الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حين أقام بعض العرب الجنوبيين مستوطناتٍ لهم في الحبشة ابتداء من القرن الأول الميلادي وكانوا بذلك نواة لدولة أكسوم التي قامت في المنطقة13. ومثل هذه المستوطنات ابتدأت بالضرورة كمحطات تجارية لتجار العربية الجنوبية ثم نمت واستقرت بعد ذلك لتتحول إلى مدن لها كيانها الخاص ولكن تبقى بينها وبين الأماكن التي انبثقت منها في البداية علاقات مصالح تجارية، كما نتصور أن تكون لها مع هذه الأماكن علاقات أدبية ودينية، كما حدث في حال المستوطنات اليونانية خارج بلاد اليونان، التي تحولت على مدى الزمن إلى مدن يونانية لكل منها كيانها السياسي المستقل القائم بذاته.
13 النص عن سبأ في مجموعة arab ج1، فقرة 779 وفي anet ص283. نصوص أخرى من عهد سرجون يشار فيها إلى السبئيين كقوم يسكنون في الشمال في anet، صفحات 284-286. عن وجود مستوطنات سبئية في الشمال، انظر dussaud: ذاته، ص22، حاشية 4. النصوص المعينية في الجوف والعلا والتعليق عليها بما يثبت وجود مستوطنات معينية في هذه المناطق في wr، صفحات 73-74 و119-120. عن مستوطنات عربية جنوبية في الحبشة راجع، hitti: ذاته، صفحات 56-57.
ب-
نظام الحكم:
بعد الحديث عن الأشكال أو التكوينات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية، نلقي نظرة سريعة على النظم السياسية، أو نظم الحكم، التي عرفتها هذه التكوينات. وفي هذا الصدد نستطيع أن نتبين ثلاثة أنواع من هذه النظم، والنوع الأول نراه في النظام السياسي الذي عرفته التكوينات القبلية ونظام الحكم هنا يمكن أن نصفه بأنه نظام رئاسي يقوم على قاعدة شعبية قوامها كل أفراد القبيلة أو التجمع القبلي "في حالة وجود كيان سياسي يضم أكثر من قبيلة" ولكنه مع ذلك يميل إلى الصفة الطبقية أو الأرستقراطية إذا جاز لي أن أستعير تعبيرًا غير عربي.
وحاكم القبيلة أو التجمع القبلي هنا هو الشيخ أو السيد. والأساس الذي يقوم عليه حكمه ليس هو الوراثة وإنما هو الاختيار الذي قد يكون انتخابًا أو إجماعًا من القبيلة أو التجمع القبلي لنا أن نتصور أنه يتم في حدود رؤساء الأسر والأقوام "الأحياء" التي يتكون منها هذا الكيان القبلي إذا أدخلنا في اعتبارنا حرص العرب على النقاء الأسري في العصر السابق للإسلام حين لم تعرف القبائل العربية في البداية نظام الدولة بما لها من مؤسسات، ومن ثم كان التماسك الأسري "داخل التماسك القبلي" هو البديل الأساسي إن لم يكن البديل الوحيد لحفظ كيان القبيلة من التميع ومن ثم الاندثار. والصفات التي تؤهل السيد لمنصبه في السيادة أو الرئاسة هي صفات مستوحاة من حاجة القبيلة ومن ظروفها أساسًا. فالسن عليها معول كبير دون شك، إذ إنها مؤشر إلى التجربة والحكمة في مجتمع كانت العلاقات القبلية فيه تتعرض للغارات المتبادلة لأوهى الأسباب، وإن كان لنا أن نتصور وجود سادة أو رؤساء للقبائل دون اشتراط تقدم السن إذا كانت التجربة أو الحكمة في التصرف متوفرة في الشخص المرشح للرئاسة. كذلك كانت الشجاعة والحلم والكرم والثروة والحرص على مصالح القبيلة من المؤهلات الرئيسة للسيد. فالشجاعة مؤهل أساسي في مجتمع الغارات المتبادلة، والكرم لا يقل عنه ضرورة في مجتمع معرض للظروف الجغرافية القاسية التي قد تودي بالزرع والضرع، أو تؤدي إلى ندرة العشب إذ حلت بالمنطقة فترة جفاف طويلة. وقد كان ذلك واردًا في شبه الجزيرة14.
