الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع: الشعر الجاهلي
1-
الشعر كمصدر تاريخي:
الحديث عن العلاقة بين التاريخ والشعر ينسحب في الواقع على العلاقة بين التاريخ وكل ألوان الأدب، سواء أكانت هذه قصة أو رواية أو مسرحية أو أي عمل أدبي آخر. وإنما قصرت الحديث هنا على الشعر فحسب لسبب بسيط هو أن الشعر يشكل اللون الأدبي الغالب، أو لعلة اللون الوحيد الذي تبقى لنا بشكل واضح ومباشر، من ألوان الأدب العربي في الفترة السابقة لظهور الإسلام. والسؤال الذي يطرح نفسه بالضرورة في بداية الحديث هو: كيف نعتمد على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ؟ وهو سؤال منطقي، فالتاريخ في جوهره هو الكشف عن حقائق الماضي تمهيدًا لتحليلها وتفسيرها وتقويمها "أعني تقييمها حسب الخطأ الشائع في صياغة الكلمة" والأسلوب الذي يصطنعه المؤرخ في الكشف عن هذه الحقائق هو تمحيص أو تحقيق المادة التي يحصل عليها من مصدر أو آخر من المصادر المتاحة له سواء أكانت هذه المادة تتعلق بأحداث أم مواقف أم اتجاهات أم تيارات، وهذا يبدو لأول وهلة مختلفًا، إن لم يكن مناقضًا لطبيعة الشعر "والأدب بوجه عام". وهي
طبيعة تدخل فيها بالضرورة عوامل العاطفة والانفعال والتصور والخيال والانطباع الفردي الذي يختلف من شاعر أو أديب لشاعر أو أديب آخر بدرجات متفاوتة قد تصل إلى التعارض أو حتى إلى التناقض في بعض الأحيان.
وتكمن الإجابة على هذا السؤال في أن دراسة التاريخ الآن قد أصبحت في المقام الأول دراسة مجتمعات ولم تعد تقتصر على التعرف على حياة الأفراد في ذاتهم لتتخذ من هذه الحياة محورا أو هدفا أساسيا، سواء أكان هؤلاء الأفراد حكاما أم زعماء أم قوادا أم مصلحين أم مفكرين أم متآمرين أم كانت لهم أية صفة أخرى. فالأفراد وحدهم، إذا جاز لنا أن نتصورهم بمعزل عن المجتمع والعصر الذي يوجدون فيه -وهو تصور مستحيل- لا يستطيعون أن يسيِّروا أو يغيروا مجتمعا، مهما كانت شخصيتهم أو قدراتهم الذاتية، وإنما يتم هذا التسيير أو التغيير عندما يتجاوبون، تأثرا وتأثيرا، مع ظروف المجتمعات التي يعيشون فيها بما تضمه من موارد وأفكار وتقاليد وترسبات وتفاعلات وطبقات وتناقضات، ومع ظروف العصر الذي يعيشون فيه بما في ذلك من تيارات واتجاهات وتطورات.
وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تدور الدراسة التاريخية في نطاق المجتمع، وأن تتناول كل جوانبه: ظروفه الاقتصادية، تكويناته الطبقية، فئاته الاجتماعية، القيم التي تسوده، معتقداته، مثله العليا، علاقاته الداخلية فيما بين طبقاته وفئاته، مواقفه الخارجية من المجتمعات الأخرى، بل أكثر من هذا يصبح من واجبنا أن نتعرف على هذا المجتمع في حياته اليومية في حله وترحاله، بيئته الجغرافية بتضاريسها ومناخها، الجفاف الذي يعاني منه والمطر الذي ينتظره، النباتات التي تقدمها أرضه أو التي يقوم بزراعتها في هذه الأرض، الدواب التي يعتمد عليها والدروب التي يسلكها، وحتى الملابس التي يرتديها وأدوات العمل والقتال والزينة التي يستخدمها، فهذه كلها احتياجات تؤثر
على مسلك أفراد هذا المجتمع. وهم في سبيل تأمينها أو الحصول عليها ينهجون هذا النهج أو ذاك أو يتصلون بهذا الشعب أو ذاك، وقد يكون اتصالهم هذا وديا سليما، وقد يكون عنيفا يتخذ درجات متفاوتة من التصادم قد تصل إلى الحرب السافرة. كذلك فإن هوية المجتمع أو شخصيته تصبح، في هذا الصدد، قسمًا من أقسام الدراسة التاريخية لا يمكن تجاهله، متى بدأ هذا المجتمع في الظهور؛ فكرته عن الأصل الذي انحدر منه، الأساطير التي تحيط بهذا الأصل ومدى اقتناعه بها، تطلعاته وتصوراته وقدرته على المواءمة بينها وبين العالم الذي يعيش فيه ويحتك به، ومن ثم مدى استعداده لاستيعاب الحركة التاريخية والتطورات الحضارية أو مسايرتها أو حتى التخلف عنها.
