الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسبب اشتداد القحط أو بسبب اختلال الأمن وتدهور العناية بالموارد الاقتصادية في منطقة أو أخرى. ومن بينها كذلك ما دار داخل المنطقة من علاقات سلمية أو حربية بين المناطق الواقعة في داخلها. وإلى جانب كل هذا كان هناك الموقع المتوسط الذي تشغله المنطقة بين الشرق والغرب، فكانت ممرا تجاريا نشطا بينهما، وهو ممر اشتركت فيه بقوافلها بكل ما تمثله هذه القوافل من معاملات واتصالات بين شعوبها، كما تأثرت بسبب هذا الموقع المتوسط، بالقوات الكبرى التي ظهرت في الشرق أو في الغرب بكل ما يستتبعه هذا من تحركات ولقاءات سلمية أو حربية كانت المنطقة في خلالها همزة وصل في كثير من الأحيان.
ج-
العرب وفكرة الأصل السامي:
هذا، إذن، هو التصور الذي أطرحه فيما يخص الساميين أو الشعوب السامية وأصلهم وصلتهم بشبه جزيرة العرب، وهنا نصل إلى سؤال أخير: أين موقع العرب من هذه الشعوب السامية؟ لقد بدأ الحديث عن أصل العرب بين الإخباريين أو كتَّاب الأخبار الأول في صدر الإسلام عند اثنين من هؤلاء هما عبيد بن شرية الجرهمي وهو يمني، ووهب بن منبه وهو يمني كذلك، وجاء الحديث ضمن ما رواه هذان الإخباريان عن أصل الشعوب الموجودة من عرب وغير عرب، واستمر هذا الحديث في الكتابات العربية في العصر الإسلامي عدة قرون زادت فيها تفاصيله وتشعبت وتداخلت حتى لخصها وصنفها ابن خلدون في أواخر القرن الثامن الهجري "أواخر القرن الرابع عشر الميلادي" في الجزء الثاني "الذي يلي جزء المقدمة" من تاريخه المعروف "العبر وديوان المبتدأ والخبر".
ودون دخول في تفاصيل الأنساب التي ربطها هؤلاء الكتاب بالعرب وفي اختلافاتهم في هذه الأنساب، فقد اتفقوا بشكل عام إلى تقسيم العرب إلى
طبقتين أساسيتين هما العرب البائدة ومن بينهم قبائل عاد وثمود وطسم وجديس، وقد باد هؤلاء لسبب أو لآخر، وعرب باقية، وهؤلاء بدورهم قسمهم الكتاب من إخباريين ومؤرخين إلى طبقتين: العرب العاربة أي أصحاب اللسان العربي الأول، الذين أخذوا عن هؤلاء اللغة العربية واصطنعوها لسانا لهم. والذي يهمنا في صدد الحديث الحالي هو ما ورد في هذه الكتابات من محاولات لربط العرب عرقيا، أي عن طريق تسلسل النسب وقرابة الدم بالأصل السامي، وهي محاولات يظهر من بينها، على سبيل المثال، ما ذكره عبيد بن شرية في أثناء حديثه عن أبناء نوح عليه السلام من أن أحد أبنائه وهو "سام" كان له ابنان، أحدهما إرم وإليه وإلى بنيه ينتسب العرب37. وما ذكره عدد من الكتاب الآخرين، مثل البلاذري والمسعودي، من أن العرب العاربة ينتسبون إلى قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح38.
ورغم أن هذه الكتابات ظهرت جميعا بعد انتهاء العصر الجاهلي وظهور الدعوة الإسلامية، بل كان ظهور بعضها بعد الإسلام بعدة قرون كما أسلفت، ورغم أن بعضها على الأقل تحيط به شكوك كثيرة سواء فيما يخص الملابسات التي أحاطت بالكتابة نفسها أو بمضمون هذه الكتابة أو فيما يخص الاختلافات بين أصحاب هذه الكتابات39، إلا أن نقطة أساسية لا بد
37 وهب بن منبه: التيجان في ملوك حمير "حيدر آباد الدكن 1347هـ" كذلك عبيد بن شرية: أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها أو كتاب الملوك وأخبار الماضين "ملحق بكتاب التيجان لوهب بن منبه" صفحات 316-319.
