الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد وجدت أو أقيمت في مصر موانئ على شاطيء البحر الأحمر من الناحية المصرية مثل ميناء ميوس هرموس وميناء بيرينيكي "رأس بناس حاليا" وميناء القصير، كما أقام اليونان على الساحل الشرقي للبحر الأحمر من ناحية شبه الجزيرة العربية ميناء "ليوكي كومي" أو القرية البيضاء "الوجه حاليا"، ولكن الجديد الذي يقدمه لنا النص هو أن الطرق البحرية بين هذه الموانئ المتقابلة على البحر الأحمر بين مصر وشبه الجزيرة العربية لم تكن حكرًا على البحار اليونان وإنما كان الملاحون العرب يستخدمونها كذلك. ولهذه الحقيقة التي يكشفها النص أهميتها فإن النقوش العربية العديدة التي عثر عليها في صحراء مصر الشرقية كلها تقريبا نقوش مقتضبة؛ ومن ثم لم تتسع للإشارة إلى عدد من الحقائق، من بينها هذه الحقيقة.
ج-
تقويم عام للنقوش:
وفي ختام الحديث عن النقوش أود أن أشير إلى أن هذا النوع من النصوص هو عادة أدق في تصويره للحقيقة التاريخية من غيره من النصوص، مثل تلك التي ترد ضمن كتابات تاريخية قد لا يكون كاتبها معاصرًا للأحداث التي يؤرخ لها أو قد يكون منحازًا، لسبب أو لآخر، لأحد الأطراف التي يكتب عنها. ولكن النقوش، من جهة أخرى، تكون عادة أقل شمولا من حيث إعطاء صورة متكاملة للمجتمع ككل، أو لفترة زمنية على شيء من الطول، فالنقش، في أغلب الأحوال، يتناول حدثا واحدا وقد لا يزيد على بضعة سطور في كثير من الأحيان وهو أمر نلمسه، على سبيل المثال، في الغالبية العظمى من النصوص اليمنية "السبئية أو الحميرية أو المعينية".
كذلك، فرغم دقة النقوش في تصوير الحقيقة بالنسبة لبعض الكتابات الأخرى، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نأخذ ما تقدمه هذه النقوش كقضية مسلم بصحتها في كل الحالات، وربما كان من المؤشرات السليمة في الاعتماد على
ما تقدمه لنا النقوش، هو أن نطمئن إليها إذا كانت تتحدث عن مسائل في الحياة اليومية العادية، كتسجيل عقار، أو صفقة تجارية، أو الإشارة إلى قانون، أو تقديم قربان لإله أو لعدد من الآلهة. ولكننا يجب أن نكون على شيء من الحذر إذا كان النقش يشير إلى ملك أو حاكم يتحدث عن منجزاته وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بانتصارت أحرزها على خصومه أو أعدائه، فالملوك أو الحكام في العصر القديم "وفي الواقع كل العصور" يميلون إلى المبالغة في تمجيد أنفسهم وأعمالهم إذا كان الحكم فرديا. وعلى سبيل المثال فإننا حين نسمع من أحد النصوص الآشورية التي تخص علاقة الآشوريين بالعرب أن الملك تجلات بيليسر الثالث "744-727 ق. م" قد اجتاح 15 مدينة للملك إيديبعلي العربي، فإننا يجب أن نتوقف قليلا، فهذه "المدن" قد لا تكون في الواقع أكثر من تجمعات بسيطة من الخيام. كذلك حين يذكر هذا الملك ذاته أنه قتل "ربما يقصد غَنَمًا" من الملكة سمسي، ملكة بلاد العرب، 30 ألف جمل فإننا يجب أن نتوقف مرة أخرى؛ فالملكة سمسي ليست ملكة لكل بلاد العرب، وإنما هي رئيسة لقبيلة أو ربما لعدد من القبائل المتحالفة على أكثر تقدير، و30 ألف جمل هو عدد مبالغ فيه دون شك في مثل هذه الدائرة الضيقة27. ولكن هذه المبالغات، التي هي في الواقع من طبيعة
27 نص الملك تجلات بيليسر الثالث في anet، ص284، وتبدو المبالغة في عدد 30 ألف من الجمال إذا قارناه بنص آخر من عهد الملك سنحاريب "704-681" arab ج2، ص158، نص رقم 358، وفيه نجد هذا الملك يغنم من ملكة عربية ألف جمل فقط، كذلك نجد نصا من عهد الملك أسرحدون "680-669 ق. م." anet ص 292، يتحدث بأرقام مختلفة هي 50 جملا و 65 جملا، ورغم أن هذه الأرقام الأخيرة هي مجرد زيادة فوق الجزية المقررة على ملكة وعلى ملك، إلا أنها مع ذلك لا يمكن أن تتناسب مع عدد من الجمال يزيد كثيرًا عن الألف.
الأشياء، لا تلغي قيمة النقش، أو حتى تقلل من هذه القيمة إلى حد ملموس، فالباحث لا يعتمد في دراسته على نقش واحد، وإنما يقارنه بغيره من النقوش أو المصادر الأخرى المتعلقة بالحدث أو الموقف الذي يكتب عنه، ومن هذه المقارنة يستطيع في أغلب الأحوال أن يقترب إلى حد كبير من الحقيقة التاريخية.