الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمات
مقدمة الطبعة الثالثة
…
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة:
رجعت في هذه الطبعة أنظر في فصول هذا البحث أصلح فيها، وأنقح ما يحتاج إلى إصلاح وتنقيح، ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثاني من الكتاب الأول الخاص بالصنعة في النثر الإسلامي، حتى أضيف إليه زيادات عن الإسلام ومعانيه الروحية، والقرآن الكريم وهديه، وما كان له من آثار بعيدة في اللغة العربية، والحديث النبوي وتدوينه وروعة تعبيره. ومضيت أفصل القول في الخطابة بفروعها الثلاثة من سياسة، وحفلية، ودينية، ولاحظت أنه أتيح للخطابة الأخيرة خطباء مفوهون، نوعوا معانيها تنويعا واسعا، وعنوا بأساليبها عناية بعيدة، وقد هدتهم فطنهم إلى نمط جديد من الصيغ الصوتية، هو نمط الإزدواج، وما يطوى فيه من ترادف موسيقي، ودار هذا النمط على ألسنتهم، ولم يلبث الكتاب -وعلى رأسهم سالم، وعبد الحميد الكاتب- أن حاكوهم في هذا النمط الرائع.
ورأيت أن أبسط الكلام في الفصل التالي الخاص بالصنعة في النثر العباسي. حتى أوضح كيف تطور المترجمون والمتكلمون -وخاصة المعتزلة- بهذا النثر، فإذا أسلوب مولد جديد ينشأ فيه، وهو أسلوب مبسط وسط بين لغة البدو الجافية، ولغة العامة المبتذلة، وفي الوقت نفسه يحتفظ بالجزالة والرصانة والرونق، مع مرونته وطواعيته لأداء معان، ومدلولات لم يكن للعربية بها عهد.
وقد نهض بهذا الأسلوب نخبة من المترجمين في مقدمتهم ابن المقفع الذي طارت شهرته في أوائل العصر العباسي، لما أظهر من مهارة في صب خير ما كانت تحمله لغته الفارسية من ثقافات مختلفة في قوالب عربية أصيلة، لا يشوبها
أي ضرب من ضروب الرطانة الأعجمية، فالعربية -عنده- تحتفظ بمشخصاتها وأصولها، وأوضاعها في النحو والصرف، والاشتقاق والتركيب، بينما تتمثل معاني الثقافات الأجنبية تمثلا دقيقا في ألفاظ مألوفة بينة واضحة، مع حرصه على الدقة والإيجاز، ومع بعده عن التوعر والتعقيد، ومع النسج المحكم الدقيق.
ووطد المتكلمون دعائم هذا الأسلوب العباسي المولد الجديد، بما ملكوا من أزمة العربية، وكنوز الفلسفة والثقافات الأجنبية، وقد أثاروا مباحث كثيرة في علم الكلام، وفي الطبيعة والأخلاق، ولم يكونوا يصنفون فحسب، بل كانوا أيضا يناظرون، ويجادلون الدهرية والزنادقة، والملحدين بهذا الأسلوب الجديد الذي يموج بالألفاظ الجزلة المونقة، والمعاني الغزيرة المرتبة في مقدمات منطقية دقيقة، ومقاييس عقلية سديدة. وكانوا يفحصون مواد تعبيرهم ويمنحنونها ويختبرونها، حتى يضعوا دقائق معانيهم في الألفاظ الطلية التي توائمها، ودفعهم ذلك إلى أن يسجلوا ملاحظات مختلفة، فهم على صحة مخارج الحروف وجمال الألفاظ، ووضوح المعاني ومواطن الإيجاز والإطناب، ومحاسن التعبير، وحاولوا الوقوف على ماسبقهم إليه اليونان، وغير اليونان من آراء وملاحظات في هذه الجوانب، وبذلك كانوا المؤسسين لأصول البلاغة العربية، وقد انتهى عندهم الأسلوب العباسي المولد إلى كل ما كان ينتظره من روعة، وجمال في اللفظ والمعنى.
وكل ما زدته في هذه الطبعة أو صححته، أو نقحته إنما دفعني إليه تحري الدقة، ومن رأيي دائما أن يعيد المؤلف النظر في مؤلفاته حين يعدها للطبع من جديد. وبذلك تنمو الدراسة الأدبية، ويستوفي الدارس حقوقها بقدر ما يستطيع، فتكثر الفائدة منها ويزداد النفع. والله أسأل أن يلهمني السداد في القول، والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
القاهرة في 15 من يناير سنة 1960م.
شوقي ضيف.