الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة11. لقد استوعبت هذه الحركة الحضارات القديمة التي كانت موجودة بالمنطقة المحيطة بشبه الجزيرة في مصر وسورية ووادي الرافدين وبلاد فارس، كما استوعبت الملامح الرئيسية للحضارة اليونانية الرومانية وطورتها في فترة الركود العلمي والثقافي التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى، وأسهمت بذلك في إيقاظ أوروبا في عصر النهضة أو عصر الإحياء الذي أسلمها إلى عصر الحضارة الحديثة، وبذلك تفادت المسيرة العلمية والثقافية خطر الانقطاع الذي كان يمكن أن يحدث، ومن ثم يؤثر على الاستمرار الحضاري، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن عصر الظلام والركود الأوروبي في العصور الوسطى أعقبه مباشرة عصر ظلام وركود شرقي استمر عدة قرون على عهد الحكم العثماني.
11 عن التراث العربي في جوانبه المتعددة راجع: "1963 oxford"
the legacy of islam وهو مجموعة دراسات أشرف على تحريرها توماس آرنولد thomas arnold وألفرد جيوم alfred guillaume.
ب-
مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام:
وهنا يجدر بنا أن نتوقف لحظة. فهذا الدور الحضاري الكبير الذي انطلقت بوادره ومقوماته الأولى من شبه الجزيرة العربية ابتدأ في العصر الإسلامي، ومن ثم فهو ليس دورًا قامت به شبه الجزيرة قبل ظهور الدعوة الإسلامية التي تشكل بداية هذا العصر. وهذا صحيح، ولكن أي دور حضاري لا يبدأ من فراغ، وإنما لا بد له من مقدمات تمهد له الطريق وتهيئ له أسباب النجاح. وقد كانت هذه المقدمات متوفرة في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام نتيجة لعدد من الأوضاع التي كانت تسود المنطقة والتي أدت إليها ظروف الرقعة المكانية التي تشغلها شبه الجزيرة، وهي ظروف تتمثل من جهة في الموقع الذي يتوسط خطوط المواصلات بين الشرق والغرب، والتي تتمثل من جهة أخرى في الموضع الذي تفرض طبيعته على سكان المنطقة الحركة
المستمرة رعيا أو تجارة، ثم تتمثل من جهة ثالثة في الطبيعة الصحراوية الغالبة على شبه الجزيرة والتي جعلتها أو جعلت القسم الأكبر منها بمنأى عن أية أطماع جادة من جانب القوى الدولية، ومن ثم أتاحت الفرصة لانتشار العقيدة الجديدة وقيام دولة موحدة في شبه الجزيرة، الأمر الذي يشكل مقدمة مطلوبة تاريخيًّا لبداية الدور الحضاري العربي.
وفي هذا المجال فإن شبه الجزيرة العربية كانت تخترقها الخطوط التجارية البرية اتجاهًا نحو الخليج ووادي الرافدين والمنطقة السورية. ومعنى هذا أن الاتصال كان دائما بين السكان الذين يقطنون كل أقسام شبه الجزيرة تقريبا. فإذا أضفنا إلى هذا حياة الرعي التي كانت تفرض على أعداد كبيرة من السكان أن يتنقلوا بشكل دائم أو موسمي سعيًا وراء الكلأ، وعددًا من الهجرات الداخلية التي قد تترتب على هذا "أو على غيره من الأسباب" لأمكن أن نتصور أقسام شبه جزيرة العرب في حالة اتصال مستمر فيما بينها. وهو أمر يؤدي بمرور الوقت إلى قدر غير قليل من التقارب بل التجانس فيما بين سكان هذه الأقسام في أكثر من جانب من جوانب حياتهم.
وقد أدى هذا التجانس فعلا إلى ظهور بوادر ملموسة للشخصية أو الهوية الجماعية للعرب رغم التفتت السياسي لشبه الجزيرة في صورة قبائل أو تجمعات قبائل أو إمارات أو دول. ونحن نلمس بوادر هذه الشخصية العربية ابتداء من أواسط القرن التاسع ق. م. في عدة نصوص من سجلات الملوك الآشوريين تصف عددًا من الشخصيات التي احتك بها ملوك دولة آشور بأنهم "عرب" أو أنهم ملوك أو ملكات على "بلاد العرب" -بغض النظر عن الامتداد المكاني أو الشمول الذي تعنيه "صفة بلاد العرب" في هذه السجلات- وهو وصف يشير إلى أن الهوية العربية بدأت تحل، على الأقل في المعاملات الخارجية، محل الهوية العشائرية أو القبلية. كذلك نجد هذه الصفة "العربية" سواء
بالنسبة للسكان أو بالنسبة للبلاد تظهر بشكل محدد ومتواتر في كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس herodotos في أواسط القرن الخامس ق. م. وتستمر من بعده سواء عند الكتاب اليونان أو الرومان أو البيزنطيين حتى ظهور الإسلام.
