الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوفرة أو الانتظام. وقد أدى هذا إلى ظهور بعض الواحات التي قد يستمر بعضها دون البعض الآخر. ودليلنا على هذا عدد من الواحات، أكبرها تشغل مساحتها عشرة أميال مربعة، لا تزال باقية في القسم الشمالي من الحجاز، بينما عدد آخر من الواحات التي كانت موجودة في المنطقة إما اندثر أو اضمحل مثل واحة "فَدَك""تعرف حاليا باسم الحائط" التي كان لها شأن في صدر الإسلام، ولكنها لم تعد الآن على ما كانت عليه من الخصوبة آنذاك.
على أن هذه الأمطار، على عدم وفرتها أو انتظامها في كل المناطق بنسب متساوية، قد تهطل في بعض الأحيان بغزارة غير معتادة فتتحول إلى سيول قد تؤدي شدة تدفقها إلى إغراق بعض السكان أو إلى تدمير بعض معالم العمران كما كان يحدث في بعض الأحيان في مكة والمدينة، وفيما يخص مكة فقد كاد أحد هذه السيول أن يهدم الكعبة في دفقة من دفقاته العنيفة، ولكن مع ذلك فلم تكن كل هذه السيول شرا محضا، فقد عمل السكان أو الحكومات على السيطرة عليها عن طريق بناء سدود تختزن مياهها للانتفاع بها في أوقات الجفاف، وأشهر هذه السدود هو سد "مأرب" في اليمن. وإن لم يكن هذا هو السد الوحيد، فقد وجد الرحالة آثار سدود قديمة في بعض مواضع في الحجاز ونجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل العصر الإسلامي18.
18 lammens: ذاته، صفحات 17-25، راجع الحديث عن السدود في الباب الخاص بالآثار والنقوش في القسم الثاني من هذه الدراسة، راجع كذلك ملحق اللوحات في آخر الدراسة، هذا وكان بعض السيول ينزل بغزارة في الحجاز بحيث يهدد الكعبة. وفي هذا الصدد يعقد البلاذري: فتوح البلدان "ليدن 1866" صفحات 53 فصلًا بأكمله عن سيول مكة، صفحات 53-55.
3-
النبات والحيوان:
وقد ظهر أثر هذا الجو الذي يسوده الجفاف، إلى جانب ملوحة أجزاء
كبيرة من أرض شبه الجزيرة العربية في النباتات التي عرفتها المنطقة، فلم تتسم هذه النباتات بوفرة أصنافها أو بترف نوعياتها. هذا وقد توزعت هذه النوعيات على مناطق مختلفة من شبه الجزيرة تبعا لمقدار خصوبة الأرض أو نوع تربتها، وتبعا لحظها من الرطوبة والحرارة، كما أن عددًا منها لم يكن أصيلًا في المنطقة وإنما أدخل إليها من بلاد أخرى في فترة أو أخرى من فترات التاريخ. كذلك يبدو أن عرب شبه الجزيرة قد تعرفوا على بعض طرق الزراعة في مجال حرث الأرض أو ري المزروعات من مناطق خارج شبه الجزيرة، وهو أمر قد تشير إليه بعض الألفاظ التي اتخذها أهل الحجاز ونجد في هذا المجال؛ من بينها على سبيل المثال وصف "بعل" للنباتات التي لا تحتاج إلى ري يقوم به الإنسان، والإله بعل كان إله الينابيع والأرض الباطنية في المنطقة السورية، وقد دخلت عبادة بعل إلى المنطقة في العصر الجاهلي من سورية. كذلك لفظة "أكار" بمعنى حارث الأرض، والكلمتان من أصل آرامي.