38 البلاذري: أنساب الأشراف ج1، "القاهرة، 1959" ص4، المسعودي: مروج الذهب، ج2 "القاهرة، 1958" ص71.
39 كان عبيد بن شرية أحد المقربين في بلاط معاوية بن أبي سفيان، راجع المسعودي: ذاته ج2،ص85. عن طريقة روايته لأخباره التي تأخذ شكل المسامرة للخليفة، راجع: عبيد بن شرية: ذاته، صفحات 313 وما بعدها، كذلك المسعودي: ذاته، ج3، ص40.
أن نعترف بها قبل البدء في مناقشة هذا الانتساب العرقي بين العرب وبين سام بن نوح، وهذه النقطة هي أن العرب كانوا حريصين على ظاهرة النسب في عمومها، وعلى وجه الخصوص في العصر الجاهلي، وهو أمر نلمسه بشكل واضح في الشعر الجاهلي وما فيه من مواضع كثيرة يفخر فيها شعراء الجاهلية بانتسابهم إلى عشيرة أو قبيلة معينة، أو يهجون فيها عشيرة أو قبيلة أخرى. وفي الواقع فإن هذه الظاهرة كانت من طبيعة الأشياء في شبه جزيرة العرب بكل ما أحاط بها من ظروف طبيعية تجعل العصبية رابطة أساسية تتكتل أو تلتف حولها كل مجموعة من المجموعات التي انقسم إليها سكانها، تلتف حولها القبائل البدوية في تلمسهم لأسباب الحياة تسابقا وتصارعا فيما بينها حول منابت العشب ومنابع الماء أو إغارة على قبائل الحضر المستقرة، وتتكتل حولها قبائل أو عشائر الحضر سواء في تصديقهم، عنفا أو سلاما، لغارات البدو، أو في صراعهم فيما بينهم داخل المدينة الواحدة أو داخل الإمارة أو المملكة الواحدة في صراعها حول الاستئثار بزمام السلطة وما يعنيه هذا من خير كثير في وقت لم يكن فيه سكان شبه الجزيرة قد عرفوا التكتل حول إيديولوجيات سياسية، ومن ثم كان التصور الوارد هو التكتل حول العصبية التي تقوم على أساس من رابطة العرق أو رابطة الدم والانتماء إلى أصل واحد سواء أكان حقيقيا أو موهوما. ونحن نلمس هذا التمسك بأرومة الدم أو الأصل الواحد في احتفاظ عدد من الأقوام أو المجموعات التي سكنت بعض أقسام شبه الجزيرة العربية بأسمائها حتى بعد أن تنتقل، لسبب أو لآخر، من مواطنها الأصلية إلى مواطن أخرى بعيدة عنها، فقوم عاد الذين يشير القرآن الكريم إلى موطنهم الأصلي في منطقة الأحقاف في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة تحت اسم عاد الأولى، لا نلبث أن نراهم، سواء في القرآن الكريم أو في الكتابات الكلاسيكية في موطنهم الجديد في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة، محتفظين باسمهم القديم، والثموديون الذين لا تزال نقوشهم قائمة حتى الآن في المنطقة الوسطى نراهم، هم الآخرون، وقد احتفظوا باسمهم في المنطقة الشمالية
الغربية، مرة أخرى في المصادر القرآنية والكلاسيكية40. والشيء ذاته ينطبق على السبئيين، وهم من عرب الجنوب الذين أسسوا في الشمال مدنا أو مستوطنات تحت اسم سبأ مؤثرين بذلك إلى إيثارهم لتسميتهم كقوم على أية معطيات مكانية قد توحي باسم جديد.
