الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جديدا لهذه الحقيقة أكثر اقترابا إلى الصواب. كذلك فيما يتصل بالشكل فإن المصدر التاريخي ليس من اللازم في كل الأحوال أن يكون سجلا مباشرا للأحداث أو المواقف، بل ربما كان الاستنتاج غير المباشر هو السبيل الوحيدة الواردة أمام الباحث في كثير من الأحيان، ودور الباحث هو أن يستخلص الحقيقة التاريخية التي يبحث عنها من الإطار الذي جاءت ضمنه أو الصورة التي عرضت بها. فقد تأتي الحقيقة متناثرة داخل عدة نصوص دينية أو قانونية أو سياسية أو قصصية أو غيرها، كما قد تعرض في صورة تقريرية أو تقديرية أو يمتزج فيها العرض التقريري بالعرض الوجداني أو حتى قد يداخلها الخيال في بعض الأحيان دون أن يقف هذا عائقا حقيقيا أمام استخلاصها.
وأما فيما يتعلق بالمضمون فإن القرآن الكريم، إلى جانب قداسة إشارته إلى كل الحقائق، فإنه يشير إلى عدد من الأحداث والمواقف الخاصة بمجتمع شبه الجزيرة العربية، والمعاصرة لنزوله أو التي سبقت ذلك بوقت قصير أو طويل ولكنها كانت لا تزال موجودة، بدرجات متفاوتة بين التعميم والتفصيل في وعي سكان شبه الجزيرة، ومن ثم فإن القرآن الكريم يبين لنا بشكل نابض مدى انفعال هذا المجتمع بهذه الأحداث والمواقف. كذلك فإن القرآن الكريم في محاولته تصحيح عدد من الأوضاع والممارسات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي عند نزوله يعطينا فكرة واضحة عن هذه الأوضاع والممارسات وعن الدوافع التي أدت بهذا المجتمع إلى اتخاذها طريقا له وإلى التمسك بها والمجادلة عنها والتعنت في سبيل المحافظة عليها. وهي دوافع يسهب القرآن الكريم في عرضها وتفصيلها؛ ومن ثم يحصل الباحث على صورة تاريخية حية للصراع الذي شهده هذا المجتمع في نهاية العصر الجاهلي بين أسلوبين للحياة، أحدهما هو ما كان قائما فعلا والآخر هو ما كانت الدعوة الإسلامية بسبيل تقديمه.
أ-
أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن:
وفي الواقع فإن القرآن الكريم تعرض لأحوال المجتمع أو المجتمعات
التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية وألقى أضواء على عديد من جوانبها وسأكتفي هنا، على سبيل المثال لا الحصر، بالإشارة إلى عدد من هذه الجوانب. فقد عرفنا القرآن الكريم بعدد من الأقوام التي كانت موجودة في شبه الجزيرة، فإلى جانب قريش التي كانت موجودة وقت نزوله في أوائل القرن السابع الميلادي -واستمرت بعد ذلك- كانت هناك أقوام أخرى سابقة مثل عاد وثمود وسبأ. وفيما يخص عاد فيشير القرآن الكريم إلى عاد الأولى التي وجدت ثم اندثرت وإلى عاد أخرى اندثرت كذلك. ونحن نستطيع أن نتتبع الإشارة هذه ونستكمل بها ما جاء في مصادر أخرى، فعاد الأولى التي أرسل الله إليها هودًا عليه السلام كانت موجودة في جنوبي شبه الجزيرة العربية حسبما نستنتج من ارتباط اسمها بالأحقاف1، وهي منطقة صحراوية تقع في العربية الجنوبية، كذلك يشير القرآن الكريم في موضعين آخرين إلى وجود آخر لعاد في فترة غير بعيدة قبل نزوله، وفي أحد هذين الموضعين إلى منطقة تنطبق أوصافها على القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية كمكان لإقامتهم2. وإذن فنحن أمام وجودين لقوم عاد في مكانين مختلفين، أحدهما في الجنوب عند الأحقاف والآخر في الشمال الغربي، وفي زمانين مختلفين أحدهما لا نعرفه على وجه التحديد والآخر في وقت غير بعيد قبل نزول القرآن.