كذلك يشير إلى هذا التقارب أو التجانس، ومن ثم إلى الهوية العربية التي مهدت لنجاح الدور العربي التاريخي بعد ظهور الإسلام، بعض ظواهر أخرى: من بينها عدد من المناسبات التي أخذ العرب يعتزون بها كمناسبات عربية بغض النظر عن المنطقة التي حدثت فيها. وأعني بهذه المناسبات ما اصطلح المؤرخون على تسميته بأيام العرب، مثل يوم "ذي قار" وهي الموقعة التي انتصر فيها عرب الحيرة على القوات الفارسية، أو يوم "الفيل" الذي سجل ارتداد أبرهة وجنوده عن هدم الكعبة قبيل ظهور الإسلام. ومن بين هذه الظواهر التي نلمس فيها الشخصية الجماعية العربية كذلك، الأماكن التي كان العرب يتجمعون فيها لإلقاء الشعر بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية، مثل "سوق عكاظ""شمالي الطائف"، والاتفاق الجماعي على اعتبار المنطقة المحيطة بالكعبة مكانا مقدسا لا تنبغي ملاحقة من يلوذ به، وعلى اعتبار عدد من شهور السنة "أشهرا حرما" لا يجوز الاقتتال في أثنائها بين القبائل العربية حتى يتوفر الأمن الجماعي اللازم لممارسة العرب أسباب حياتهم في شيء من الطمأنينة والاستقرار.
كذلك فإن هذا التجانس أو التقارب لا بد أنه ظهر في تقارب اللهجات في المنطقة المختلفة من شبه الجزيرة العربية، وهو تجانس يصل ما يقرب إلى التأكيد إذا تذكرنا أن القرآن نزل بلهجة قبيلة قريش، ومع ذلك فما لبث في خلال عقدين من الزمان أن انتشر بلهجته هذه في كل أرجاء شبه الجزيرة، وفي الواقع فإنه ليس لدينا ما يدعو لافتراض أن بقية قبائل شبه الجزيرة قد
اضطرت إلى تعلم لهجة قريش حتى تفهم آيات القرآن، وإنما تشير كل الملابسات إلى أن معرفتهم بهذه اللهجة كانت شيئا مفروغا منه، الأمر الذي يعزز افتراض التقارب الوثيق بين اللهجات العربية قبل ظهور الإسلام، أو وجود لهجة عامة يعرفها جميع العرب، بغض النظر عن لهجاتهم المحلية.
وهكذا يتضح لنا أثر الظروف المكانية في التجانس الكبير بين عرب شبه الجزيرة لتصبح لديهم مقومات الهوية أو الشخصية الجماعية التي تساعد على سرعة انتشار أية حركة تتوفر لها البداية المقنعة لسبب أو لآخر، كما حدث في حال الدعوة الإسلامية. على أن هذا التجانس لم يكن كل ما أسهمت به الطبيعة المكانية لشبه الجزيرة العربية في سرعة انتشار الدعوة الإسلامة بها كبداية للدور الحضاري العربي خارجها، فقد ساعد هذا العامل المكاني في هذه السرعة بطريقة أخرى. لقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة. وحين ضيقت قريش الخناق على نشاطه وعلى أتباعه بما قد يؤدي إلى بطء انتشار الدعوة، هاجر هو وصحبه إلى يثرب -المدينة المنورة فيما بعد- وحقيقة إن الرسول كانت له صلة قربى في يثرب، ولكن الحقيقة الأخرى التي تواكبها هي أن يثرب كانت تقع على طريق القوافل التجارية إلى الأسواق السورية في الشمال، ومن يتحكم في موقعها يصبح في يده أن يخنق تجارة قريش إلى الشمال. وفي الواقع إن المتأمل للخط التجاري الذي يصل بين مكة والشمال لا يسعه إلا أن يلاحظ أن أهم غزوات الرسول، إلى جانب ملابساتها الأخرى بطبيعة الحال، كانت تقع على هذا الخط التجاري كما يبدو واضحا في غزوة بدر "جنوبي غربي المدينة في الطريق إلى مكة" ثم في غزوات أحد "على مشارف المدينة" وخيبر وتبوك اتجاهًا نحو الشمال على خط القوافل التجارية إلى سورية. وحين تمت غزوة الفتح وأذعنت مكة لإرادة الرسول صلى الله عليه وسلم كان معنى هذا في الحقيقة الاستيلاء على الموقع الذي كانت تسيطر
عليه قبيلة قريش. وهو الموقع الذي كان يتحكم في خطوط القوافل شمالًا إلى سورية وجنوبًا إلى اليمن واتجاهًا نحو الشمال الشرقي إلى وادي الرافدين، الأمر الذي مكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه من التصدي لكل من يتعرض للدعوة الإسلامية التي كانت بداية للدور الحضاري التاريخي الذي انطلق من شبه جزيرة العرب.