وفي مجال الحبوب عرف سكان البلاد زراعة القمح في اليمن وفي بعض الواحات، كما عرفوا زراعة الأرز في عمان والحسا، وفي مناطق متفرقة عرفوا زراعة الذرة كما زرعوا الشعير كطعام أو علف للخيل. كذلك في مجال الفواكه كان عدد منها معروفًا في شبه الجزيرة، فقد ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم مثل: التين والزيتون والأعناب والرمان. ومن بين هذه فإن زراعة الكروم "الأعناب" نبتت في مواطن كثيرة من بينها الطائف "في الحجاز" واليمن ومنها كانوا يعصرون نبيذ الزبيب، ويرى البعض أنها دخلت الحجاز من منطقة الشام في القرن الرابع الميلادي. أما الزيتون فيرى أحد الباحثين أن الحجاز لم يعرفه إطلاقا، بينما يرى باحث آخر أن ورود ذكره في القرآن الكريم يدل على وجوده في هذه المنطقة، وربما يكون قد وجد في العصر القديم ثم اندثرت زراعته مع اندثار بعض الواحات، كما سبق لنا أن رأينا، إما بسبب زحف الجفاف على هذه الواحات، وإما بسبب هجرة بعض
القبائل أو أعداد منها من الحجاز إلى مناطق أخرى مع عصر الفتوح الإسلامية، أو لانصرافهم عن الزراعة واشتغالهم بالتجارة أو غيرها، كذلك فإن ذكر الزيتون في القرآن إذا كان يشير إلى معرفة عرب الحجاز بهذه الفاكهة، فإن هذا ليس معناه وجودها في هذه المنطقة بالضرورة فربما عرفها سكان البلاد عن طريق المبادلات التجارية التي نقلت إليهم ثمراتٍ وسلعًا -بل وأفكارًا- كثيرة لم يتعرفوا عليها إلا من خلال هذه المبادلات.
أما عن الأشجار، فقد كانت الشجرة الأولى في شبه جزيرة العرب هي النخلة، التي انتفع سكان المنطقة بكل جزء منها؛ فهي التي تحمل التمر أكثر الفواكه شيوعا وتنوعا في الانتفاع به عند العرب. فالتمر "مع الحليب" هو الطعام الأساسي لعرب البادية إذا استثنينا بعض المناسبات التي يتناولون فيها شيئا من لحم الجمل. وليس من الغريب في هذا المقام، إذن، أن يجعله سكان البادية أحد العنصرين الأساسيين للحياة حين يعبر عن حصوله على "الأسودين" وهما التمر والماء كهدف يسعى دائما إلى تحقيقه. ومن التمر يستخرجون كذلك الدبس والنبيذ، وبعض أجزاء النخلة يتخذونه دواء يتطببون به. ومن هنا فقد اكتسبت شجرة النخيل عند عرب شبه الجزيرة أهمية خاصة بل وصلت إلى قدر كبير من التبجيل في كثير من الأحيان. ومن مظاهر هذه الأهمية أن ثروة الرجل إذا كانت تقاس بما كان يملك من جمال فإنها كانت تقاس كذلك بما كان يملك من نخيل. كذلك اهتم السكان بزراعة أنواع كثيرة من النخيل تحمل أنواعا مختلفة من التمر، وفي هذا المقام نجد الكتاب العرب يعدون مائة نوع من التمر في المدينة وحولها وحدها. وفي مجال الحديث عن نخيل شبه الجزيرة يستشهد أحد المؤرخين المسلمين بحديث يحث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على تبجيل النخلة؛ لأنها "من طينة آدم" وسواء أكان الحديث صحيحا أم منحولا فهو يشير إلى الفكرة التي كانت سائدة لدى العرب عن أهمية هذه الشجرة، وهي أهمية يبدو أنها لم تقتصر على العرب وحدهم وإنما
شاركهم فيها بعض الشعوب السامية، حيث نرى مواضع عديدة في التوراة والتلمود تشير إلى نوع من التقديس لشجرة النخيل19.