1 عاد الأولى، سورة النجم: 50؛ ارتباط عاد الأولى بالأحقاف، سورة الأحقاف: 21، هذا ورغم أن الأحقاف تعني لغويًّا الكثبان الرملية، أو على حد ما جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي "طبعة القاهرة 1913م" الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشرف "ج3، ص 129" إلا أن الإشارة إليها على طريقة التخصيص في الآية الكريمة تجعل المراد بها هو المكان المسمى بالأحقاف تحديدًا، وهو يقع في القسم الجنوبي الغربي من الربع الخالي في جنوبي شبه الجزيرة.
2 آثار مساكنها باقية، سورة العنكبوت: 38؛ موقع المنطقة في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية نستنتجه مع أن قوم عاد كانوا ينحتون في الجبال بيوتا، سورة الأعراف: 74، راجع عن البيوت "الأضرحة" المنحوتة في الجبال الباب الرابع من الآثار والنقوش في هذه الدراسة.
ونحن في الواقع نستطيع أن نستكمل هاتين الإشارتين إلى حد كبير من مصادر الكتاب الكلاسيكيين، إذ نجد ذكرا لقوم عاد يظهر في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على الخارطة التي رسمها جغرافي يوناني من مصر هو بطلميوس كلاوديوس PtOLEMAIOS CLAUDIOS "كتب بين 121، 151م" الذي عرفه الجغرافيون العرب باسم بطلميوس القلوذي. ويظهر قوم عاد في هذه الخارطة تحت اسم OADITAE في شمالي شبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة إلى شرقي خليج العقبة3 "وهي المنطقة التي ينطبق عليها الوصف الذي جاء في القرآن الكريم، والذي كان التجار العرب في الواقع يمرون به جيئة وذهابا في خط القوافل الذي يصل شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية". ومعنى هذا أن عادًا الثانية قد تواجدت بشكل ظاهر يلفت نظر هذا الجغرافي ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني على الأقل، ويبقى أمامنا تحديد الفترة التي اختفت فيها عاد الأولى.
وهنا نلجأ مرة ثانية إلى الكتاب الكلاسيكيين، وفي هذا المجال لا نجد ذكرا لقوم عاد فيما تركه لنا الكاتب الموسوعي الروماني بلينيوس plinius في أواسط القرن الثاني الميلادي "54/23-79م" رغم أن هذا الكاتب تعرض باستفاضة لشبه جزيرة العرب وحرص على أن يذكر في عرضه المستفيض أكبر عدد من الأماكن والأقوام الموجودة في شبه الجزيرة، بل لقد ذكر عددًا من المواقع كان موجودا ثم اندثر قبل زمنه، وهو يجد في حرصه هذا نقطة اعتداد علمي يذكر القارئ بها4. فإذا توغلنا قليلا في الماضي إلى أوائل القرن الأول الميلادي والنصف الأخير من القرن الأول ق. م. لا نجد ذكرا لهؤلاء القوم في كتابات الجغرافي اليوناني إسترابون "63/ 64
3 راجع خريطة شبه الجزيرة عند بطلميوس كلاوديوس في ملحق الخرائط، خريطة رقم 4.
4 plinius:.N.H VI، 32،160.
ق. م -21م على الأقل" رغم اهتمامه بوجه خاص بالقسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة وذكره اثنين من الأقوام الموجودة بها5. فإذا تابعنا التوغل في الماضي نجد أن قوم عاد لا يظهرون في كتابات أرتميدوس في أواخر القرن الأول ق. م. "ظهرت بعض كتاباته في 104-101 ق. م" أو في كتابات الجغرافي اليوناني إراتوسثنيس، عرفه الجغرافيون العرب باسم إراتسطين الذي عاش بين 275 و194 ق. م. ومن ثم نستطيع أن نقول: إنه بدأ يكتب منذ أوائل القرن الثاني ق. م.6. وهكذا نستطيع أن نستنتج من هذه المقارنة بين القرآن الكريم وبين ما ذكره الكتاب الكلاسيكيون أن عادا الأولى كانت قد اختفت من جنوبي شبه الجزيرة العربية ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني ق. م على الأقل.