على أنه يحدث في بعض الأحيان أن يكون السيد الجديد ابنًا للسيد القديم، ولكن هذا لم يكن معناه ابتعادًا عن النظام الانتخابي أو الاختياري المذكور أو اقترابًا من النظام الوراثي، وإنما يكون ناتجًا عن توفر صفات الرئاسة بحكم
14 عن الصفات التي ينبغي توفرها في سيد القبيلة راجع، lammens، ذاته، صفحات 211-238.
الصدفة أو الواقع في ابن السيد السابق. ونحن نجد في هذا الصدد سيدًا لإحدى القبائل، وهو عامر بن الطفيل الذي يبدو أنه اختير سيدًا بعد وفاة أبيه، السيد السابق للقبيلة، يحاول جاهدًا أن يرد عن نفسه ما قد يوجه إليه من اتهام بوراثة السيادة ويستنكر مثل هذا الاتهام، ذاكرًا أن قبيلته هي التي سودته عليها ومشيرا إلى صفاته التي جعلت قبيلته تختاره لسيادة القبيلة فيقول:
فإني وإن كنت ابن سيد عامر
…
وفارسها المندوب في كل موكب
فما سوَّدتني عامرٌ عن وراثة
…
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
…
أذاها وأرمي من رماها بمنكب15
كذلك قد يحدث أن تعطى سيادة القبيلة أو التجمع القبلي لامرأة وليس بالضرورة لرجل، والبيت الثاني من الأبيات السابقة يشير صراحة إلى هذا الاتجاه. ولم يكن هذا في الواقع أمرا غريبا عن عرب شبه الجزيرة في العصور السابقة للإسلام؛ فنحن نعرف من المصادر التي وردت فيها معاملات بين عرب شبه الجزيرة وغيرهم من الشعوب عن عدد من النساء اللاتي شغلن منصب الرئاسة لمجتمعات قبلية عربية، وقد أسمتهن هذه النصوص "ملكات" للعرب حسب التسمية السائدة عند الشعوب التي تنتمي إليها هذه النصوص. وهكذا نسمع في القرآن الكريم وفي التوراة عن معاملات في القرن العاشر ق. م. بين سليمان ملك اليهودية "971-937ق. م" وبين ملكة سبأ، التي أصبح من المرجح أنها لم تكن ملكة دولة سبأ الموجودة في جنوبي شبه الجزيرة، وإنما رئيسة مستوطنة سبئية شكلتها مجموعة قبائل جنوبية هاجرت واستقرت في شمالي شبه الجزيرة. وفي القرن الثامن ق. م. نسمع في النقوش الآشورية عن احتكاكات سياسية وعسكرية بين الملك الآشورية تجلات بيليسر الثالث
15 الأبيات في شيخو والبستاني: المجاني، ص293، أبيات 6-8.
"744-727 ق. م." وبين ملكتين عربيتين هما الملكة زبيبة والملكة سمسي، وفي القرن السابع ق. م. نسمع من النقوش ذاتها عن معاملات سياسية بين الملك الآشوري إسار حدّون "680-669ق. م" وبين ملكة عربية أخرى هي إسكلاتو. كما نسمع في الكتابات اليونانية في أواخر القرن الرابع الميلادي "حوالي 380م" عن "ماوية، ملكة العرب" التي قامت بعدد من الغارات على الأراضي الفلسطينية والفينيقية16.
وإلى جانب السيد أو شيخ القبيلة نستطيع أن نتبين من النصوص وجود تجمعين أو مجلسين يشاركانه في تصريف أمور القبيلة: أحدهما هو مجلس أعيان القبيلة والآخر يضم كل أفراد القبيلة. ويشير القرآن الكريم إلى المجلس الأول في أكثر من مناسبة تحت اسم "الملأ". وحقيقة إن هذه التسمية قد وردت في إحدى الآيات القرآنية لتدل على مجرد مجموعة من الناس، كما وردت في آيات أخرى قليلة بشكل قد يحتمل المعنى العام والمعنى الخاص الذي نحن بصدد الحديث عنه، ولكن الصفة المتواترة عند ذكر هذه التسمية تشير بشكل لا يشوبه الغموض إلى أن المقصود منها هو هذا المجلس الذي يضم الأعيان، الذين يبدو منطقيا أنهم كانوا رؤساء الأحياء والأسر التي تشكل القبيلة. ولنا أن نستنتج أن هذه التسمية بالذات هي التي كانت سائدة للتدليل على هذا المجلس، طالما أن القرآن الكريم يذكرها على أنها شيء معروف عند العرب الجاهليين الذين كان يخاطبهم.