ومن الأشجار التي كانت على جانب كبير من الأهمية في بعض أجزاء شبه الجزيرة العربية، أشجار البخور واللبان التي كانت تنمو على الساحل
19 عن النبات في شبه الجزيرة بوجه عام راجع جواد علي: ذاته، صفحات 207-211،:hitti ذاته، صفحات 18-20. عن الاشجار في الحجاز بوجه خاص راجع lammens: ذاته، صفحات 69-93. عن التمر كغذاء أساسي للبدوي راجع ابن قتيبة: عيون الأخبار "القاهرة 1930" ج3، صفحات 209-213. الحديث النبوي في تبجيل النخلة مذكور في السيوطي: حسن المحاضرة "القاهرة 1321هـ"، ج2، ص255. عن تبجيل النخلة عند العبرانيين في التوراة والتلمود، اللاويون: 23/ 40، نحميا: 15/8؛ المكابيون الأول 15/13. عن إدخال زراعة بعض أشجار الفواكه من خارج الجزيرة يرى hitti "ذاته، ص20" أن النخلة لا بد أن تكون قد دخلت شبه الجزيرة من وادي الرافدين حيث موطنها الأصلي الذي جذب الإنسان في العصر المبكر إلى هذه المنطقة. ولكن رغم كثرة النخيل في هذه المنطقة بشكل يجعله سمة أساسية لها ويسترعي الانتباه بشكل ملحوظ، إلا أن هذا الرأي يظل في تصوري مفتوحا للمناقشة، فالعبرانيون عرفوا النخلة وبجلوها كما أسلفت، والنخلة عموما تنبت حيثما يوجد المناخ الحار وشيء من الرطوبة والتربة الرملية القوام. عن وجود شجرة الزيتون في شبه الجزيرة ينفي ذلك hitti "ذاته، ص19" الذي يرى أن موطنها هو سورية، على أن تكرار ذكر هذه الشجرة في القرآن الكريم "سورة الأنعام: آيات:99 و141، سورة النحل: 11، سورة التين: 1، سورة عبس: 29، سورة النور: 35" يشير إلى معرفة العرب بها. كذلك يرد ذكر شجرة الزيتون في شبه الجزيرة العربية عند سترابون في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي في XVI،4:18، وعند بلينيوس في أواسط القرن الأول الميلادي في H.n: XII.77 حيث يبينان خصائص الزيتون العربي التي تميزه من غيره. كذلك يذكر hitti "الموضع ذاته" أن عددا آخر من أشجار الفواكه نقلها اليهود والأنباط من الشمال إلى شبه الجزيرة. عن دخول الكروم في فترة متأخرة إلى المنطقة راجع جان جاك بيربي: جزيرة العرب "الترجمة العربية، بيروت، 1960" ص205. عن تعرف عرب شبه الجزيرة على بعض طرق الزراعة من الآراميين راجع hitti: ذاته، ص20.
الجنوبي لشبه الجزيرة. وقد اكتسبت هذه الشجرة أهمية خاصة في العصر القديم حين كان إحراق الطيوب يشكل قسما أساسيا من الطقوس أو الشعائر الدينية في كل العالم القديم. ليس فقط على صعيد المناسبات الرسمية، وإنما كذلك على صعيد الحياة اليومية، وحين كان اللبان يستخدم في كثير من الأغراض الطبية. وقد كانت هذه الأشجار هي السلعة الأساسية التي تحملها القوافل التجارية من جنوبي شبه الجزيرة لتجد طريقها إلى أسواق مصر والشام، ثم لتجد طريقها من موانئ الشام بوجه خاص إلى بلاد اليونان والرومان الذين كانوا يستخدمون كميات هائلة من الطيوب واللبان للأغراض الدينية والطبية ولأغراض الزينة التي تقوم مقامها الآن الروائح العطرية.
ولكن إذا كانت الأشجار، النخيل والبخور واللبان، قد وجدت في شبه جزيرة العرب تربة ومناخا ملائمين لظهورها، فإن حظ هذه البلاد كان أقل في مجال الأشجار الكبيرة التي تصلح لاستخراج الأخشاب اللازمة في بناء السفن والمعابد والبيوت. وربما وجد في بعض العصور قدر من هذه الأشجار في المناطق الجبلية والمناطق القريبة منها، حيث كان يغزر هطول الأمطار مما يؤدي إلى ظهور الأحراج والغابات في بعض مناطق اليمن مثلا. وربما كان يوجد مثل هذه الغابات في مناطق الحجاز وهو أمر قد يشير إلى تعبد أهل هذه المنطقة لإله اسمه "ذو غابة". ولكن إذا كان شيء من هذا قد وجد فلا بد أنه قل بدرجة واضحة في أواخر العصور القديمة حيث نجد سكان شبه الجزيرة يستوردون الأخشاب التي يحتاجون إليها من مناطق مثل الهند وإفريقيا. ولكن على أي الأحوال فإن أشجارا أخرى أقل من هذه في قيمة خشبها أو صلاحيته للأغراض المذكورة، مثل أشجار الأثل والطلح "الذي يستخرج منه الصمغ العربي" والأراك والغضا "الذي كان يحرق للحصول على الفحم" والسنط والسمح وغيرها20.