أما عن وجود مكانين مختلفين لعاد الأولى وعاد الثانية فتفسير ذلك هو الهجرات التي عرفها عرب الجنوب إلى شمالي شبه الجزيرة، وهي هجرات قد تكون بسبب تغير مناخ المنطقة نحو الجفاف بشكل تدريجي ابتدأت آثاره تظهر بوضوح منذ القرن الثالث ق. م. كما يذهب بعض الباحثين، أو قد تكون لها أسباب أخرى7. ولكن الثابت هو أن هجرات قد تمت من الجنوب إلى الشمال بشكل أو بآخر، وأن بعض هذه الهجرات اتخذ شكل مستوطنات أقامها التجار أو الحكام الجنوبيون في شمال الجزيرة كمحطات تجارية لقوافلهم في البداية، ولكن هذه المستوطنات لم تلبث أن تحولت إلى كيانات قائمة بذاتها تتصرف وتقيم علاقاتها مع المدن أو الدول المحيطة أو القريبة منها في ضوء ظروفها الخاصة. وقد كان بعض هذه المستوطنات يتخذ اسم القوم
5.STrABO: xvi، 4:21
6 أقوال أرتميدوس في STRABO: xvi، 4:5، 18-19. أقوال إراتوسثنيس في ذاته: XVI، 1:12،3: 2،4:2.
7 راجع الباب الثاني من هذه الدراسة تحت عنوان "الساميون وشبه الجزيرة والعرب".
أو البلد الذي جاء منه المستوطنون في البداية. ومن أمثلة ذلك مدينة جَرَش التي لا تزال قائمة في العربية الجنوبية "الآن في القسم الغربي من المملكة العربية السعودية" وسميَّتها مدينة جرش في الشمال "الآن في المملكة الأردنية"، تقعان على خط القوافل التجارية الذي كان يمتد بين اليمن وسورية، إحداهما على شوطه اليمني والأخرى على شوطه السوري. ومن أمثلتها كذلك المستوطنات التي أقامتها سبأ في الشمال واتخذت واحدة منها على الأقل الاسم ذاته وكانت لها مواقف خاصة بها إزاء محور الدفع والجذب بين الآشوريين في وادي الرافدين ودويلات المنطقة السورية في الغرب في القرن الثامن ق. م. كما نظر إليها الرومان في أواخر القرن الأول ق. م. على أنها كيان قائم بذاته8.
وفي ضوء هذا كله يبدو أمرا متفقا مع الظروف التي سادت شبه الجزيرة العربية أن تفترض أن قوم قد هاجرت منهم جاليات أقامت لها مستوطنات في شمالي شبه الجزيرة، ثم تعرض القوم الأصليون في الجنوب إلى ظروف الجفاف وظروف مناخية أخرى مصاحبة مثل الأعاصير المدارية العنيفة التي تعرفها المنطقة الاستوائية، والتي قد تستمر أياما عددية متوالية تدمر فيها مناطق بأكملها وتغطيها بالرمال إذا كانت أرض هذه المناطق أرضا رملية9. ولنا أن نتصور أن مستوطنات عاد في القسم الشمالي من شبه الجزيرة، التي ابتدأت قليلة وبسيطة في عدد سكانها، لم تلبث أن ازدهرت وتزايد عدد سكانها
8 عن سبأ الشمالية راجع إشارة النصوص الآشورية إليها في القرن الثامن ق. م. "744-727ق. م" على عهد تجلات بيليسر الثالث في ANET ص283 عن سبأ الشمالية في العصر الروماني راجع: strabo: XVI،4:21.
9 الإعصار المداري له قوة قد تصل إلى ما بين 200 إلى 300 كيلوطن في الثانية، وهذه قوة خارقة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن قنبلة هيروشيما -على سبيل المثال- كانت قوتها 20كيلوطن في الثانية أي 1/10 من القوة المذكورة، جريدة le monde، باريس، 18نوفمبر 1970، ص 23، أعمدة 1-3. عن الأعاصير في القرآن راجع أدناه في هذه الدراسة.
