المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التكوينات السياسية: - العرب في العصور القديمة

[لطفي عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تقديم الطبعة الثانية

- ‌تقديم الطبعة الأولى

- ‌المحتوى

- ‌القسم الأول: المنطقة والشعب والأرض

- ‌الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب

- ‌إبعاد منطقة نشوء الحضارات

- ‌تحديد المنطقة

- ‌ المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة:

- ‌ المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى:

- ‌أسباب نشأة الحضارات الاولى في هذه المنطقة

- ‌مدخل

- ‌ ظرف المناخ:

- ‌ ظرف المواصلات السهلة:

- ‌ الحدود شبه المانعة للمنطقة:

- ‌شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات

- ‌حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب

- ‌ مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام:

- ‌الباب الثاني: الساميون وشبه الجزيرة والعرب

- ‌قضية الساميين أو الشعوب السامية

- ‌مدخل

- ‌ افتراض لوجود عنصر سامي:

- ‌ رد على هذا الافتراض:

- ‌قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب

- ‌ملاحظات مبدئية

- ‌افتراض اصل افريقي للساميين

- ‌ افتراضات أصل آسيوي للساميين:

- ‌ حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب:

- ‌الساميون والعرب

- ‌مدخل

- ‌ ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين:

- ‌ تصور مطروح حول هذه الفكرة:

- ‌ العرب وفكرة الأصل السامي:

- ‌الباب الثالث: شبه جزيرة العرب: الملامح العامة

- ‌ الموقع والسطح والأقسام الطبيعية:

- ‌ المناخ:

- ‌ النبات والحيوان:

- ‌القسم الثاني: المصادر

- ‌الباب الرابع: الاثار والنقوش

- ‌مدخل

- ‌ قيمة الآثار والنقوش في التاريخ لشبه الجزيرة:

- ‌امثلة من المخلفات الأثرية

- ‌مدخل

- ‌ الآثار المعمارية:

- ‌ النحت والمخربشات:

- ‌ الفخار والعملة:

- ‌النقوش

- ‌نقوش عن الاحوال الداخلية لشبه الجزيرة

- ‌ نقوش عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة:

- ‌ تقويم عام للنقوش:

- ‌الباب الخامس: المصادر الدينية

- ‌مدخل

- ‌القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌ أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن:

- ‌ أمثلة عن الحياة الدينية في شبه الجزيرة:

- ‌ مثال لتكوين المجتمع في شبه الجزيرة:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ التوراة والتلمود:

- ‌الباب السادس: المصادر الكتابية

- ‌مدخل

- ‌الكتاب الكلاسيكيون

- ‌كتاب المرحلة المبكرة

- ‌ كتاب العصر المتأغرق:

- ‌ كتاب العصر الروماني:

- ‌ كتاب العصر الإمبراطوري الروماني المتأخر:

- ‌الكتابات العربية في العصر الاسلامي

- ‌صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات

- ‌ استثناءات ممكنة من هذا التعميم:

- ‌الباب السابع: الشعر الجاهلي

- ‌ الشعر كمصدر تاريخي:

- ‌ اعتراضات على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي:

- ‌ ردود على هذه الاعتراضات:

- ‌ حول مجالات الشعر الجاهلي:

- ‌القسم الثالث: المجتمع

- ‌الباب الثامن: الوضع الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌الرعي

- ‌الرعي والرعاة

- ‌ الموارد المكملة لحياة الرعاة:

- ‌الزراعة والمحاصيل الطبيعية

- ‌المورد الزراعي

- ‌ المحاصيل الطبيعية:

- ‌التجارة

- ‌مدخل

- ‌ أهمية هذا المورد ومظاهر ذلك:

- ‌ طرق التجارة البرية:

- ‌ النشاط التجاري البحري:

- ‌ التعدين والصناعة:

- ‌الباب التاسع: الأوضاع الداخلية

- ‌مدخل

- ‌الوضع السياسي

- ‌مدخل

- ‌ التكوينات السياسية:

- ‌ نظام الحكم:

- ‌الوضع الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌ عوامل التماسك:

- ‌ عوامل الانقسام:

- ‌الوضع الديني

- ‌مدخل

- ‌ تطور العقائد الدينية وانتشارها:

- ‌ الظروف المحيطة بالحياة الدينية:

- ‌الباب: العاشر: العلاقات الخارجية

- ‌المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية

- ‌بدايات غير محددة

- ‌ العلاقات مع العبرانيين:

- ‌ العلاقات مع القوى الشرقية:

- ‌المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية

- ‌الاسكندر الأكبر والدول المتأغرقة

- ‌ العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية:

- ‌المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب

- ‌مدخل

- ‌ الإمارات العربية الحدّية:

- ‌ الدين والسياسة في الصراع الدولي:

- ‌الملاحق

- ‌اللوحات

- ‌ الخرائط:

- ‌مختارات من‌‌ المصادروالمراجع

- ‌ المصادر

- ‌ المراجع

الفصل: ‌ التكوينات السياسية:

على الأوضاع التي سادت شبه الجزيرة بشكل يظهر في كل قسم من أقسامها حسب موارده الاقتصادية ومدى تفاعلها مع الظرف التاريخي في مرحلة أو أخرى من مراحله.