16 ملكة سبأ في سورة النمل: 22-23 "راجع الباب الخاص بالمصادر الدينية في هذه الدراسة"، كذلك التوراة، سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1 وما بعدها، عن الملكات العربيات اللاتي ترد أسماؤهن في النصوص الآشورية، زبيبة وسمسي في عهد تجلات بيليسر في ANET ص283، مثال آخر للملكة سمسي على عهد سرجون الثاني "750-721 ق. م" في ذاته: ص286، الملكة إسكلاتو، في ذاته: ص291، الملكة ماوية في THEOPHANES: 64 "طبعة BOOR".
أما النقاش داخل هذا "الملأ" فيبدو أنه كان إلى حد غير قليل نقاشًا مفتوحًا وديمقراطيًّا يتسع للرأي ونقيضه. ونحن نجد صورة نابضة في القرآن الكريم لهذا النقاش الذي يتعاقب فيه الفريقان المتعارضان في اجتماع الملأ واحدًا بعد الآخر، في إدلاء بالرأي، ورد عليه ثم اعتراض على الرد ثم رد على الاعتراض وهكذا. كما نجد أحد الفريقين المتناقشين، حين تتأزم المناقشة، يطرح موضوع النقاش على العامة من أفراد القبيلة ليدلوا برأيهم في الموضوع وربما كان الاسم الذي أطلق على هذا التجمع العام الأخير هو النادي الذي قد يشير كذلك إلى مكان هذا الاجتماع العام. فالاسم ورد في القرآن الكريم في معنى التجمع العام، كما أن مدلول اللفظة ذاتها يفيد معنى التجمع المقترن بالنقاش17.
والنوع الثاني من التنظيمات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية نجده في التجمعات القبلية التي تحولت إلى إمارات أو ممالك تابعة للإمبراطوريات الكبرى أو داخلة في دائرة نفوذها بشكل أو بآخر مثل مملكة تدمر وإمارتي الغساسنة واللخميين. ومنصب الذي يتقلد الرئاسة على هذه القبائل كان بالنسبة للعرب يتخذ تسمية "الملك"، كما يتبين من النقش الذي وجد على قبر امرئ القيس الأول بن عمرو بن عدي "288-328م" وهو أحد الحكام اللخميين وفيه نجده يصف نفسه بأنه "ملك العرب كلهم"، وكما يتبين لنا كذلك من إشارة الشاعر التغلبي عمرو بن كلثوم إلى عمرو بن المنذر الثالث بن ماء السماء "المعروف باسم عمرو بن هند" الذي يقول:
إذا ما الملك سام الناس خسْفًا
…
أبينا أن نقر الذل فينا18
17 عن الملأ، القرآن الكريم، سورة الأعراف: 60، 66، 75، 88، 90، هود: 27، إحدى المناقشات النابضة في السورة ذاتها: 73-76. الملأ كمجرد مجموعة وليس مجلسًا، في هود: 38. النادي في العنكبوت: 29.
18 شيخو والبستاني: ص136، بيت97.
أما بالنسبة للدولة التي تتبعها الإمارة فقد كان لقب حاكم الإمارة يتخذ أسماء متعددة حسب الظروف، كما حدث في حالة أذينة حاكم تدمر، على سبيل المثال، حين نجد الإمبراطور الروماني يضفي عليه لقبين لقاء خدماته، أحدهما "قائد الشرق" أو "قائد المنطقة الشرقية" dux orientis والآخر "آمر الجند" imperator وكما حدث في حال المنذر الثالث الغساني الذي أضفى عليه الإمبراطور يوستنيانوس "جستنيان" لقب "حاكم القبائل" phylarchus إلى جانب لقب شرفي آخر هو "النبيل" patricius.