حتى أصبحت تشكل قوما ملحوظين منذ أوائل القرن الأول من النصف الثاني، يسترعي وجودهم نظر عالم جغرافي مثل بطلميوس كلاوديوس وهو يضع خارطة للمنطقة، وبخاصة إذا كان هؤلاء يشغلون منطقة تمر بها خطوط القوافل التجارية الواصلة من شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية، وهي المنطقة التي وضعهم فيها هذا العالم الجغرافي بالفعل. ولنا كذلك أن نقول: إن هذا الازدهار قد استمر فترة ربما امتدت ثلاثة أو أربعة قرون ثم اندثرت هذه المستوطنات العادية الشمالية لأسباب تتعلق بالعوامل الطبيعية أو بالمنافسات التجارية وما يصحبها من غارات "كما سنرى في أثناء الحديث على ثمود" أو لأسباب أخرى، بحيث لم يعد لها ولا لقوم عاد وجود ظاهر عند نزول القرآن الذي يشير إلى عاد على أنهم قوم قد اندثروا أو اندثرت أماكن إقامتهم قبل ذلك بقليل.
وإذا كنا نستطيع أن نتابع أوضاع قوم عاد من خلال آيات القرآن الكريم مستكملين الحديث من خلال المصادر الكلاسيكية، فالشيء ذاته ينطبق على قوم ثمود. إن القرآن الكريم يشير في مواضع عديدة إلى أرض الثموديين على أنها واحة غنية بالمياه الجوفية وما يترتب على ذلك من ثروة زراعية "جنات وعيون وزروع ونخل"10، وهي إشارة نجدها كذلك عند الكاتب الكلاسيكي إراتوسثنيس الذي يقسم سكان المناطق الغربية "من شبه الجزيرة" المتاخمة لسواحل البحر الأحمر فيصف المنطقة الشمالية منها "وهي المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها" بأنها منطقة بها قدر من الزراعة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المنطقة تمر بها خطوط القوافل التجارية المتجهة من شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية، استطعنا أن ندرك ما يشير إليه القرآن الكريم من ثروة الثموديين "أو بالأحرى ثروة الطبقة الأرستقراطية الزراعية التجارية من الثموديين" التي تبدو في الإشارة إلى عدد القصور الذي أصبح ظاهرة
10 سورة الشعراء: 147-148.
تسترعي الانتباه وإلى النشاط المعماري الذي جعهلم ينحتون في الجبال "بيوتا""وهي في الواقع أضرحة ومعابد تتخذ شكل البيوت فعلا ولا تزال قائمة حتى الآن في منطقة مدائن صالح -نبي ثمود". وقد اندثر الثموديون كقوم لهم كيانهم في فترة سبقت قيام الدعوة الإسلامية بفترة غير طويلة حسبما يتبين لنا من آيات الكتاب الكريم11.
ونحن نستطيع في الواقع أن نتتبع الثموديين في عدد من المصادر الأخرى، فهم يظهرون في نقش آشوري يعود إلى حكم الملك سرجون في الشطر الأخير من القرن الثامن ق. م. "721-705 ق. م"، على أنهم "أو أن قسما منهم" يسكنون في المنطقة الشمالية لشبه جزيرة العرب. ثم نجد عددا من النقوش الثمودية منتشرة في عدد من مناطق شبه الجزيرة العربية وتعود إلى القرون الثلاثة من الخامس إلى الثالث ق. م. ثم نجد الثموديين بعد ذلك في كتابات بلينيوس في أواسط القرن الأول الميلادي تحت اسم tamudaei ثم على خارطة بطلميوس كلاوديوس "القلوذي" في النصف الأول من القرن الثاني م. تحت اسم thamudenoi ومتعاصرين مع قوم عاد الذين يضعهم بطلميوس على خارطته إلى الشمال من الثموديين12، ولما كان القرآن
11 الإشارة إلى القصور، سورة الأعراف: 74؛ البيوت المنحوتة في الجبال، السورة ذاتها، الآية ذاتها، قارن سورة الحجر: 80-82، قارن كذلك الآثار التي لا تزال قائمة في مدائن صالح "شمال غربي شبه الجزيرة"، ملحق اللوحات: 9 ج. عن اندثارهم بوجه عام راجع بين آيات أخرى كثيرة: سورة التوبة: 70، الفرقان: 38، ص: 13-15، غافر: 31، 33، الذاريات: 43، 44، النجم: 51، الفجر: 9، 13. إشارة إراتوسثنيس منقولة في سترابون strabo: xvi،4:2.