20 جواد علي: ذاته، صفحات 208 وما بعدها.
وننتقل الآن إلى الحيوانات التي عرفها العرب في شبه جزيرتهم قبل ظهور الإسلام. وأول ما يطعالنا في هذه المملكة الحيوانية بالضرورة هو الجمل. وقد بدأ الساميون يعرفون الجمل في القرن الثاني عشر ق. م. ولكنه اقترن باسم العرب منذ أن بدأ اسم "العرب" يظهر في مجال الاحتكاكات الدولية بين الشعوب المجاورة لهم وبينهم. فابتداء من أواسط القرن التاسع ق. م تظهر الجمال كجزء من الغنائم التي حصل عليها ملوك الآشوريين كلما كان العرب، وحدهم أو مع غيرهم من الشعوب، هدفا لحملات هؤلاء الملوك. والشيء ذاته نجده في النصوص الفارسية فيما يخص علاقة الفرس بالعرب. وحين قام الملك الفارسي حشويرش "الذي عرفه اليونان باسم إكسركسيس XERXES" بحملته على بلاد اليونان في أوائل القرن الخامس "480ق. م" كان جنود الفصائل العربية في جيشه يركبون الجمال21.
وفي واقع الأمر فإن اقتران الجمل باسم العرب ليس شيئا عفويا؛ فالجمل بالنسبة لأهل البادية هو رمز الحياة التي لا يستطيع العرب أن يتصوروها بدونه، فالعربي يشرب لبن الناقة -أنثى الجمل- حتى يوفر المياه "ولنتذكر أن المياه عزيزة في البادية" للماشية التي يعيش عليها بما فيها الجمل نفسه. وهو يأكل لحم الجمل ويغطي نفسه برداء مصنوع من جلده، ويصنع خيمته من وبره ويستخدم بعره وقودا في أغراض الطهي أو التدفئة، ومن بوله يتخذ دواء لبعض الأمراض بما فيها الأمراض التي تصيب الشعر، ولا يقتصر دور الجمل في حياة عرب البادية على ذلك، إذ هو وسيلتهم الأساسية للمواصلات ووسيلتهم
21 عن ورود ذكر الجمل في النصوص الآشورية راجع anet ص279 "نص من عهد شلمنصر الثالث، 858-824ق. م." صفحات 283-284 "نصان من عهد تجلات بيليسر الثالث 744-727 ق. م" قارن luckenbill: arab، ج1، نصوص 610، 772، 815-819. عن ظهور الفصائل العربية في جيش حشويرش وهي تركب جمالًا راجع herodotos:
VII،86-7.
الوحيدة للمواصلات البعيدة، إذ هو الحيوان الوحيد المؤهل لنقل الأحمال الثقيلة لمسافات بعيدة بحكم تكوين خفه الذي يساعده على المسير في الرمال بحمولته الثقيلة دون أن يغوص فيها، وبحكم قوته واحتماله وصبره الشديدين. فهو يستطيع أن يحمل أربعة أطنان ويقطع بها 60 ميلًا في اليوم في الصحراء كما يستطيع أن يسافر عشرين يوما بدون ماء في درجات الحرارة العالية، وأكثر من ذلك إذا أعطي شيئا من الكلأ الأخضر، وإلا فهو يستطيع أن يواصل سفره خمسة أيام أخرى قبل أن يموت. ومن هذا المنطلق نقدر دور الجمل في الحركة التجارية الواسعة التي مارسها العرب بشكل نشط قبل الإسلام والتي كانت قوافل الجمال تحمل خلالها منتجات شبه الجزيرة من البخور واللبان والطيوب إلى خارج المنطقة لتعود بالسلع التي يحتاجها أهل البلاد، الأمر الذي شكل المورد الاقتصادي الأول عند سكان شبه الجزيرة والمصدر الأساسي لثروتهم. ومن هذا المنطلق كذلك نستطيع أن نقول: إن الجمل بصفاته هذه، كان عاملًا أساسيًّا في تسهيل مهمة العرب في أثناء الفتوح التي تمت بعد غروب العصر الجاهلي، وظهور الدعوة الإسلامية.