وإذن فالباحث أمام وضع لا يجوز له فيه أن يقتصر على السجلات الحكومية التي تعبر عن أحوال فرد أو أفراد أو فئة أو طبقة حاكمة وما اختارت أن تسجله بطريقة أو أخرى عن أعمالها وعلاقاتها، وإنما لا بد له أن يضم إلى هذا المصدر مصادر أخرى من نوع آخر. وما دمنا نتحدث عن ذلك فليس أمامنا إلا ما تركه المجتمع بكل أفراده وطبقاته وطوائفه ليعبر به، في شكل أو في آخر، عن كل هذه الصور والظروف والمعاملات والعلاقات -وهنا يبرز دور الأدب كواحد من هذه المصادر الرئيسية، فمن خلاله يستطيع الفرد الذي أوتي مقدرة التعبير الأدبي، أن يرسم ملامح المجتمع الذي يحيط به، ومواقفه ومعاناته وآماله في صورة أو أخرى من الصور العديدة التي يتخذها الأدب لنفسه- وقد كان الشعر هو الصورة البارزة التي اتخذها الأدب العربي في عصر ما قبل الإسلام.
ولا يجوز لنا في هذا الصدد أن ننظر إلى تعبير الشاعر على أنه تعبير ذاتي فرد، مهما كانت الاعتبارات التي تغرينا، للوهلة الأولى، بهذه النظرة، فالشاعر جزء من المجتمع بكل ظروفه وتفاعلاته، وإذا كان التعبير الشعري
يصل إلينا من خلال الانطباع الذاتي أو المعاناة الشخصية للشاعر، فإن هذا الانطباع أو هذه المعاناة تتم في إطار التجربة التي يعيشها ويمارسها المجتمع الذي يوجد فيه الشاعر، ولا يملك الشاعر في هذه الحال إلا أن يكون جزءًا منها مهما اختلفت طريقة التعبير عنها من شاعر لآخر. على أننا ونحن بصدد التأريخ للمجتمع، لا نأخذ، ولا ينبغي أن نأخذ، الشعر كما هو على أنه حقائق تاريخية أو حضارية؛ فالشاعر قد يبالغ وقد يتخيل وهو حتى إذا تحدث عن حقائق فهو يبرزها لنا من خلال انفعاله الخاص بها. ولكن رغم ذلك فهناك عدد من الحقائق الثابتة نستطيع أن نستخلصه من الشعر عن أحوال المجتمع، إذا تخطينا المبالغات والتخيلات والانفعالات الخاصة.
ومن بين هذه الحقائق، الاتجاهات العامة التي تسود المجتمع مثل القيم التي تحكمه وطبيعة تصوره لها ومن ثم الدوافع التي تعيننا على تفسير عدد من تصرفات هذا المجتمع. وفي هذا المجال فنحن قد لا نفهم عددا من العلاقات القبلية قبل الإسلام أو على الأقل لا نفهم كل الأبعاد التي وصلت إليها دون أن نعرف تصور مجتمع ما قبل الإسلام لمعنى الشرف أو الرابطة العصبية أو لممارسة الثأر -وكلها معانٍ تبرز في وضوح من خلال الشعر الجاهلي. كذلك نستطيع أن نفهم اضطرار عرب البادية إلى الارتحال المستمرِّ نتيجة لظروف الجفاف التي سيطرت على شبه الجزيرة العربية من خلال وصف الأطلال والبكاء عليها والحنين إلى العلاقات التي تمت في ظل ما كان بها من جوار ولقاءات يجد البدوي نفسه مضطرًّا إلى التضحية بها أمام واقع الوضع الاقتصادي الذي يدفعه إلى السعي وراء الكلأ وانتجاعه حيثما كان. كذلك نحن نستطيع أن ندرك في وضوح كثير مدى ما تتركه ندرة المطر في شبه الجزيرة على تصرفات القبائل وعلاقاتها فيما بينها إذا عرفنا أن شاعرًا مثل عمرو بن كلثوم يجد من بين دواعي فخره أن قبيلته ترد عين الماء أولًا فتنعم بالماء الصافي ولا تترك لغيرها من القبائل إلا ما تبقى من الكدر والطين وهكذا.