12 النص الآشوري الذي يشير إلى ثمود في anet 286؛ عن انتشار النقوش الثمودية في عدد من مناطق شبه الجزيرة بين القرنين الخامس والثالث ق. م. راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة وملحق اللوحات "لوحات 20 أ - ج"؛ عن ظهور الثموديين في كتابات بلينيوس راجع: plinius n.h.vi 32،157. عن تعاصر الثموديين مع العاديين في زمن بطلميوس كلاوديوس راجع ملحق الخرائط "خريطة 4".
الكريم يجعلهم "خلفاء من بعد عاد" ويشير إلى ما تبوءوه من مركز وثروة في منطقتهم، فبإمكاننا أن نستنتج من ذلك أن الثموديين استمروا بعد تعاصرهم مع العاديين فترة أخرى قبل أن يندثروا كقوم لهم سطوتهم أو مركزهم كأرستقراطية متحكمة في المنطقة الغنية التي كانوا يقيمون بها. ونحن لا نستطيع أن نضع وقتا محددا لاندثار الثموديين أو اختفائهم كقوم لهم عددهم وسطوتهم، إذ نحن نعود نسمع عنهم بعد بطلميوس الجغرافي في كتابات الكلاسيكيين ابتداء من يوسيبيوس eusebios "حوالي 260-340م" وانتهاء عند بروكوبيوس prokopios الذي توفي في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي "565م" وصمت الكتاب الكلاسيكيين عن ذكر الثموديين طوال هذه الفترة التي تبلغ ثلاثة قرون تقريبا لا يثبت لنا بالضرورة شيئًا عن وجود هؤلاء القوم أو عدم وجودهم، إذ قد يكون هذا الصمت ناتجا عن عدم اهتمام هؤلاء الكتاب بشكل خاص بذكر تفصيلي لأقوام المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة العربية. ولكن الثابت هو أن الثموديين كانوا قد اندثروا قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن اندثارهم تم قبل ذلك بفترة غير طويلة. فقد كانت بقايا مساكنهم، حسبما يذكر القرآن الكريم، لا تزال قائمة يستطيع أن يستشهد بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في صدد محاجَّته للجاهليين وإقناعهم بالدعوة الوليدة13.
وغير عاد وثمود يحدثنا القرآن الكريم عن أقوام عربية أخرى مثل قوم سبأ. وفي هذا المجال يشير إلى سيل العرم الذي اجتاح هذه المنطقة وكان سببًا في كثير من الآثار السيئة التي عانت منها. والمنطقة في الواقع كانت معرضة لهذا النوع من السيول الناتجة عن الأمطار الموسمية الغزيرة وكان سكانها يعمدون إلى جمع مياه هذه الأمطار خلف جدران السدود التي أقيمت لهذا الغرض، وأهم هذه السدود هو سد مأرب، عاصمة سبأ، ولا تزال بقايا
13 راجع حاشية 11 أعلاه.
هذا السد قائمة في مكانها حتى الآن. كذلك تشير لنا النقوش التي عثر عليها في المنطقة أن جدران هذا السد تصدعت في أكثر من مناسبة، إذ تذكر لنا هذه النقوش أن ترميمات لسد مأرب تمت في عهد شرحبيل يعفر في أواسط القرن الخامس الميلادي "449-450م" ثم في عهد أبرهة حاكم اليمن من قِبَلِ نجاشي الحبشة، في أواسط القرن الذي يليه "543م" وإذا كان السيل الذي أعقبه هذا الترميم الأخير قد تم في فترة قريبة من ظهور الدعوة الإسلامية بحيث كانت أخباره لا تزال ماثلة في أذهان الجاهليين الذين نزلت آيات القرآن الكريم لتذكرهم بها، فإن أخبار التصدعات والترميمات الأخرى السابقة لهذه المناسبة الأخيرة لا بد أن تكون شيئا وَعَتْه ذاكرة العرب كتاريخ على مر القرون في أثناء رحلاتهم التجارية بين اليمن والشام، فالقحط الذي يصيب منطقة مشهورة بخصبها مثل اليمن "الشهيرة بثروتها الزراعية وما يترتب عليها من رخاء" بعد أن تفقد المياه التي كان سد مأرب يحفظها للانتفاع بها في مواسم الجفاف لا بد أن يؤثر على منتجات اليمن التي تحملها القوافل التجارية وتبادل بها سلعا أخرى، ومن ثم فلا بد أن يكون تصدع السد شيئا بارزا يتناقله القادمون من اليمن والذاهبون إليه، بل إن مثل هذا الحدث يتحول في الواقع إلى تاريخ يروونه ويحددون به مواعيد الأحداث التي وقعت قبله أو بعده. وإذا كان التصدع الأخير قد حدث في عصر سيادة الحبش على المنطقة فإن أذهان العرب لا بد أنها كانت تعي تصدعات أخرى في السد حدثت حين كان السبئيون هم أصحاب السيطرة على المنطقة14.