وفي مقدورنا أن نتبين الأهمية الكبيرة التي أضفاها عرب شبه الجزيرة على الجمل من ظاهرتين أساسيتين: إحداهما هي أن ثروة العربي كانت تقدر بعدد ما يملكه من جمال "إلى جانب ما كان يملكه من نخيل" على أساس أن الجمل يمثل أثمن سلعة في البادية. ومن هذا المنطلق كذلك كان الجمل يشكل ما يمكن أن نسميه العملة الصعبة في المعاملات، إذا جاز لي أن أستخدم تعبيرا معاصرا. فالمهر الذي يدفع لأهل العروس، والدية التي يتقاضاها أهل القتيل، والربح الذي يحصل عليه لاعب الميسر كانت كلها تقدر بعدد من الجمال. أما الظاهرة الثانية التي تشير إلى أهمية الجمل في حياة العرب في عصر ما قبل الإسلام فهي هذا العدد الهائل من الأسماء والصفات التي أعطيت للجمل "أو الناقة" فيما يخص أنواعه ودرجات لونه ومراحل نموه وطرق سيره وهي
أسماء تظهر بشكل واضح في أشعار العرب في العصر الجاهلي22.
وإذا كان القرآن الكريم "كمصدر نستقي منه جانبًا من معلوماتنا عن حياة العرب في العصر السابق للإسلام" قد ألمح إلى الجمل كوسيلة نقل لحمل الأثقال إلى مسافات وبلاد بعيدة، فقد أشار إلى الخيل والبغال والحمير كدواب للركوب أو الزينة. وفي هذا المجال فإن الحمار هو أقدم هذه الدواب جميعًا، فقد عرفه الساميون من فترات بالغة في القدم كوسيلة للنقل. وهو يظهر في وادي الرافدين على سبيل المثال مع بداية تاريخهم. بل إنهم حين بدءوا يعرفون الجمل سموه "في اللغة الأكدية" حمار البحر "ربما إشارة إلى أنه أتى من الشاطئ العربي لمنطقة الخليج" وفي هذا الوصف وحده دليل على أن معرفتهم بالحمار كانت أقدم بكثير. والقبائل العربية البدوية كانت متاخمة لوادي الرافدين ومن ثم فإن معرفة أحد الجانبين للحمار كانت تعنى بالتبعية معرفة الجانب الآخر له. ولكن الحمار كان بالضرورة وسيلة نقل لا تلبي في قطع المسافات الطويلة وبخاصة في رمال البادية، ومن ثم فإن استخدامه لا بد أنه كان محدودا وقاصرا على الحضر وأماكن الاستقرار كدابة لركوب العوام. ولعل هذه الصفة هي التي جعلت العرب تضعه في مرتبة أدنى بكثير من مرتبة
22 تحمل الجمل للنقل في المسافات البعيدة يأتي في القرآن الكريم بشكل متضمن في سورة النحل: آية 7. عن تفصيل حمولته ومدى احتماله راجع rodinson. ذاته، ص13؛ hitti: ذاته، ص22. عن اتخاذ بول الجمل دواء لبعض الأمراض نجد ذلك في أحد أبيات لبيد بن ربيعة "560-661م" في لويس شيخو -أفرام البستاني: المجاني الحديثة، ج1، بيروت 1960، ص122، بيت 34، يصف فيه طريقًا تقطعها ناقته:
يهوي إلى قصب كأن جمامه
…
سملات بول أُغليت لسقيم
عن استخدام الجمل كوسيلة للمعاملة بدلا من المال راجع hitti: ذاته، ص22، وجواد علي: ذاته، ص197.