ص: 342

‌الوضع السياسي

‌مدخل

1-

الوضع السياسي:

وفيما يخص الوضع السياسي فقد ظهر هذا الاختلاف من قسم إلى قسم فيما يخص التكوين العام من جهة، وأعني بذلك الشكل السياسي الذي برز في كل قسم، سواء أكان ذلك تكوينًا صغيرًا أو كبيرًا، أم كان تكوينًا مستقلًّا أم تابعًا أم يقف في نقطة توازن متحركة بين الاستقلال والتبعية، ومن جهة أخرى من حيث نوعية التنظيم السياسي أو نظام الحكم الذي وجد في قسم أو في آخر من أقسام شبه الجزيرة.

ص: 342

أ-‌

‌ التكوينات السياسية:

وأحد الأشكال أو التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية هو التكوين القبلي، ولا أعني هنا التكوين القبلي بمفهومه الاجتماعي، فقد وجدت القبائل كوحدات اجتماعية في كل أرجاء شبه الجزيرة، ولكني أعني التكوين أو الشكل القبلي الذي تصبح فيه القبيلة إلى جانب وظيفتها الاجتماعية وحدة سياسية كذلك تتصرف بوصفها كيانا سياسيا قائما بذاته سواء في أمورها الداخلية أو في علاقاتها الخارجية بما يدخل في ذلك من حرب وسلام واتفاقات وتحالفات ومناورات وغير ذلك من أشكال هذه العلاقات. وفي هذا الصدد فقد كانت الوحدة السياسية القبلية هي الشكل المنتشر في البادية؛ أدت إلى ذلك طبيعة هذه البادية بقسوتها التي كانت تدفع كل قبيلة إلى التنقل وراء الكلأ حيثما وجد انتجاعًا للمرعى -وهو وضع كان الشكل السياسي الوحيد الذي يتواءم معه هو الوحدة السياسية الصغيرة، وهي القبيلة.

ص: 342

وقد كانت الأسرة هي الخلية التي تتألف القبيلة من تكرارها وتكويناتها، تعيش الأسرة في خيمة أو ربما في عدد صغير من الخيام، وكل مجموعة من الأسر تشكل حيًّا أو قومًا يعتقدون، حقيقة أو تصورًا، أنهم ينحدرون من أصل واحد ومن ثم تربط بينهم آصرة الدم أو القرابة، ومن مجموع هذه الأحياء أو الأقوام تتكون القبيلة. وقد عبر أبناء الحي أو القوم الواحد عن آصرة القرابة التي تربط بينهم بانتسابهم إلى اسم هو الجد الأول لهم فيما كانوا يعتقدون، فهم بنوه الذين يعرفون ويتعاملون ويتفاخرون باسمه. فهناك بنو الأصفر وبنو جرم وبنو جرهم وبنو شاكر وبنو عباد وبنو عبد القيس وبنو هذيل، وبنو ذبيان، إلى آخر هذه الأسماء. وقد يسمي أبناء القبيلة كلها "أو ربما عدد من القبائل" أنفسهم أنهم بنو فلان أو غيره مثل: بني تنوخ أو بني لخم، ولكن الوضع السائد عادة هو أن هذه التسمية كانت لتمييز الأحياء أو الأقوام.

كذلك نجد بين بعض هذه الأسماء التي انتسبت إليها الأحياء أسماء نساء تشير بالضرورة إلى إحدى المراحل التي مر بها مجتمع البادية وهي المرحلة الأموية matriarchal التي كانت فيها الأم هي محور رابطة القرابة أو الدم ومن ثم كان الانتساب إليها. وهكذا وجد من بين عرب شبه الجزيرة أقوام مثل بني بجيلة وبني البقعاء وبني جهينة وبني ربيعة وبني فزارة وبني حنيفة وبني الرباب وبني أمية وبني جذيمة، وقد ظلت هذه التسميات الأموية قائمة حتى بعد أن انقرض النظام الأموي وحل محله النظام الأبوي patriarchal، بل لقد وصل الأمر إلى أن أصبحت بعض هذه الأسماء أسماء لذكور مثل أمية بن أبي الصلت أو جذيمة بن الأبرش. هذا، وجدير بالذكر هنا أن انتساب بعض الأقوام إلى نسب أموي ليس شيئًا غريبًا في حد ذاته، فقد كانت المرحلة الأموية إحدى المراحل التي مرت بها أغلب المجتمعات القديمة عامة، سواء في شبه الجزيرة العربية أو في غيرها من المناطق.

كذلك كان يحدث في بعض الأحيان أن يظهر نوع من التكوين القبلي

ص: 343

ينتظم عددًا من القبائل تتكتل في هيئة مجموعات موحدة بصورة أو بأخرى ولسبب عارض أو دائم تحت رئاسة أو زعامة واحدة. ومثل هذه التكتلات العربية نستنتج وجودها من عدد من النقوش الآشورية التي نجد واحدًا منها يشير إلى قوة عسكرية "عربية" تحت زعامة "جندبو" كواحدة من القوات المتحالفة مع ملك دمشق ضد الملك الآشوري شلمنصر الثالث "858-824ق. م" كما نجد عددا آخر منها يشير إلى صدامات عسكرية أو علاقات سياسية مع عدد من الشخصيات يوصف كل منها بأنه "ملك بلاد العرب" أو أنها "ملكة بلاد العرب" على نحو ما سنرى بالتفصيل في حديث قادم. والشيء ذاته نستنتجه من بعض مواضع في التوراة نجد فيها العرب يتكتلون مرة مع الفلسطينيين لاكتساح مملكة يهوذا "أو يهودية" في عهد الملك العبراني يهورام "851-843ق. م"، ثم نجد خلفه الملك عزّيّا "779-740ق. م" ينتصر على الفلسطينيين وعدد من حلفائهم من بينهم "العرب الساكنون في جور بعل" على نحو ما مر بنا في مناسبة سابقة. وكلها إشارات يدل ما جاء فيها من تسميات وما أحاط بها من ملابسات على أن المقصود هو تكتلات أو تجمعات قبلية وليست قبائل منفردة1.