والحكم في هذه الإمارات كان فرديا وراثيا "على عكس ما رأينا في نظام الحكم القبلي بالنسبة للسيد" يظهر هذا من قائمة حكام الغساسنة واللخميين كما يبدو في تدمر من تقلد الزباء ملكة تدمر لصلاحيات السلطة كوصية على العرش بعد موت زوجها أذينة. ويبدو أن الدول الكبرى التي كانت تتبعها هذه الإمارات لم تتدخل في هذا النظام الوراثي، ولعل السبب في ذلك هو أن هذا النظام كان يمثل بالنسبة لها شيئا من الاستقرار الذي تنشده على حدودها. وحتى حين كانت تشك في نوايا أو تصرفات أحد هؤلاء الحكام كانت تبقي على نظام الوراثة كما هو ولكنها تتخذ الإجراء الذي تراه مناسبًا للمحافظة على مصالحها. ومن أمثلة ذلك ما حدث حين لم ترتح الإمبراطورية البيزنطية إلى بعض تصرفات المنذر الرابع وابنه النعمان فأخذ الأول سجينًا إلى القسطنطينية ثم سجن بعد ذلك في صقلية، بينما اقتِيدَ الثاني منفيًّا إلى القسطنطينية. ومن أمثلته كذلك ما حدث حين عين الإمبراطور الفارسي إلى جانب إياس بن قبيصة "602-611م"، الحاكم اللخمي، مقيما فارسيا وضعت السلطة الحقيقية في يده بحيث أصبحت سلطة الحاكم العربي سلطة اسمية19.
19 عن ألقاب أذينة راجع: m. cary: a history of rome ص725، كذلك kammerer: ذاته، ص320، عن قوائم ملوك الغساسنة واللخميين، kammerer: ذاته، صفحات 337، 341، عن الوراثة في الأسرة الحاكمة في تدمر ووصاية الزباء، cary: ذاته، ص725، عن تصرف القوات الكبرى في حالة شكهم في نوايا هؤلاء الحكام hitti: ذاته، صفحات 80 و84.
نظام آخر من أنظمة الحكم في شبه الجزيرة في العصور القديمة نجده في مملكة الأنباط التي قامت وازدهرت كمملكة مستقلة في أغلب مراحل وجودها حتى أدخلها الرومان في دائرة نفوذهم في أواخر القرن الأول ق. م. أو أوائل القرن الأول الميلادي قبل أن تتحول إلى ولاية رومانية رسمية في أوائل القرن التالي. وفي هذه المملكة كان منصب الملك وراثيًّا كذلك. ولكن يبدو أن الحكم مع ذلك لم يكن فرديًّا، فنحن نجد مجلسًا شعبيًّا يذكر لنا الكاتب اليوناني سترابون أن الملك كان يقدم أمامه تقريرًا عن أعماله، بل لقد كان هذا المجلس يناقش الأسلوب الذي يتبعه الملك في حياته الخاصة في بعض الأحيان. كذلك كان يحد من سلطات الملك وزير أو رئيس للجهاز التنفيذي يتخذ لفظ "الأخ" ونحن نعرف على الأقل واحدا من الذين شغلوا منصب "الأخ" وهو سللايوس syllaeus "صلاء، شلاء" الذي عاصر حملة الرومان على شبه الجزيرة العربية في 24 ق. م. وقد كان صاحب سلطة واسعة فعلًا. وربما كان ناتجًا عن قوة شخصيته وضعف شخصية الملك النبطي آنذاك وهو عبيدة "أوبودا oboda عند الرومان" كما يشير إلى ذلك سترابون في شيء من التفصيل. ولكن مع ذلك فإن التسمية التي أطلقت على المنصب وهي "الأخ" تشير إلى شيء من اتساع صلاحيات هذا المنصب20.
أما النوع الأخير من نظم الحكم أو النظم السياسية فقد وجد في جنوبي شبه الجزيرة العربية، والنظام كان ملكيا في الدول التي قامت في هذا القسم من شبه الجزيرة. ويبدو أن الملكية في هذه المنطقة كانت فردية مطلقة في المرحلة الأولى من مراحل ظهورها، وهي مرحلة ترجع إلى القرن السابع على أقل تقدير في بعض أجزاء المنطقة. ويظهر لنا ذلك من أن الملك كان يجمع بين
20 عن الحكم الوراثي ومنصب الأخ، ونفوذ سللايوس إزاء ضعف شخصية عبيدة strabo: XVI، 4: 21، عن الملك ومجلس الشعب، ذاته: XVI، 4: 26 مناقشة لشخصية سللايوس في، kammerer ذاته، صفحات 90-91.
منصبه الملكي ومنصب الكاهن الأعلى أو "المكرب"، "المقرب، ربما من تقديم القرابين إلى الآلهة" في واحدة على الأقل من الممالك التي قامت في المنطقة، وهي مملكة سبأ في مرحلتها الأولى "من حوالي 610 إلى 115ق. م"21. وهو وضع مغزاه، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الدين كان يعتبر الدعامة التي تعطي للنظام الملكي قاعدته الشرعية في العصر القديم بوجه عام، ولنا أن نتصور في ظل هذا الوضع أن يكون الحكم الملكي وراثيًّا كذلك، فهو أمر وارد في النظام الملكي وهو أمر أكثر ورودًا إذا كان الحكم الملكي من النوع الفردي المركزي.
