الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصبحت تسمى بالشعوب السامية على امتداد القرنين الأخيرين. وقد ناقشت ما جاء فيها من شواهد وأدلة وما أثارته من ردود واعتراضات مبينا موقفي من كل منها نفيا أو احتمالا أو ترجيحا. ولعل كثرة ما دار حول هذه القضية من نقاش ورد ونقد واعتراض هو خير دليل على أن الحديث عنها لا يزال بعيدا عن مرحلة الرأي المؤكد المسلم به.
أ-
ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين:
على أني أود، رغم ذلك، أن أورد في ختام هذا الحديث عددًا من الملاحظات سبق أن أشرت إلى بعضها، حتى أخلص إلى تصور أرى أنه -في غياب أي دليل فاصل وقاطع في هذا الموضوع- يتفادى على الأقل عددا من نقاط الضعف أو الاعتراضات التي ظهرت في المناقشات التي دارت حوله حتى الآن.
وأولى هذه الملاحظات هي أن افتراض موطن أصلي انطلقت منه هجرات كبيرة، كونت الشعوب التي تتحدث اللغات السامية ليس أمرا ضروريا أو لازما لتفسير التشابه أو التقارب بين هذه اللغات؛ فاللغات أداة تعامل وتداول تنتقل وتؤثر وتتأثر بالحركة والاختلاط والتجاور والتبادل، والهجرات جزء من هذا كله ولكنها ليست كل شيء ولا يمكن أن ينظر إليها على أنها تشكل العامل الوحيد الذي يؤدي إلى ما بين أية مجموعة من اللغات من تشابه أو تقارب.
والملاحظة الثانية هي أن الارتباط بين الهجرات الدورية أو الكبيرة وبين الجفاف والإقفار الذي حل بالمناطق التي انطلقت منها هذه الهجرات أمر وارد، ولكنه لا يشكل مع ذلك حكما عاما أو قاعدة متواترة، فهناك من الشواهد التاريخية ما يثبته، لكن هناك كذلك ما ينفيه، وعلى سبيل المثال فمن
الشواهد التي تؤيده الهجرات التي انطلقت في القرن الثاني عشر ق. م. من سهوب آسيا الوسطى بسبب عوامل الإقفار والقحط المترتب عليه. واندفعت غربا لكي تستقر في بعض مناطق آسيا الصغرى والقسم الشرقي من أوروبا وليفر أمامها عدد من الشعوب أو الأقوام التي حاولت أن تستقر في مناطق مختلفة على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، وقد عرفت هذه الشعوب في التاريخ القديم باسم شعوب البحر31. ومن هذه المنطقة "آسيا الوسطى" كذلك انطلقت في القرن الرابع الميلادي قبائل الهون التي أغارت على الحدود الشمالية الشرقية للإمبراطورية الرومانية واستقرت في عدد من مناطق أوروبا الشرقية. والمنطقة نفسها شهدت في القرن الحادي عشر الميلادي انطلاق القبائل التركية التي استقرت في آسيا الصغرى والشريط الساحلي الأوروبي لمداخل البحر الأسود لتؤسس الدولة العثمانية فيما بعد.
ولكن مع ذلك فالتاريخ يقدم لنا، من الجانب الآخر، أمثلة لا يرتبط فيها الجفاف والإقفار بالهجرات الكبيرة أو الدورية، فهناك مناطق انطلقت منها هجرات كبيرة دون أن تتعرض لأي جفاف أو إقفار، وأوضح مثل على ذلك هو هجرات القبائل الجرمانية المتبربرة التي اتجهت من مواطنها الأصلية في شمالي أوروبا لتجتاح حدود الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، على أن المنطقة التي جاءوا منها لم تتعرض لجفاف أو للإقفار. كذلك هناك مناطق أصابها الجفاف والإقفار ولم يؤدِّ ذلك إلى هجرة سكانها، وعلى سبيل المثال فقد عرفت مصر عدة فترات من الجفاف والقحط نتيجة لعدم فيضان النيل كانت كل فترة منها تمتد عدة سنوات،
31 النصوص المتعلقة بهجرات وتحركات شعوب البحر، ترجمة إنجليزية لها وتعليق عليها في: J.Wilson:the war against the people of the
G.a،wainwright some. 262 - 263 صفحات sea "anet"
sea-peoples and others in the hittite archives، journal of egyptian archaeology "J.E.A." XXV 1939.
من بينها فترة على الأقل في العصر القديم ظلت ذكراها متواترة إلى أن أشار إليها القرآن الكريم، وفترة أخرى في العصر الوسيط ذكرها المؤرخون المسلمون. وكان المصريون حسب الانطباع الذي يتركه لدينا القرآن وحسبما سجل المؤرخون المسلمون، يقاسون مقاساة شديدة، ومع ذلك فلم يترك المصريون موطنهم الأصلي ويهاجروا إلى مناطق جديدة. والشيء ذاته نجده في وادي الرافدين، فقد عرفت هذه المنطقة فترات مشابهة من الجفاف والقحط في عصورها المختلفة نتيجة لانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات في وقت الفيضان، وقد وعت ذاكرة السكان في وادي الرافدين القحط، والشدة التي تعرض لها سكان البلاد في تلك الفترات منذ القدم وسجلها التراث الشعبي العراقي القديم فيما تركوه من ملاحم في عصر السومريين والبابليين، ولكن هذه الملاحم لم تذكر ولو مرة واحدة شيئًا عن هجرة سكان وادي الرافدين أو عن تفكيرهم في الهجرة32.
والملاحظة الثالثة هي أنه ليس هناك سبب حقيقي يدعو إلى الافتراض أن كل الشعوب المتحدثة باللغات السامية قد هاجرت بالضرورة من موطن صحراوي أو أن هذه الشعوب قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية، والدليل الذي أسوقه في هذا الصدد هو وضع "الأكديين" في وادي الرافدين في العصور القديمة. لقد كان هؤلاء الأكديون شعبا ساميا يقطن المنطقة الزراعية الوسطى في وادي الرافدين التي تمتد بين نهري دجلة والفرات من نهر في الجنوب إلى هيت وسامراء في الشمال تقريبا، وقد ظهروا بشكل قوي على مسرح تاريخ وادي الرافدين ابتداء من عهد الملك سارجون الأكدي "حوالي
32 عن إحدى فترات الإقفار والقحط في مصر في العصور القديمة، راجع القرآن الكريم: سورة يوسف، آيات 43 - 48، إحدى فترات الإقفار في العصور الوسطى يشير إليها المؤرخ الإسلامي عبد اللطيف البغدادي. مثال من فترات الإقفار والقحط في وادي الرافدين في العصور القديمة يرد في النصوص الخاصة بالطوفان في النسخة البابلية "أتراخاسيس"، راجع ترجمتها العربية في فاضل عبد الواحد علي: المرجع ذاته، صفحات 60 - 61.