وإلى جانب هذا النوع من التكوينات السياسية، وهو التكوين القبلي سواء اتخذ شكل قبائل منفردة أو تجمعات من القبائل، وجد نوع آخر هو الإمارات أو الممالك الصغيرة التي قامت إما حول مراكز تجارية أو عند نقطة توازن بين دولتين كبيرتين متصارعتين أو على حدود كل من هاتين الدولتين، تدخل في منطقة نفوذ الواحدة أو الأخرى منهما وتعمل لحسابها لحماية حدودها

1 أمثلة للنقوش الآشورية في ANET، صفحات 279، 283-286، 291. أمثلة لنصوص التوراة في سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 21: 16 وما بعدها، عن الظروف والملابسات راجع الباب العاشر الخاص بالعلاقات الخارجية في هذه الدراسة.

ص: 344

ضد أية غارات من البدو أو من جانب القوة الأخرى. والصفة المشتركة بين هذه الإمارات أو الممالك الصغيرة هي أن وجودها كان عابرًا، إذ كان يتوقف على بقاء أوضاع تجارية مواتية أو على بقاء علاقات وظروف دولية بين الدول الكبيرة المتصارعة، كما كان تدهورها أو اندثارها معلقًا بأي تعديل في مسار الخطوط التجارية أو أي تغيير في ميزان العلاقات بين الدول الكبيرة المتصارعة.

ومن بين هذه الإمارات أو الممالك، مملكة الأنباط التي قامت في القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية حول المدينة التي عرفت في نصوص التوراة باسم "سيلع" أي: الصخرة، والتي عرفها الكتاب اليونان باسم بترا PETRA وهي الترجمة اليونانية للفظة ذاتها كما أنها الاسم الذي لا تزال المدينة تعرف به حتى الآن في صورته العربية "البتراء" والأنباط الذين كانوا في بدايتهم قبائل بدوية متنقلة استولوا من الإيدوميين في القرن السادس ق. م. على المنطقة السهلية التي تشرف عليها المدينة "وهي المنطقة التي تعرف الآن باسم وادي موسى" ثم ما لبثوا أن استولوا على المدينة ذاتها التي كانت موقعًا أساسيًّا على الخط التجاري الذي كان يصل بين سبأ والمناطق المجاورة في جنوبي شبه الجزيرة وبين الموانئ السورية في الشمال2.

وقد وصل الأنباط نتيجة لهذا الموقع التجاري الحيوي الذي تميزت به عاصمتهم إلى قدر ظاهر من الازدهار الاقتصادي مكنهم من توسيع حدود

2 عن استيطان الأقباط راجع:

DUSSAUD: LA PENETRATION DES ARABES EN SYRIE صفحات 21-24. عن اسم سيلع في التوراة راجع: نبوءة أشعيا، إصحاح 46: 1، 42: 11، سفر الملوك الثاني، 17: 7. عن اسم بترا petra عند الكلاسيكيين راجع أمثلة في strabo: XVI، 4: 21،23،24 كذلك: Plinius: HN، VI، 44.

ص: 345

مملكتهم على حساب جيرانهم، ففي 87 ق. م. أدخلوا ضمن هذه الحدود دمشق ومنطقة البقاع "جوف سورية koele syria في تعبير الكتاب اليونان" كما ضموا إلى مملكتهم كذلك المنطقة الشمالية من الحجاز "مدائن صالح" ربما في القرن الأول الميلادي، ولكن هذا القرن "الأول الميلادي" كان قد بدأ يشهد تطورين ما لبثا أن أديا إلى تدهور هذه المملكة ثم سقوطها واندثارها. ففي غضون هذا القرن نشط الخط التجاري البحري الذي يمر من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي ومن ثم انتقل إليه قسم غير قليل من التجارة التي كانت تنقل على الخطوط البرية، كذلك تزحزح مسار الخط البري الطولي من اليمن إلى سوريا نحو الشرق قليلًا فلم تعد البتراء تمثل موقعًا تجاريًّا حيويًّا، كما تزحزح الخط التجاري العرضي الذي كان يمر بين وادي الرافدين والشواطئ السورية نحو الشمال، فانتقلت الأهمية التجارية من البتراء إلى تدمر في الشمال، وكان هذا إيذانًا بالتدهور الاقتصادي لمملكة الأنباط3.