الجمل كما يظهر في أشعارهم23.
ويأتي الحصان بعد الحمار من حيث قدم التعرف عليه من جانب عرب شبه الجزيرة، وإذا كانت أنواعه الجيدة قد اقترنت باسم العرب، إلا أنه حيوان دخيل على العرب وبقية الشعوب السامية على السواء، فقد كان أول من دجَّنه وحوله بذلك إلى حيوان أليف هم الرعاة من القبائل الآرية "الهندوأوروبية" في بعض المناطق التي تقع إلى شرقي بحر الخزر، ثم استورده الكاشيون "من المجموعات التي استقرت في وادي الرافدين" والحيثيون "في آسيا الصغرى" وأدخلوه إلى غربي القارة الآسيوية في أواسط الألف الثانية ق. م. ومن سوريا عرف طريقه إلى شبه جزيرة العرب في الفترة السابقة للعصر الميلادي.
ولكن الحصان لم يصبح في الواقع أداة نقل في المقام الأول عند عرب شبه الجزيرة. وإنما استفاد العرب من سرعته ومن بعض صفاته الأخرى في الغارات التي كانت تقوم بها القبائل فيما بينها في العصر السابق للإسلام. أما فيما عدا ذلك فقد كان دابة ترف بالنسبة للعرب، إذ كانت مهمة إطعامه والعناية به تشكل عبئا بالنسبة لأهل البادية، ومن ثم فقد كان اقتناؤه لا يتيسر إلا لمن كان على قدر من الثراء، وكان يعتبر في الواقع مظهرا من مظاهر هذا الثراء وما يتصل به من ممارسات. فالحصان كان يستخدم، إلى جانب الغزوات أو الغارات، في بعض أنواع الرياضة مثل: الصيد والسباق الذي يبدو أنه كان
23 الإشارة في القرآن الكريم إلى الخيل والبغال والحمير في سورة النحل: آية 8. عن انتقال الحمار من الشواطئ العربية للخليج إلى العراق راجع جواد علي: ذاته، ص197. وضع العرب للحمار في مرتبة أدنى من الجمل يظهر، على سبيل المثال، في بيت للمتلمس "توفي 580م"، راجع شيخو - البستاني: المجاني، ص192، بيت1.
هواية وصلت عند عرب الجاهلية إلى قدر كبير من التفصيل والتفنن والإتقان24.
وأخيرا يأتي البغل كدابة ركوب أو نقل. ويشير كتاب السير من العلماء المسلمين إلى أن أول بغلة رئيت في الإسلام كانت بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مما يستنتج منه أن هذه الدابة كانت نادرة الاستخدام في العصر الجاهلي. ولكن يبدو، إذا صحت رواية هؤلاء الكتاب، أن حديثهم لا يشمل شبه الجزيرة بأكملها، ولعلهم، وهو الأرجح، كانوا يقصدون منطقة الحجاز؛ إذ إن الحديث يدور عن بغلة أهداها المقوقس للرسول -صلى الله عليه وسلم25.
واستند في هذا الافتراض إلى بعض القرائن: فمن جهة نجد أن ذكر البغال
24 عن تدجين رعاة القبائل المتحدثة بالآرية للحصان ودخوله إلى وادي الرافدين مع الكاشيين راجع g.roux: ذاته، ص221. عن دخوله إلى شبه جزيرة العرب من المنطقة السورية راجع hitti: ذاته، ص20، وأؤيد هذا بأن الحصان قد عرف في المنطقة السورية ابتداء من القرن السادس عشر ق. م. على الأقل، استنادا إلى أن جماعات الهكسوس التي اجتاحت مصر الشمالية قادمة من المنطقة السورية في ذلك الوقت "فرارا بدورها أمام اجتياح جماعات آرية من آسيا الصغرى" قد أدخلت استخدام الحصان إلى مصر بعد أن نقلت ذلك بدورها من جماعات من آسيا الصغرى راجع G.H.Breasted: A History of Egypt from the Earliest "New york 1964 Bantam Books" Times to the Persian Conquest ص186 عن الحدث وص501 عن تحديد التاريخ. عن إشارات القرآن الكريم إلى الحصان كدابة من دواب الزينة، سورة آل عمران: 14، النحل:8، كدابة حرب، سورة الأنفال:60، الإسراء:64. عن استخدام الحصان للصيد والرياضة يظهر في عديد من المواضع في الشعر الجاهلي، على سبيل المثال، عند امرئ القيس في شيخو- البستاني: المجاني، ص36، أبيات 61-68، وعند زهير بن أبي سلمى في شيخو - البستاني: ذاته، صفحات 91-92. عن مدى التفنن في رياضة السباق بالخيل نجد عشرة أسماء عند عرب شبه الجزيرة لترتيب الخيل في السباق وهي: السابق أو المميز وهو أول الخيل في الوصول إلى الهدف، ثم المصلي والمسلي والتالي والمرتاح وهو الخامس، ثم العاطف والخطي والمؤمل والسكيت وهو العاشر: راجع دراستنا "الكيان العربي" بيروت، 1965.
