الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"أي بين الأب والأم والأبناء" إلى تكتل أوسع هو مجموعة الأسرة التي يكونها كل من الإخوة حول آصرة قوية هي الآصرة التي تربط هؤلاء الإخوة.
ب-
عوامل الانقسام:
ولكن مع كل العوامل المؤشرة إلى التماسك سواء في مجتمع التكوينات القبلية أو في مجتمع التكوينات الكبيرة فإن عوامل الانقسام كانت موجودة في داخل هذه التكوينات في الوقت ذاته. ففي المجتمع القبلي، رغم ما كانت عليه العصبية من رسوخ يدفع القبيلة إلى أن تخفَّ للدفاع عن أي فرد من أفرادها إذا تعرض لأذًى أو اعتداء أو إهانة من قبيلة أخرى، فإن نداء العصبية هذا لم يكن يمارس بنفس الحماس في حالة كل الأشخاص. ولعل الأقرب إلى الواقع في هذا الصدد هو أن هذا الحماس في الاستجابة لنداء العصبية كان يشتد أو يخف أو حتى ينعدم حسب وضع الشخص في القبيلة، فإذا كان من الوجهاء أو الأعيان أو السادة فإن القبيلة تهب في استجابة فورية لهذا النداء، كما حدث، على سبيل المثال، فيما يرويه ابن الأثير من غضب عمرو بن كلثوم حين أحس أن إهانة قد لحقت بأمه على يدي أم الأمير اللخمي عمرو بن هند فنادى آل قبيلته تغلب، واستجابت القبيلة للنداء وكان بعدها صدام مسلح انتهى لصالح التغلبيين32.
ونحن نستطيع أن نقابل بين هذا وبين ما نستنتجه من شعر قاله قريط بن أنيف أحد بني العنبر "وهو شاعر مخضرم" وكان عدد من أفراد بني ذهل بن شيبان قد نهبوا عددًا من إبله فاستغاث بقوم فلم يغيثوه، فندَّد بموقفهم
32 ابن الأثير: الكامل في التاريخ، القاهرة 1348هـ، ج1، ص331. هذا وربما كان في رواية ابن الأثير الذي نقل ما ذكره عن الرواية العربية، شيء من تزيين الحوادث بتفصيلات مشوقة كما يحدث حين تنتقل الرواية شفاهًا لعدة قرون، ولكن يبقى الاتجاه العام واردًا في حدود ما وصل إلينا من شعر الجاهليين.
هذا في أبياته. والتفسير المنطقي هنا هو أن قريطًا ربما كان من طبقة العوام في قبيلته، ومن ثم لم يكن ما أصابه من أذى "سواء بالحق أو بالباطل" مدعاة لاهتمام بين أفرادها ليهبوا لمساندته، وهو يشرح لنا هذا الموقف بكل وضوح حين يقول:
لو كنت من مازن لم تستبِحْ إبلي
…
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خُشُن
…
عند الحفيظة إن ذو لوثة هانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
…
طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا33
كذلك فقد كان العرف المتبع في القبيلة يضع حواجز بين بعض فئاتها، فالعبيد الذين حرروا لا يصبحون أبناء للقبيلة وإنما يتحولون إلى موالٍ أو أتباع مهما قدموا من خدمات. والتصنيف ذاته ينطبق على أي غريب يلجأ للقبيلة لسبب أو لآخر ويطلب أن تحميه وأن يعيش في كنفها34. إنه هو الآخر يصبح من طبقة الموالي الذين لا يرقون إلى مرتبة أبناء القبيلة مهما تفانى في تأدية دوره في خدمة مصالحها والذود عن هذه المصالح. وهكذا تتكون بالتدريج داخل كل قبيلة فئة أو طبقة لا تشعر بالانتماء الكامل لها ويمكن أن تصبح عنصر انقسام بدلًا من أن تكون عنصر تماسك. والشيء ذاته نجده، في صورة أخرى في حالة الخلعاء، أي: أفراد القبيلة الذين تخلعهم القبيلة لتصرف أتوه ولم ترضَ القبيلة عنه. إن القبيلة تعلن على لسان سيدها أو شيخها أنها غير مسئولة عن تصرفاته؛ وبالتدريج تتكون مجموعة من المنبوذين عن المجتمع القبلي تشكل بدورها عنصرًا من عناصر الانقسام. هذا إلى وجود طبقة من المدقعين
33 "ديوان الحماسة، مختارات أبي تمام"، طبعة الرافعي، القاهرة، أولى قصائد الديوان.