أما التطور الآخر فهو أن مملكة الأنباط كانت في هذا القرن قد بدأت تسترعي انتباه الإمبراطورية الرومانية بشكل متزايد بعاصمتها المنيعة التي تحصنها التكوينات الصخرية المحكمة من ثلاث جهات هي الشرق والغرب والجنوب بحيث لا يمكن النفاذ إليها إلا من ممر ضيق بين الصخور في الشمال. وهكذا رأت روما في المنطقة حاجزا حدّيّا أمام محاولات الفرثيين "الإمبراطورية الفارسية" للتوسع على حساب أراضي الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم أدخلت مملكة الأنباط في دائرة نفوذها في شكل تبعية غير رسمية. ورغم أن هذه التبعية لم تؤثر في البداية على ازدهار المنطقة "بل لقد وصل هذا الازدهار إلى درجة كبيرة في ظل هذه التبعية التي انحصر هدفها في القيمة العسكرية للموقع

3 عن التوسع في سورية وفي الجنوب راجع: hitti، ذاته، ص 68. عن تحول الخط التجاري للشمال راجع: kammerer: petra et la nabatene "paris 1929" ص307.

ص: 346

فحسب" إلا أن هذه التبعية لم تلبث أن وصلت إلى نهايتها المنطقية حين ضمت روما مملكة الأنباط إلى إمبراطوريتها بشكل رسمي في 105م على عهد الإمبراطور ترايانوس "تراجان،70-106م" لتصبح من تلك السنة ولاية رومانية ويختفي نشاطها من سجل التاريخ لعدة قرون4.

والإمارة أو المملكة الأخرى التي تمثل هذا النوع من التكوينات السياسية هي تدمر التي يرجع قيامها وازدهارها إلى موقعها الذي يتحكم في خط تجاري حيوي من جهة ويشغل منطقة حدية مهمة في مجال التوازن بين القوتين الكبيرتين المتصارعتين في الشرق والغرب. ورغم أن تدمر لم تظهر على مسرح التاريخ كتكوين سياسي محسوس إلا منذ أوائل القرن الأول الميلادي، إلا أنها كانت موجودة قبل ذلك، ففي أحد النقوش التي ترجع إلى عهد الملك الآشوري تجلات بيليسر الأول "1114-1076ق. م" نجد ذكر هذه المدينة "تدمر بفتح الميم في النطق الآشوري""الواقعة في آمورور" أي الغرب كموقع من المواقع التي اجتاحها هذا الملك في طريقه إلى سورية. ثم نسمع عنها بعد ذلك بأكثر من عشرة قرون حين يحاول القائد الروماني ماركوس أنطونيوس marcus antonius أن يستولي عليها في 42-41 ق. م. أما ظهورها ككيان سياسي يتميز عن مجرد كونه مكانًا أو موقعًا يشكل واحة في الصحراء الممتدة بين وادي الرافدين وسورية فيعود إلى ما قبل القرن الأول بقليل إذ ترجع أول نقوشها المحلية إلى 9 ق. م5.

وقد دخلت تدمر في دائرة النفوذ الروماني في أوائل القرن الأول الميلادي

4 عن التبعية غير الرسمية لروما strabo: XVI، 4:21. عن تحويل المملكة إلى ولاية رومانية

ammianus marcellinus: Rerum gestarum libri، XXXII، 14، 8:13.

5 بترا كمنطقة توازن حدية في plinius: HN، V، 38. في نص تجلات بيليسر في anet ص275.

ص: 347

وأصبحت ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني وظلت كذلك حتى الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي ولكنها مع ذلك نظرًا لموقعها الحدي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية كانت ولاية من نوع متميز بعض الشيء فلم ترسل روما ولاة رومانيين إليها، وإنما كان حكامها من أبنائها المحليين الذين أبدوا ولاءً غير عادي لروما في التصدي لمحاولات التوسع الفارسية على حساب الحدود الرومانية الشرقية. وفي ظل هذا الوضع المتميز وصلت تدمر إلى قمة ازدهارها الاقتصادي بين 130 و270م، وبخاصة بعد أن نشطت طريق التجارة البرية الآتية من الصين إلى الغرب مارة بهذه المدينة وهو ازدهار مَكَّن مملكة تدمر من أن توسع حدودها فلم تعد قاصرة على العاصمة والقرى أو المدن الصغيرة الواقعة بقربها وإنما اتسعت منطقة نفوذها، كمكافأة من الإمبراطور، لتشمل سورية وشمالي شبه الجزيرة العربية. ولكن حين حاولت الزبَّاء أو زينب "زينوبيا zenobia عند الرومان" أن تستغل موقعها الحدي بين الشرق والغرب وتتفاهم مع الفرس وتعتمد على هذا التفاهم لتحصل على مناطق توسع جديدة في آسيا الصغرى ومصر اجتاحت القوات الرومانية هذه المملكة ودمرت عاصمتها في 272م واختفت من فوق المسرح التاريخي ونسيت خرائبها حتى بدأ الرحالة وعلماء الآثار ابتداء من القرن الثامن عشر في اكتشافها وتكوين صورة تتضح يومًا بعد يوم عن تاريخها وحضارتها6.

كان هذان، إذن، مثالين من النوع الثاني للتكوينات السياسية التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية، وهو النوع الذي اتخذ شكل الإمارة أو المملكة الصغيرة. وقد قامت المملكة الأولى وهي مملكة الأنباط، كما رأينا،

6 dussaud: ذاته، صفحات 71-188. كذلك m. cary: Ahistory of rome، "london 1960" ط1، صفحات 724، 725، 728.