وليست الاتجاهات العامة هي كل ما نستخلصه من الشعر، وإنما نعرف منه إلى جانب ذلك أشياء أخرى لا يملك الشاعر أن يغير فيها شيئا ولا يوجد ما يدعوه إلى ذلك؛ لأنها من صميم بيئته، مثل الحيوانات التي يعتمد عليها في تنقله رعيا أو تجارة أو حربا، ومثل الملابس التي يتخذها الرجال والنساء ومثل البيوت "أو الخيام" وطريقة بنائها أو إقامتها، ومثل الآلهة والمعتقدات والشعائر والطقوس، ومثل أسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو يرتحلون إليها، سواء أكانت مدنا أم قرى أم مواضع، ومثل الطرق التي كانوا يسلكونها في تنقلاتهم والمعالم التي تحيط بها أو تطل عليها، ومثل الأسواق التي كانوا يلتقون فيها لقضاء معاملاتهم، ومثل المواقع أو الأيام التي تركت أثرًا في حياتهم، وفيض آخر إلى جانب كل هذا عن تفاصيل حياتهم وممارستهم اليومية تعيننا مرة أخرى على تفهم تصرفاتهم وعلاقاتهم.
هذه هي قيمة الشعر كمصدر أساسي من مصادر التاريخ، نترك منه ما يشوبه الخيال، وما يعبر من خلاله الشاعر عن الانفعال المؤقت أو عن الانطباع الشخصي، أو ما نرى فيه شيئا من المبالغة التي تنتج عن المثالية والميل الطبيعي نحو البطولة وهو ميل من الطبيعي أن ننتظره في الشعر، ونستطيع أن نتحقق منه عن طريق المقارنة بما تصل إليه أيدينا من مصادر أخرى مثل النقوش والآثار وكتابات المؤرخين والرحالة والجغرافيين حتى نصل إلى أقرب نقطة ممكنة من الحقيقة التاريخية. وفي هذا المجال، فإن تصوير أحوال شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام اعتمادًا على ما تركه لنا شعراء الجاهلية، ليس بدعا أو أمرا غير عادي؛ فقد اعتمد مؤرخو الحضارة اليونانية وتاريخها على ما جاء في ملحمتي الإلياذة والأوديسية المنسوبتين إلى الشاعر اليوناني هوميروس Homeros بعد تمحيصه ومقارنته بالمصادر الأثرية والتاريخية
الأخرى1. بل لعل الشعر الجاهلي كان أوفر حظًَّا من شعر هوميروس فيما يخص إمكانات التمحيص عن طريق المقارنة، فلم يكن هناك في العصر الذي تغطيه أشعار هوميروس في العصر المبكر من ظهور المجتمع اليوناني مؤرخون معاصرون يمكن الاعتماد في المقارنة على ما تركوه لنا من كتابات، وما وجد من نقوش قليلة لم يمكن التوصل إلى مدلول حروفها إلا خلال السنوات القليلة الماضية وبشكل غير مستقر2. وهكذا لم يكن أمام مؤرخي الحضارة اليونانية إلا الاعتماد على الآثار بشكل أساسي في هذه المقارنة. أما الشعر الجاهلي فلدينا للتحقق مما أشار إليه أو جاء فيه مصادر أخرى إلى جانب الآثار، من بينها النقوش وكتابات المؤرخين والجغرافيين والرحالة والموسوعيين اليونان والرومان ومن بينها القرآن الكريم والحديث الشريف والتوراة والتلمود على سبيل المثال. وكلها تعيننا على تمحيص هذا الشعر وتحقيقه والتأكد من المعلومات التي يقدمها لنا.
1 شعر أو أشعار هوميروس تسمية تطلق على مجموعة من الأشعار اليونانية قيلت عبر فترة تزيد على ثلاثة قرون تمتد من الربع الأول للقرن الثاني عشر ق. م. إلى أواسط القرن التاسع ق. م. وقد جمع هذه الأشعار في هذا التاريخ الأخير شاعر يحيط به الغموض "وربما شاعران" -حسبما تدلنا مجموعة قرائن تاريخية وأثرية- وصاغها في صورة ملحمتين هما الإلياذة التي تروي قصة هجوم على مدينة اليون بمنطقة طروادة في القسم الشمالي الغربي من آسيا الصغرى، والأوديسية التي تروي مغامرات أحد القادة اليونانيين "وهو أوديسيوس" خلال عودته من طروادة إلى مدينة أثاكة على الشاطئ الغربي لبلاد اليونان. ولكن اليونان القدامى درجوا على أن ينسبوا هذه الأشعار إلى شاعر أطلقوا عليه اسم هوميروس. وبهذا المفهوم ستكون إشاراتي إلى أشعار هوميروس في هذا الحديث. راجع: لطفي عبد الوهاب يحيى: هوميروس، تاريخ حياة عصر، الأسكندرية، 1968، صفحات 1-40.
2 تعرف هذه الكتابة باسم Linear B وهي الكتابة التي عرفتها بعض مناطق العالم اليوناني في الفترة المبكرة قبل أن يتعرفوا في أواسط القرن التاسع ق. م. بشكل ضيق على الكتابة الجديدة التي بدأت تشيع تدريجيًّا ابتداء من القرن التالي لتصبح فيما بعد هي الكتابة المستخدمة في العصر الكلاسيكي.