وإذن فتصور الرابطة العرقية كنقطة تكتل بين المجموعات التي سكنت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام "وفي الواقع حتى بعد ظهور الإسلام رغم كل ما حملت الدعوة الإسلامية من قيم جديدة تتجاوز القبلية والعنصرية عموما" هو تصور قائم، ومن ثم يصبح الحديث عن الأنساب عند العرب أمرا واردا، وهو حديث يصل التشبث به في الواقع إلى ما يتجاوز أنساب البشر في بعض الأحيان إلى محاولة لتنسيب الخيل ذاتها41. ولكن، مع ذلك، فالحديث عن تأصيل النسب شيء، والمغالاة في هذا التأصيل شيء آخر، وفي هذا الصدد قد يكون من المعقول والمنطقي أن يعرف أبناء أسرة أو عشيرة نسبهم بشيء من الدقة النسبية إلى حدود معينة، أما أن يدفع هذا النسب تأصيلا إلى عهد سام بن نوح "وفي بعض الأحيان إلى عهد آدم42، الأب الأول للبشرية" فأمر لا بد أن يدخل فيه قدر كبير من النحت والخيال. وفي الواقع فإنه لا يوجد مما تركه له سكان شبه الجزيرة قبل الإسلام، سواء في مجال الآثار أو المخلفات المادية، أو في مجال النقوش والشعر، ما يشير إلى اعتقادهم في هذا النسب الذي يصل إلى سام بن نوح، كما أن محاولة تأصيل هذا النسب بين كتاب العصر الإسلامي قد أوقعت هؤلاء الكتاب في قدر غير
40 عن عاد: راجع الباب الخامس من هذه الدراسة، عن ثمود راجع: البابين الرابع والخامس من هذه الدراسة.
41 ابن الكلبي: نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام، القاهرة 1946.
42 على سبيل المثال، الموضوع الأول في كل من وهب بن منبه: ذاته، الهمداني: صفة جزيرة العرب.
قليل من الحرج والتناقض وما يؤدي إليه هذا من تخريجات وتبريرات من بينها، على سبيل مثال واحد، ما عمد إليه بعضهم في سد الفجوة بين أجيال العرب العاربة والمستعربة43.
والتصور الذي أطرحه أعود فيه إلى ما سبق أن ذكرته في هذا الحديث وهو أن نقاء العناصر أو الأجناس أمر لم يعد واردًا من الناحية العلمية الآن؛ ومن ثم فإن محاولة تنسيب العرب إلى أصل معين، سواء إلى سام أو إلى غير سام، تخرج بدورها عن نطاق التحديد العلمي. وأزيد هنا أن محاولات التنسيب والتأصيل العرقي كانت طريقة سائدة في العصور القديمة، كما حدث، على سبيل المثال، عندما حاول الرومان تنسيب -أن ينسبوا- رومولوس ROMOLUS المؤسس الأسطوري لمدينة روما إلى البطل الطروادي إينياس aeneas "الذي قد يكون بدوره بطلا أسطوريا". بل لقد وصلت هذه المحاولات عند عدد من الشعوب إلى تنسيب الآلهة ذاتها، كما حدث في ملحمة "إينوما إيليش""حينما في العلا" التي تروي أسطورة الخلق عند البابليين، أو في ملحمة "ثيوجونيا" theogonia "سلالة الآلهة" التي حاول فيها الشاعر اليوناني هزيودوس hesiodos أن يفصل فيها نسب الآلهة عند اليونان44. فإذا أضفنا إلى هذا الاتجاه العام ما ذكرته عن تمسك عرب شبه الجزيرة في الجاهلية
43 هذه الملاحظة في سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، 1975، ص84 "راجع ابن خلدون: ذاته، ج2، ص47 مقتبسة في حاشية 3 في الصفحة ذاتها".
44 النص الكامل لملحمة إينوما إيليش في anet، صفحات 61-72، نقل النص الآكدي إلى الإنجليزية e.a.speiser تحت عنوان: the creation epic. عن سلالة الآلهة عند اليونان راجع: hesiod theogonia، الملحمة كلها. عن إينياس ورومولوس، راجع عرضا عاما لمحاولات الرومان في هذا الصدد في m. cary: a. history of rome ط2 "1960 oxford" ص35، وحاشية 12، ص40. عن أسفار إينياس الأسطورية التي حملته إلى الشواطئ الإيطالية راجع الإنيادة للشاعر اللاتيني فرجيليوس، النشيد الثالث.
برابطة العصبية التي كانت تتمثل في رابطة عرقية ذات انطباع عميق في تصور العرب، تصبح لدينا البذرة الأولى لفكرة التنسيب التي ظهرت في الكتابات العربية بعد الإسلام.