ص: 348

بشكل أساسي على أساس من موقعها الحيوي المتحكم في الخط التجاري الطولي الذي يصل جنوبي شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية من جهة، والخط التجاري الطولي الذي يصل جنوبي شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية من جهة، والخط التجاري العرضي الذي يصل بين وادي الرافدين والمنطقة السورية، وحين تدهورت أهمية موقعها تدهورت معه المملكة وانتهت بالسقوط. أما المملكة الثانية وهي تدمر فقد قامت على أساسين متوازيين، أولهما هو الموقع التجاري الأوسط الذي يحكم الطريق التجارية العرضية بعد أن تزحزحت نحو الشمال، وثانيهما هو الاعتماد على موقعها الاستراتيجي المتوسط بين القوتين المتصارعتين: الإمبراطورية الفارسية في الشرق والإمبراطورية الرومانية في الغرب، بأن تضع نفسها في خدمة إحداهما وهي الإمبراطورية الرومانية، ولكنها حين حاولت أن تحول اللعبة لحسابها بتغيير ولائها إلى الجانب الآخر، أثبتت لعبة القوى الكبرى أنها أقوى منها، فدمرها الرومان ولم يساعدها الفرس.

أما المثال الثالث لهذا النوع الثاني من التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية، وهو الممالك أو الإمارات الصغيرة، فتمثله إمارتان قامت إحداهما على حدود الإمبراطورية الفارسية والأخرى على حدود الإمبراطورية الرومانية. أما الأساس الذي قامت عليه كل منهما، فهو في قسم بسيط منه وقوع أقسام من الخطوط التجارية في أراضيهما، ولكن القسم الأهم منه هو قيام كل من هاتين الإمارتين بحماية حدود الإمبراطورية التي تدين لها الإمارة بالتبعية والولاء سواء من غارات البدو أو من محاولات التوسع التي يقوم بها الجانب الآخر -هاتان الإمارتان هما إمارة الغساسنة على الحدود الشرقية للشام وإمارة اللخميين على التخوم الغربية لنهر الفرات.

وربما كان الغساسنة يشكلون في الأصل قبيلة يمنية هاجرت إلى منطقة حوران على أثر تصدع سد مأرب في القرن الثالث الميلادي تحت زعامة عَمْر

ص: 349

مزيقية بن عامر ماء السماء، ولكن المؤسس الحقيقي للإمارة بعد استقرارها في موطنها الجديد "إذا كانت حقيقة قد نزحت من اليمن" هو جفنة أحد أبناء هذا الزعيم أو الرئيس. وقد أسست هذه القبيلة إمارتها في المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من دمشق عند الطرف الشمالي للخط التجاري البري الذي يصل اليمن بالشام واتخذوا موقع "جابية" في الجولان عاصمة لهم كما كانت "جُلّق" عاصمة لهم بعض الوقت. وما لبث الغساسنة أن دخلوا في دائرة نفوذ الإمبراطورية البيزنطية "الرومانية الشرقية" ووضعوا أنفسهم في خدمة مصالحها في المنطقة، وكانت هذه المصالح تتمثل بالدرجة الأولى في الحفاظ على الحدود الشرقية للإمبراطورية على نحو ما أسلفت. وقد كان أهم ملوك هذه الإمارة هو الحارث الثاني أو الحارث بن جبلة "حوالي 529-569م" الذي لقب باسم الحارث الأعرج عند الكتاب المسلمين. وقد أظهر هذا الحاكم من الولاء للإمبراطور البيزنطي ما أدى بالإمبراطور يوستنيانوس justinianus "جستنيان" إلى أن يضفي عليه لقب فيلارخوس phylarchos وهو أسمى لقب في الإمبراطورية بعد لقب الإمبراطور، كما عينه في 529م سيدًا على كل القبائل العربية في سورية.

وقد أدى ملوك الغساسنة دورهم الذي تقتضيه تبعية إمارتهم للإمبراطورية البيزنطية، فدافعوا عن حدود هذه الإمبراطورية. وكان من بين ما قاموا به في هذا المجال حرب شرسة مستطيلة قام بها الحارث في أواسط القرن السادس الميلادي لصالح البيزنطيين ضد المنذر الثالث ملك الحيرة الذي كان بدوره يدافع عن حدود الإمبراطورية الفارسية. كذلك قام خلفه المنذر "الغساني" بغارة أحرق خلالها الحيرة عاصمة اللخميين. إلا أن البيزنطيين كانوا قد بدءوا يشكون في ولائه "لأسباب تتعلق بالمذهب الديني الذي كان يعتنقه" فأخذوه إلى القسطنطينية وسجنوه بعد ذلك في صقلية. أما ابنه النعمان فقد حاول أن يغير على بعض الأراضي التابعة للإمبراطورية فاستاقوه كذلك إلى

ص: 350

القسطنطينية. وبانتهاء حكم النعمان يشيع في مملكة الغساسنة قدر ظاهر من التفكك وعدم الاستقرار كما لا نستطيع التحقق الكامل من ظروفها إلى أن يتم فتح المنطقة في 636م على يد خالد بن الوليد في موقعة اليرموك في عصر الفتوح الإسلامية7.