ولكن يبدو أن هذا النظام الملكي الذي يقوم على الحكم الفردي المركزي "سواء في سبأ أو الملكيات الأخرى" لم يبق على ما كان عليه. ففي سبأ، على سبيل المثال، فقد الملك صلاحياته الدينية ابتداء من 115 ق. م. لتتركز في أيدي رجال الدين الذين يبدو أنهم كانوا يشكلون طبقة لا يستهان بها إذا بنينا حكمنا على العدد الهائل من المعابد التي يذكر الكاتب الروماني بلينيوس أنها كانت موجودة في بعض مدن المنطقة في أواسط القرن الأول الميلادي، وهي فترة غير متأخرة كثيرا عن التاريخ المذكور. كذلك يذكر لنا سترابون "أواخر القرن الأول ق. م وأوائل القرن الأول الميلادي" أن النظام الملكي لم يكن وراثيًّا آنذاك فيقول في هذا المجال: إن ابن مالك لم يكن هو الذي كان يخلفه على العرش وإنما أحد أفراد الأعيان "أو الطبقة الأرستقراطية"22، وبذلك تكون ركيزة الوراثة قد انتزعت كذلك من صلاحيات النظام الملكي.
ومثل هذا التطور ليس في الواقع شيئًا معدوم النظير في العصور القديمة، فقد عرفته الدويلات اليونانية حوالي القرن الثامن في المرحلة التي عاصرت
21 hitti: ذاته ص52.
22 انتزاع السلطة الدينية من الملك في hitti: ذاته، ص54، كثرة عدد المعابد في plinius: HN، VI، 153 نظام اعتلاء العرش في strabo: XVI، 4:3.
تطور نظام الحكم من الحكم الملكي إلى الحكم الأرستقراطي. فقد بدأت بانتزاع صلاحيات الملك واحدة بعد الأخرى. وكان من بين هذه الصلاحيات النظام الوراثي والسلطة الدينية. ونحن نستطيع أن نفهم ما حدث في الممالك العربية الجنوبية في هذا الصدد إذا عرفنا مدى قوة الطبقة الأرستقراطية هناك وهو أمر نستنتجه مما يذكره لنا الكاتب بلينيوس ذاته حين يعرفنا أن ثلاثًا من المناطق العربية الجنوبية "وهي مناطق السبئيين والمعينيين والحضرميين" كانت فيها 3000 أسرة تحتكر حق امتلاك أشجار الطيوب والاتجار فيها بشكل وراثي، وهو أمر غير غريب عن مناطق العربية الجنوبية، فالملكية الجماعية، أو الإدارة الجماعية لقطع واسعة من الأراضي الزراعية معروفة لنا من النصوص التي عثر عليها في المنطقة23. ومعنى هذا في الواقع أن الطبقة الأرستقراطية الثرية كانت طبقة لا يمكن أن يتجاهلها الملك، بل لا يمكن إلا أن تزحف على صلاحيات النظام الملكي بما في ذلك النظام الوراثي للعرش بحيث يتحول الملك إلى ما يمكن أن نسميه "الأول بين الأقران" أو Primus inter pares حسب التعبير اللاتيني الذي صاغه الرومان عن هذا المعنى. فالملوك كانوا، هم الآخرون، من الأسر التي تملك هذا الحق الاقتصادي الوراثي.
وفي ضوء هذا الوضع تتحول سلطة الملك الذي كانت الطبقة الأرستقراطية تختاره بطريقة أو بأخرى من بين صفوفها إلى ممثل لهذه الطبقة والتي هو نفسه منها، يحافظ على مصالحها وينمِّي هذه المصالح إزاء أية ظروف معاكسة. ولعلنا نفهم من خلال هذا التصور ما يذكره لنا الكاتب اليوناني أرتميدوروس "اشتهر في أوائل القرن الثاني ق. م." من أن الملك عند السبئيين رغم كونه المرجع "في القضايا وكل شيء" إلا أنه "كان لا يملك أن يترك قصره "لعله
23 عن الأسر المحتكرة plinius: HN، XII، 54، عن المزارع الجماعية راجع الموارد الاقتصادية في الباب السابق، والوضع الاجتماعي أدناه في الباب الحالي.