وقد وجد العرب أنفسهم بعد الإسلام أمام تحديات حضارية جديدة، فالفتوح الإسلامية وضعتهم وجها لوجه أمام حضارات قديمة مستقرة لا بد أنها دفعتهم أمام تأكيد هويتهم أمام هذه الحضارات وهو أمر نجد صداه فيما يذكره الكتاب العرب في العصر الإسلامي من صفات يتميز بها العرب عن غيرهم45 -الأمر الذي نجده في شكل أوسع في أثناء ظهور الحركة الشعوبية في العصر العباسي حين أخذ الفرس يمجدون أصلهم ويتعالون به على العرب، فكان رد الفعل عند العرب أن قابلوا ذلك بتمجيد مماثل للأصل العربي وللصفات العربية. وفي مجال تأكيد الهوية يصبح تأصيل النسب أمرًا واردًا بالدرجة الأولى. أما عن إرجاع هذا النسب إلى سام بن نوح فهو يمثل عنصر الإسرائيليات التي بدأت تتسرب إلى الكتابات العربية آنذاك، وبخاصة إذا عرفنا أن عددا من الكتاب كانوا إما من أصل يهودي أو متأثرين بالكتابات والأخبار الإسرائيلية، مثل عبيد بن شريه الجرهمي ووهب بن منبه وأبي عبيدة معمر بن المثنى التميمي46.
وهكذا تصبح الكتابات العربية التي ظهرت في العصر الإسلامي عن أنساب العرب وردها إلى سام بن نوح نتاجا طبيعيا للظروف التي أحاطت
45 راجع، على سبيل المثال، الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص3، الذي يضفي على العرب عددا من الصفات المميزة لعرب شبه الجزيرة، سواء في طريقة نطقهم أو في صفاتهم الجسمانية أو في صفاتهم النفسية، أو في معاملاتهم مع غيرهم.
46 عن الأصل اليهودي لأبي عبيدة التميمي راجع ابن النديم: الفهرست، ص53. عن انتشار التأثيرات الإسرائيلية "على علاتها" عموما، راجع جواد علي: ذاته، ج1، صفحات 121-122.
بعرب شبه الجزيرة سواء في العصر السابق لظهور الإسلام، أو بعد ظهور الدعوة الإسلامية وفترة الفتوحات العربية. وهي كتابات عكست تصور العرب آنذاك، ولكننا لا يمكن أن ننظر إليها الآن كحقائق علمية، وإن كانت من جهة أخرى لا تخلو من فائدة فيما تعكسه من اختلافات بين عرب الجنوب وعرب الشمال في شبه الجزيرة، وهو اختلاف له أصوله من حيث الغنى والفقر والحضارة والبداوة وأسلوب الحياة بوجه عام، كما تعكس لنا ذكريات، مهما كانت باهتة في أذهان العرب آنذاك، عن أقوام من شبه الجزيرة ظهروا في بعض الفترات ثم هاجروا أو اندثروا وبعضهم، رغم وحدة المقام في شبه الجزيرة العربية، كانوا يتحدثون بلهجات أخرى غير اللهجة التي أصبحت لغتهم العربية. ولعل كل ما يمكن أن نصل إليه في هذا الموضوع بشكل محدد هو أن عرب شبه الجزيرة الذين سبق أن رينا كيف أسهمت الظروف في تبلور شخصيتهم أو هويتهم الجماعية بشكل تدريجي في الفترة السابقة للإسلام، كانوا عند ظهور الإسلام قد بدءوا يشعرون بشكل محدد بأنهم قوم لهم صفة عربية محددة سواء كمجموعة بشرية لها صفات عامة تجمعها وتميزها عن غيرها، أو كأصحاب لغة عامة موحدة تجمع بينهم رغم اختلاف لهجاتهم المحلية، وأن لديهم انطباعا عاما يعتقدون من خلاله أنهم ينحدرون من سلالة إبراهيم عليه السلام وقد أكد القرآن الكريم هاتين الفكرتين بشكل يدل على أن عرب شبه الجزيرة كان لديهم هذا الانطباع47.
47 الإشارة إلى الصفة العربية في القرآن الكريم: سورة فصلت:44، الإشارة إلى الأعراب "عشر مرات": سورة التوبة:90، 97، 98، 99، 101، 120، سورة الأحزاب: 20، سورة الفتح: 11، 16، سورة الحجرات: 14، الإشارة إلى اللسان العربي "10 مرات": سورة النحل: 103، سورة يوسف: 2، سورة الرعد: 37، سورة طه: 113، سورة الزمر: 28، سورة فصلت: 3، سورة الشورى: 7، سورة الزخرف: 3، سورة الأحقاف: 12، الشعراء:195.