أما إمارة اللخميين في الجانب الآخر فقد أقامتها مجموعة من القبائل من بني تنوخ الذين استقروا في المنطقة المتاخمة للضفة الغربية للفرات في أوائل القرن الثالث الميلادي "وهو ذات الوقت الذي استقر فيه الغساسنة في بادية الشام"، وكان التنوخيون يشكلون عددًا من قبائل مجموعة أكبر هي مجموعة قبائل اللخميين الذين ربما كانوا يشكلون هجرة يمنية إلى المنطقة وربما كانوا يشكلون مجرد تسرب بطيء من قبائل البادية إليها. وقد أقام التنوخيون مقرًّا لهم في الموقع الذي عرف بعد ذلك باسم الحيرة على مقربة من بابل "على مسافة كيلومترات قليلة جنوبي الكوفة". ونحو أواخر القرن ذاته أسس أحد التنوخيين وهو عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن لخم إمارة في المنطقة وضعت نفسها في خدمة الإمبراطورية الفارسية. وقد ظهر هذا واضحًا في اشتراك المنذر الأول إلى جانب الساسانيين في حربهم ضد البيزنطيين من 421م وفي قيام المنذر الثالث "حوالي 505-554" بغارات على سورية خربت أراضي المنطقة حتى أنطاكية إلى أن تصدى له الحارث الغساني.

وكما رأينا في حالة الإمارات السابقة، فهناك كذلك وصلت إمارة اللخميين إلى قدر من الاستقرار، كان من بين مظاهره قدر من النشاط المعماري المتقدم مثل قصر الخورنق الذي أقامه النعمان الأول "حوالي 400-418م" بالقرب من الحيرة والذي كان يعتبر أعجوبة معمارية في عصره، ومثل قصر السدير الذي يذكر لنا ياقوت الحموي أن النعمان أقامه كذلك، وكان يقوم

7 hitti: ذاته، صفحات 78-80.

ص: 351

في وسط الصحراء بين الحيرة وسورية، ومثل الدير، الذي أقامته إحدى أميرات هذه الإمارة وهي هند، أم عمرو بن هند، ومثل انتشار قدر من الحياة الثقافية في الحيرة. كما يدل على هذا الاستقرار كذلك ما وصل إلينا عن حياة البذخ التي كان يمكن للقصر أن يمارسها، كما تشهد على ذلك إشارات إلى توافد مغنين وموسيقيين من الرجال والنساء، سواء في ذلك الذين وفدوا من مكة أو البابليون أو اليونان.

ولكن هذا الاستقرار كان مرتبطًا دائمًا بإرادة الدولة الكبيرة، الإمبراطورية الفارسية، التي كان منطلقها الأساسي هو مصلحتها إزاء الصراع الكبير بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية، ومدى ثقتها في ولاء الأمراء اللخميين إزاء هذا الهدف. وهكذا فرغم ظروف التخلخل الذي كانت تمر به الإمبراطورية من حين لآخر حول مسألة العرش -وهي ظروف أتاحت الفرصة لبعض حكام إمارة اللخميين للتدخل في مناسبة واحدة على الأقل في تحديد الشخص الذي يلي العرش "كما حدث أيام المنذر الأول 418-462م"- إلا أن الوضع كان يتغير تماما إذا أحس الأباطرة الفرس بشيء من الشك في ولاء الأمراء اللخميين، وقد حدث هذا بعد حكم النعمان الثالث أو النعمان أبي قابوس بن المنذر "580-602م" إذ نجد الإمبراطور الفارسي يعين إلى جانب الأمير العربي، وهو النعمان بن قبيسة الطائي "602-611م" مقيما فارسيا يمسك في يده بمقاليد الحكومة وهكذا تحول الأمراء العرب في المنطقة إلى حكام بلا سلطة، وظل الأمر كذلك حتى الفتوح الإسلامية حين حصل خالد بن الوليد على استسلام الحيرة في 633م8.

وأصل الآن إلى المثال الأخير لهذا النوع الثاني من التكوينات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وهو الإمارات أو الممالك الصغيرة، وهذا المثال هو مملكة كندة التي قامت في المنطقة الوسطى من

8 "paris، 1921" ign، guidi: LArabie anteislamlque"، صفحات 11-19.

ص: 352

شبه الجزيرة كمملكة تابعة للملك اليمني حسان بن تبَّع الحميري، وكان قيامها، فيما أرجح، يشكل نوعًا من حصول الملك اليمني على منطقة نفوذ قريبة من إمارتي اللخميين والغساسنة كإجراء لازم في ضوء الصراع الفارسي البيزنطي الذي لم يقتصر على الحدود المباشرة بين هاتين الإمبراطوريتين، وإنما اتسعت دائرته لتشمل المناطق التي تمر بها الخطوط التجارية البرية والبحرية التي تصل إلى الإمبراطوريتين ومن ثم وجدت منطقة اليمن نفسها منساقة إلى الاشتراك بشكل أو بآخر في هذا الصراع وإلى اتخاذ بعض المواقف إزاءه.