34 hitti: ذاته ص27.
أو المعدمين من أفراد القبائل، كان فقرهم يدفع بهم إلى الحصول على رزقهم بكافة الطرق دون مراعاة لعرف القبيلة وتقاليدها، وهؤلاء هم صعاليك العرب الذين كان ينتهي بهم الأمر إلى الخروج على القبيلة والخروج من أرضها، لتتضخم بذلك طبقة غير المنتمين على اختلاف فئاتهم.
بل أكثر من هذا فإنه حتى في حالة المنتمين من أفراد القبيلة، فإنهم رغم المساواة المفترضة بينهم، لم يكونوا كلهم سواء فعلًا، ولم يكونوا كلهم راضين عن معاملة القبيلة لهم. ولقد مر بنا أنه حتى في حالة الكلأ الذي كان مشاعًا بين جميع أفراد القبيلة، كانت هناك أحماء يتمتع بها أفراد بعينهم إلى جانب تمتعهم بميزات الكلأ العام35. وهو نوع من التمييز كان لا بد أن يشكل خطًّا، مهما كان باهتًا، يقسم القبيلة إلى طبقة من المتميزين وطبقة ممن لا يحظون بهذا الموقع المتميز.
ونحن نلمس هذا الانقسام الطبقي بين سكان شبه الجزيرة في أكثر من شاهد. فالكاتب اليوناني أرتميدوروس يذكر لنا في مجال حديثه عن السبئيين أن "الملك ومن حوله يعيشون في بذح أنثوي"، كما سبق أن رأيناه يتحدث عن الطبقة الثرية من السبئيين والجرهائيين ليذكر أنهم يقتنون الأدوات المصنوعة من الذهب والفضة ويسكنون بيوتًا طعمت أبوابها وجدرانها وسقوفها بالعاج والذهب والفضة ورصعت بالأحجار النفيسة. هذا، إلى ما سبقت الإشارة إليه من امتلاك طبقة محددة تتكون من 3000 أسرة لكل أشجار الطيوب في العربية الجنوبية، ولحق التجارة في هذه الطيوب دون غيرهم. وأضيف هنا إلى هذا أن الوظائف في الدولة كانت قاصرة على أولاد الملوك، فإذا أدخلنا في اعتبارنا ما سبقت الإشارة إليه من أن منصب الملك كان بالتناوب بين أفراد الطبقة الأرستقراطية، كان معنى هذا أن وظائف الدولة هي الأخرى كانت
35 راجع الباب السابق الخاص بالموارد الاقتصادية.
حكرًا على هذه الطبقة. وفي القرن السابع الميلادي نجد الظاهرة لا تزال موجودة، فالقرآن الكريم يتحدث عن فئة من المجتمع تكسب {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وعن {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مشيرا بذلك إلى وجود طبقة أخرى من المعوزين لا تعود عليهم هذه الثروة بأي نفع يخفف من ضائقتهم، كما يسمي على الأقل واحدا من أثرياء مكة الذين جمعوا قدرا كبيرا من المال، وهو أبو لهب، ملمحًا إلى موقفه الطبقي المتعنت اعتمادا على ثروته36.