14 عن هذا السيل، سورة سبأ: 15، 16. عن السيول في شبه جزيرة العرب بوجه عام، سورة الرعد: 17. عن بقايا السد راجع ملحق اللوحات: لوحة 4. عن شيوع فكرة السدود في شبه الجزيرة بغرض تخزين مياه الأمطار والسيول، راجع الحديث عن سد السملقى "أعلى وادي ليه من ضواحي مدينة الطائف" وسد الحصين جنوبي خيبر في الباب الرابع "الخاص بالآثار والنقوش" من هذه الدراسة، انظر كذلك لوحتي 4 ب - ح في ملحق اللوحات. عن القحط الناتج عن الجفاف الذي سببه تصدع السد ومن ثم ضياع المخزون وراءه من المياه راجع الآيتين في بداية هذه الحاشية.
على أن هذه الإشارة ليست الوحيدة إلى سبأ والسبئيين في القرآن الكريم، فهناك إشارة أخرى إلى زيارة ملكة سبأ إلى سليمان النبي. ونحن نعرف أن سليمان كان ملك يهوذا وأنه حكم في الشطر الأوسط من القرن العاشر "970-937ق. م.". ولكن ربما كانت سبأ المقصودة هنا ليست سبأ الموجودة في اليمن، وإنما مدينة سبأ الموجودة في الشمال الغربي لشبه الجزيرة العربية، التي كانت على أرجح وجه إحدى المستوطنات التي أقامها التجار السبئيون على خط القوافل من اليمن إلى سورية. وقد مر بنا أن هذه المدينة مذكورة في سجلات بعض الملوك الآشوريين على أنها إحدى المدن الموجودة في القسم الشمالي من شبه الجزيرة على مقربة من المنطقة السورية. وفي الواقع فإن هذا الافتراض هو الأرجح، وقد يدعمه ما نستخلصه من الآيات القرآنية التي وردت فيها زيارة هذه الملكة إلى سليمان النبي، فبعد مقدمات متوترة بينهما تظهر في لهجة الكتاب الذي أرسله سليمان إليها، وفي اتجاه مستشاري الملكة نحو مقابلة التهديد بالقوة العسكرية، تنتهي الأمور بأن تتخذ الزيارة شكلا وديا بين حاكمين، ومن ثم نستطيع أن نصفها بأنها محاولة منطقية من جانب الملكة السبئية لتحسين علاقاتها بحاكم آخر يبدو أنه كان يحسب حسابه في مجال العلاقات الخارجية، وبخاصة إذا تذكرنا أن مدينة سبأ كانت تحصل على ثروتها من تجارة العبور "الترانزيت" عن طريق القوافل التجارية البرية في المقام الأول، وأن علاقات حسن الجوار تصبح، نتيجة لذلك، أمرا واردا إن لم يكن في الواقع أمرا حيويا بالنسبة لها، وإذا تذكرنا إلى جانب ذلك أن سليمان قد أنشأ أسطولا وأنه كان بسبيل اعتماد سياسة تجارية بحرية عن طريق البحر الأحمر، لا بد أن تؤثر تأثيرا ضارا على نشاط الخط التجاري البري، سواء بحكم طبيعة الأشياء، أو بضغوط مقصودة من جانب سليمان نفسه تعرقل الخط التجاري البري لصالح خطه البحري. كذلك مما يدل على أن إشارة القرآن الكريم إلى سبأ الشمالية وليست إلى سبأ الجنوبية أن سجلات الملوك في العربية الجنوبية، سواء من السبئيين أو غير السبئيين لا