وقد بدأ ظهور مملكة كندة حين عين الملك الحميري في الربع الأخير من القرن الخامس "حوالي 480م" أحد رؤساء قبيلة كندة وحو حُجْر آكل المرر حاكمًا على بعض القبائل العربية الموجودة في وسط شبه الجزيرة والتي كان الملك الحميري قد غزاها في فترة سابقة. وفي مجال العمل السياسي في هذا الصراع المثلث بين القوى الدولية استطاع أحد ملوك كندة وهو الحارث بن عمرو أن يسيطر على الحيرة بعد موت الإمبراطور الفارسي قباذ، ولكن المنذر الثالث، ملك الحيرة، تمكن من استعادة إمارته "في 529م" وأعدم الحارث ونحو خمسين من زعماء مملكة كندة، ليحل بعد ذلك في هذه المملكة نوع من التفكك وضع نهاية لوجودها السياسي. ورغم أن أحد أمراء هذه القبيلة، وهو امرؤ القيس، حاول أن يعيد كيان هذه المملكة بمساعدة الإمبراطور البيزنطي معتمدًا على العداء بين هذا الإمبراطور والإمبراطور الفارسي الذي كانت إمارة الحيرة تابعة له، إلا أن لعبة الدول الكبرى كانت أوسع من طموحه، وهكذا لم يحصل على المساندة المنشودة وباءت هذه المحاولة بالفشل. ولكن رغم اندثار مملكة كندة بعد فترة وجيزة من ظهورها إلا أن قيامها في حد ذاته، رغم قصر مدته، كانت له في رأي أحد الباحثين المعاصرين قيمة أساسية من حيث إنها كانت سابقة لاتحاد قبائل وسط شبه الجزيرة العربية،

ص: 353

أوجدت تصور الوحدة في هذه المنطقة ومن ثم كانت سابقة مهدت الطريق أمام توحيد المنطقة بعد ظهور الدعوة الإسلامية9.

هذا عن النوع الثاني من التكوينات السياسية التي عرفتها شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، وهو النوع الذي انتشر أساسًا في القسم الشمالي منها، أما النوع الثالث من هذه التكوينات فقد كانت تشكله الملكيات أو الممالك التي قامت في جنوبي شبه الجزيرة. وقد كان الأساس الذي قامت عليه هذه الملكيات أكثر ثباتًا واستقرارًا وأقل اعتمادًا على الظروف العارضة من الإمارات والممالك الشمالية. فبينما كانت هذه الأخيرة تقوم في المناطق الصحراوية وتعتمد على أساس من تجارة العبور التي تعتمد على الموقع التجاري ومن التوازن الدولي بين القوى الكبيرة المتصارعة في شرقي شبه الجزيرة وغربيها، ومن ثم تزدهر وتقوى إذا ظلت الخطوط التجارية في مكانها وعلى أهميتها وإذا ظل التوازن الدولي مواتيًا، نجد أن الأساس الذي قامت عليه ممالك الجنوب يختلف عن ذلك اختلافا جذريا، فقد عرفت هذه الممالك الجنوبية مساحات ممتدة من الأراضي الخصبة وقدرًا كافيًا ومنتظمًا من الأمطار الموسمية الغزيرة، وهكذا عرفت الأساس الاقتصادي الزراعي المستمر، بل لقد كان السكان لا يكتفون بالأراضي السهلية فيزرعون محصولاتهم على "الأجلال" أو المدرجات التي يسوونها على جوانب الجبال10.

كذلك عرفت المنطقة مساحات واسعة من الغابات الطبيعية والنباتات التي تنتج الطيوب والتوابل، وهي سلعة لم يكن للعالم القديم غناء عنها -الأمر الذي زاد من استقرار المورد الاقتصادي. أما المورد الذي شكل القسم الثاني من هذا الأساس الاقتصادي فهو ما سبقت الإشارة إليه في مناسبة سابقة وهو

9 GUIDI: ذاته، صفحات 28-30.

10 راجع الباب الثالث الخاص بملامح شبه الجزيرة في هذه الدراسة.

ص: 354

التجارة. وهذه التجارة لم تكن مثل نظيرتها في الشمال مجرد تجارة عبورية تعتمد على بقاء الخطوط التجارية وتختلّ إذا أصاب هذه الخطوط أي تغيير أو تعديل في مسارها، وإنما هي تجارة أصلية، الجزء الأكبر من مقوماتها "أو موادها الأولية" موجود في البلاد فعلًا، وإلى جانب كل من هذا فموقع هذه الممالك الموجود في جنوبي الجزيرة كان يجعلها بالضرورة على نقطة الانطلاق من بداية أية طريق برية نحو الشمال، كما كان موقعها عند ملتقى البحر الأحمر والمحيط الهندي يعطيها ميزة مضاعفة في مجال الخطوط التجارية، فالخطان البري والبحري موجودان، وإذا قوي أحدهما على حساب الآخر فإن هذا لا يدفع بها إلى خارج الصورة، وإنما تظل منتفعة في كل الأحوال11. وقد كانت نتيجة كل ذلك أن بقيت هذه الممالك طوال العصر القديم. حقيقة إن واحدة منها قد تصل إلى مركز القوة على حساب الأخريات في بعض الأحيان، ولكن واحدة منها لم تندثر، كما حدث في بعض الإمارات والممالك الشمالية، كما كانت الحال مع مملكة الأنباط أو مملكة تدمر على سبيل المثال.

أما الصفة الثانية التي تميزت بها ممالك العربية الجنوبية فهي ما نلحظه بينها، رغم تعددها، من توافق أو ما يشبه التوافق، يقترب بها من التداخل بقدر ما يبتعد بها عن التناحر والتصارع الذي نجده في بعض إمارات الشمال مثل إمارة الغساسنة وإمارة اللخميين. ولعل مرجع هذا إلى التكاملالاقتصادي فيما بينها؛ فبعض المناطق تنتج نوعًا من الطيوب والتوابل وبعضها ينتج نوعًا آخر وكلها تصب عند بداية خط القوافل البري الذي يمر في مناطق حددتها التضاريس الطبيعية وجعلتها أنسب من غيرها، ومن ثَمَّ لم يكن هناك بديل لها. وهكذا كان لا بد من قدر من الاتفاق بين هذه الممالك جميعًا لا يمكن الاستغناء عنه، فكل منطقة تعتمد على الأخرى، هذه تنتج وتريد أن تسوِّق تجارتها وتلك تمر القوافل من أرضها وتستفيد مما تجنيه من ذلك من رسوم وأجور

11 راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة.

