصة الطوفان في ملحمة جلجامش، صفحات 174 وما بعدها.
قصة الطوفان في التوراة: سفر التكوين. الإصحاحات 6-9.
في القسم الجنوبي من وادي الرافدين ومن هناك كان تفرعهم إلى بقية أرجاء المنطقة التي استقرت فيها الشعوب السامية بصفة نهائية. وقد أيد هؤلاء رأيهم بشاهد لغوي مؤداه أن اللغات السامية يشترك أغلبها في عدد ملحوظ من الألفاظ الدالة على مسميات تتصل بأنواع من النباتات والحيوانات وجوانب العمران، وأنه بتحليل هذه الألفاظ وبمقارنتها وتتبعها بغية التوصل إلى أقدم المناطق التي ظهرت فيها المسميات التي نشير إليها، نجد أن هذه المسميات من صميم المنطقة التي تقع فيها بابل16.
وقد وجه إلى هذا الرأي ردان: أحدهما هو أنه لم يثبت ثبوتا علميا قاطعا أن المسميات التي تشير إليها الألفاظ المذكورة وجدت في إقليم بابل قبل غيره من المناطق التي عاشت فيها الشعوب السامية. هذا بالإضافة إلى أن عددا آخر من الألفاظ الدالة على مسميات أكثر التصاقا بحياة هذه الشعوب، لم تشترك فيها اللغات السامية مع أن هذا الاشتراك، إذا نظرنا من وجهة نظر لغوية صرفة، يصبح أمرا واردا ومنتظرا17، أما الرد الآخر فهو أن أية تحركات أو هجرات بشرية بغية الاستقرار تتجه بالضرورة من المناطق المقفرة إلى المناطق الخصبة وليس العكس18، ومن ثم فمن غير الممكن أن تكون الهجرات السامية قد انتقلت من جنوبي العراق، وهي منطقة على
16 راجع آراء: von kremer: semitische kulturen entlehnungen aus pflantzen - und - tierreiche،
wright: comparative studies of the semitic languages، a.guidI: della sede primitiva. dei popoli semitici
وهذه الآراء معروضة في BARTON: المرجع ذاته، ص 3.
17 noldeke: semitische sprachen ط 2 "1899 leipzig" ص 3.
18 hitti المرجع ذاته، ص 10.
جانب كبير من الخصوبة، إلى مناطق صحراوية مثل شبه جزيرة العرب أو شبه صحراوية مثل المنطقة السورية.
وأود أن أؤيد هذا الرد الأخير بمثال من الحضارة السومرية التي ظهرت في جنوبي وادي الرافدين في الفترة المبكرة من تاريخ هذه المنطقة. إن قائمة ملوك سومر التي ترك لنا فيها السومريون تصورهم عن أسماء السلالات والملوك الذين حكموا المنطقة والمدن التي حكموا فيها، يمكن أن نستنتج منها أن مجموعات سامية كانت في حركة مستمرة ومتزايدة من المنطقة الصحراوية التي تلي وادي الرافدين غربا، أو على الأقل من المنطقة الرعوية التي تقع فيها هذه الحدود، إلى المنطقة الخصبة التي تقع في جنوبي الوادي. والدليل على ذلك أن القائمة المذكورة تظهر فيها بعض الأسماء السامية في الفترة الأولى من العصر السومري ولكن عددها قليل بالنسبة لعدد الملوك ذوي الأسماء السومرية، بينما نجد الأسماء السامية يزيد عددها في الفترة اللاحقة من هذا العصر، كما يظهر على سبيل المثال من أسماء ملوك مدينة كيش "الأحيمر حاليا" الذين بلغ عددهم 23 ملكًا. فإذا أغفلنا اسما واحدا من هذه الأسماء "لم يستطع الناسخون القدماء أن يقرءوه جليا من الألواح الطينية التي سجلت عليها الأسماء" ليصبح عدد الأسماء الثابتة هو 22، وجدناها تضم 12 اسما من أصل سامي وستة أسماء سومرية وأربعة أسماء لا يمكن تحديد أصلها. وهذه الزيادة المندرجة تشير في رأيي إلى هجرات سامية من خارج المنطقة الخصبة في جنوبي وادي الرافدين بدأت على هيئة مجموعات قليلة تثبت أقدامها في المنطقة بدليل وصول عدد من زعمائهم إلى حكم البلاد، ثم زادت أعداد هذه المجموعات حتى أصبحت تشكل أغلبية في السكان أو أغلبية في السيطرة على موارد الإنتاج، أدت إلى أن تكون أغلبية ملوك المدينة أو الدويلة المذكورة من بين زعمائهم19.
19 george roux: ancient iraq "طبعة pelican 1966" ص 111.