كذلك نجد، في الجانب الآخر، تقسيمًا في مجتمع العربية الجنوبية في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي، يصنف هذا المجتمع إلى فئات لها طابع طبقي؛ إلى فلاحين وحرفيين وعاملين في جمع المر واللبان، وهو تصنيف مانع لا يتغير من الآباء إلى الأجداد ولا يمكن أن يغير فيه أحد الأفراد مهنته لينتقل من فئة إلى فئة، ومن ثم فهو يكرس الطبقية في صورة حادة ومستمرة في الوقت ذاته. وقد زاد من حدة الوضع الطبقي أن طبقة أصحاب الحرف أو من كانوا يعملون بالأجر كان ينظر إليهم، كما مر بنا، على أنهم يمارسون عملا متدنيا، رغم حاجة المجتمع إليهم. أما في أوائل القرن السادس الميلادي فنحن نجد الشنفرى، أحد صعاليك العرب، يصف لنا حياة الجوع التي كان يمارسها والتي وصل من حدتها أنه كان يماطل الجوع ويستفُّ التراب حتى لا تظهر عليه آثاره فيشمت فيه أفراد الطبقة الأخرى، وهو وصف لا أرى فيه مبالغة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الشاعر
36 بذخ الملك ومن حوله في أرتميدوروس، منقول في سترابون strabo: XVI، 4: 19 عن بذخ السبئيين والجرهائيين. راجع الباب الثامن عن الموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. إشارات القرآن الكريم إلى أصحاب الثروة بترتيب المتن في، سورة آل عمران: 14، التوبة: 34، تبت، أو ما بعدها.
كان لا يبغي من وراء شعره استعطافًا لأحد وأنه يفخر باعتزازه الشديد رغم جوعه الشديد:
أديم مطال الجوع حتى أُميتَه
…
وأضرب عنه الذكر صفحًا، فأذهل
وأستفّ ترب الأرض كي لا يُرى له
…
عليّ، من الطوْل، امرؤ متطول
وأطوي على الخمص الحوايا، كما انطوت
…
خيوطة ماريّ تغار وتفتل
وأغدو على القوت الزهيد، كما غدا
…
أزل تهاداه القنائف، أطحل
كما نجد صعلوكًا آخر، وهو تأبط شرًّا، يعرض حياته لخطر محقق ليسرق قليلا من العسل من منحل في غار لبني هذيل، ثم يجد في احتياله حتى يفر من القتل نوعًا من الذكاء الذي يفخر به -الأمر الذي نستنتج منه مدى المعاناة التي كانت تمارسها هذه الطبقة، وبخاصة إذا عرفنا أن بني هذيل كانوا أعداء لتأبط شرًّا يتربصون به الدوائر، ومع ذلك فقد أقدم على المخاطرة في سبيل ما يسد به جوعه. فإذا وصلنا إلى القرن السابع الميلادي وجدنا القرآن الكريم يشير في شكل متواتر إلى طبقة متعددة الفئات من الذين تفصل بينهم وبين الطبقة الثرية هوة واسعة من بينهم السائلون والمساكين وأبناء السبيل واليتامى الذين يبدو أن العرف السائد في المجتمع لم يكن يضمن لهم أي نوع من الكفالة الاجتماعية، أو إذا وجدت هذه الكفالة الاجتماعية افتراضًا، كان المجتمع متهاونًا في الوسائل التي تمكن من وضعها موضع التنفيذ الفعلي37.
37 تقسيم المهن في strabo: XVI، 4:25، قارن كذلك أرتميدوس في سترابون، ذاته XVI، 4:92 حيث يذكر أن العامة يعملون في الزراعة ونقل الطيوب. الاستعلاء على أصحاب، عن الاستعلاء الطبقي على الذين يعملون في الحرف راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. أبيات الشنفرى في شيخو والبستاني: المجاني، ص7، أبيات 21-22، 25-26. أبيات تأبط شرا في ذاته: ص11، أبيات 1-9.