ص: 355

على ما تقدمه من خدمات، وفي بعض الأحيان تجمع بين الموردين: الإنتاج والنقل وهكذا. ومن ثم كانت السيادة السياسية بين هذه الممالك تتعاصر أحيانًا وتتتابع أحيانًا، وتتفوق فيه مملكة على مملكة أخرى، أو تصل إحدى هذه الممالك إلى السيطرة على كل الممالك الباقية فيما يشبه الوحدة السياسية.

ونظرة واحدة على المسار السياسي لهذه الممالك توضح ما أعنيه بهذا التوافق أو التداخل بين الممالك التي قامت في هذا القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، فقد قامت مملكة سبأ الأولى "جنوبي نجران" واتخذت صرواح "غربي مأرب" عاصمة لها بين 750 و610ق. م. لتتلوها مملكة سبأ الثانية التي اتخذت مأرب "60 ميلا تقريبا شرقي صنعاء" عاصمة لها بين 610 و115ق. م. وفي ذروة ازدهار سبأ سيطرت لفترة من الوقت على مملكة المعينيين التي قامت في منطقة الجوف اليمنية "غير الجوف الموجودة في شمالي شبه الجزيرة". أما المعينيون فقد عاصروا السبئيين لفترة من الوقت، إذ قامت مملكتهم بين 700 ق. م. واستمرت حتى القرن الثالث وكانت عاصمتهم هي قرناو "معين الحالية" في القسم الجنوبي من الجوف إلى الشمال الشرقي من صنعاء، وفي فترة ازدهارهم سيطروا على القسم الأكبر من العربية الجنوبية. وغير هاتين المملكتين قامت مملكة قتبان في الركن الجنوبي من شبه الجزيرة شرقي عدن بين أوائل القرن الرابع وأواسط القرن الأول ق. م. "400-50ق. م.". واتخذت مدينة "تمنع""كُحلان الحالية" عاصمة لها، كما قامت مملكة حضرموت إلى شرقي قتبان بين أواسط القرن الخامس ق. م. وآخر القرن الأول الميلادي، وفي بعض الفترات كانت هاتان المملكتان تحت السيطرة السبئية أو المعينية.

ثم نجد السيادة الحميرية تظهر ابتداء من 115 وحتى نهاية العصر القديم، وقد أتى الحميريون من المرتفعات الجنوبية الغربية لليمن واتخذوا من "ظفار"

ص: 356

"حوالي 100 ميل شمالي شرقي مخا على الطريق إلى صنعاء" عاصمة لهم وسيطروا على قسم كبير من المنطقة التي وجدت فيها الممالك التي سبق ذكرها واتخذ كل من حكامهم لقب: "ملك سبأ وذو ريدان""وذو ريدان هي قتبان" وبقى هذا هو اللقب الملكي حتى أول القرن الثالث الميلادي "300م" حين نجده يتغير إلى "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات" ومعنى ذلك: أن مملكة حضرموت قد دخلت في تبعية السيطرة الحميرية في ذلك الوقت. هذا وقد زاد هذا اللقب في فترة لاحقة ليضم "وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، "وتهامة تقع على الشاطئ الغربي في امتداد جنوبي شمالي" وهي زيادة تشير إلى اتساع نطاق السيادة الحميرية لتشمل كل المنطقة المأهولة في العربية الجنوبية12.

ثم تأتي الصفة الثالثة لهذه الممالك الجنوبية وهي نقاط التوسع خارج حدودها عن طريق المستوطنات. ونحن نستدل على ذلك من بعض النقوش الآشورية التي يرد في واحد منها من عهد الملك تجلات بيليسر الثالث "744-427 ق. م"، على سبيل المثال، أن هذا الملك مد نفوذه إلى عدد من القبائل والمدن من بينها سبأ، ثم يذكر في النقش ذاته أن هذه الأماكن تقع في أقصى الغرب "بالنسبة لدولة آشور" كما يضع سبأ في ترتيبها بعد تيماء مما يعطينا فكرة عامة عن موضعها. وهذا النقش وغيره من النقوش الآشورية التي يرد فيها اسم سبأ تشير بشكل واضح إلى أن المقصود هو مستوطنات سبئية في الشمال. كذلك نجد عددًا من النقوش المعينية في العلا وفي شمالي غربي شبه الجزيرة وفي الجوف في القسم الشمالي منها، وكلها تشير إلى قيام عدد من المستوطنات المعينية في هاتين المنطقتين. كما نجد مثالًا تتضخم فيه هذه المستوطنات لكي تتحول بعد ذلك إلى دولة متكاملة، كما حدث في عهد المملكة الحميرية

12 عن عرض موجز للمسار السياسي لهذه المناطق، راجع، guidi: ذاته، صفحات 64-84، كذلك hitti: ذاته، صفحات 49-66.

ص: 357