25 ابن سعد: الطبقات، بيروت 1957، ج1، ص491.
ورد في سورة النحل وهي سورة مكية والسور المكية نزلت قبل هجرة الرسول إلى المدينة، بينما التراسل بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المقوقس لم يتم إلا بعد أن استقرت الدعوة الإسلامية في أعقاب الهجرة إلى المدينة. ومن جهة أخرى فإن شبه الجزيرة العربية كانت بها أقسام صخرية أو جبلية مثل منطقة الأنباط في شمالي غربي شبه الجزيرة التي أطلق عليها الكتاب الكلاسيكيون اسم "بلاد العرب الصخرية" Arabia petraea لكثرة ما بها من صخور "بل إن عاصمتهم -البتراء- هي مدينة كاملة واسمها هو في حد ذاته ترجمة حرفية لكلمة petra اللاتينية التي تعني الصخرة أو الحجر" وكذلك مثل بعض مرتفعات اليمن. ومثل هذه المناطق الوعرة أو المرتفعة لا يمكن للجمل أن يسير فيها أو يتسلقها، والبغل قادر على ذلك ومن ثم لا يمكن الاستغناء عنه كدابة للركوب أو لحمل الأثقال التي يستطيع البغل أن يحمل قدرًا لا بأس به منها. كذلك فإن البغل كان معروفا في منطقة فلسطين ومن هنا فإن الانتفاع به على الأقل في المناطق الصخرية القريبة من فلسطين يصبح أمرا واردا.
أما عن بقية الحيوانات المستأنسة التي عرفتها شبه جزيرة العرب في الجاهلية فهي الأغنام والماعز والكلاب اللازمة للحراسة بالضرورة والقطط. وغير هذه كانت توجد الحيوانات البرية مثل الأسد الذي كان موجودا في الجاهلية وكانت له عدة أسماء يتسمى بها العرب ولكنه انقرض الآن، والفهد وبعض الزواحف والهوام مثل الثعابين والحيات التي يبدو أنها كانت منتشرة بشكل ظاهر في شبه الجزيرة26 وبعض أشباه الزواحف مثل الضب، وحيوانات
26 عن ثعابين شبه الجزيرة في النصوص الآشورية راجع luckenbill: arab، ج2، نصوص 209، 229؛ في المصادر الكلاسيكية انظر Herodotos، III،107 حيث يحدثنا المؤرخ عن ثعابين مجنحة ذات ألوان متعددة، كذلك Strabo ، XVI،4،19، الذي يتحدث عن نوع من الحيات القافزة ذات لون أحمر داكن.
أخرى مثل القرود التي لا تزال موجودة في المناطق الجبلية باليمن حتى الآن، ثم الجراد وبعض الطيور الجارحة مثل العقاب والباز والنسر والصقر والبومة، وعدد من الطيور الأخرى مثل الغراب والهدهد والعندليب والقطا، وهذه الأخيرة يبدو أنها نالت استحسان عرب الجاهلية لسبب أو لآخر "لعله جمالها أو وداعتها إلى جانب استخدامها كطعام شهي" فخلَّدوها في أشعارهم.