الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن لا نشك في أن الحريري استحوذ على إعجاب معاصريه بهذه الطرفة الغريبة، كما استحوذ على هذا الإعجاب بطرفته السابقة، وهل يستطيع أحد أن يجري على هذه السنة الحريرية، فإذا هو يؤلف رسالة من حرف واحد؟
وإن نفسه ليمتد على هذا النحو الذي نجده في تلك الرسالة الشينية، وليس كل ما في هذه الرسالة من تعقيد، هو هذا الإغراب في بنائها على حرف واحد، فهناك عقد أخرى خلف هذه العقدة، لا بد أن القارئ لاحظها، ولعل في رأس هذه العقد التزامه ما لا يلزم في نهاية أسجاعه، إذ كان يتقيد غالبًا بحرفين أو أكثر، وأيضًا فإنه عنى بالجناس على جميع صوره، إذ نراه يحشد جناس الاشتقاق بكثرة، كما يحشد الجناس الناقص بوفرة، وإنه ليعدل في أثناء ذلك إلى ضروب من اللفظ الغريب، كما نرى في الكلمات التي ختم بها الرسالة: يشرخ ويحوش ويقنفش، ومعانيها على الترتيب: يعلو ويظفر ويجمع.
وأكبر الظن أننا قد تعرفنا الآن على فن الحريري، وهو فن يندمج في مذهب التصنع، وما اقترحه له أبو العلاء من عقد مختلفة، وإن الحريري ليحاول أن يأتي ببعض عقد جديدة، فإذا هو يقع على هذه الفكرة، وهي أن يبني كلمات رسالته من حرف واحد، ولكن لا تظن أن هذا هو كل ما عند الحريري، فإن رسائله لم تستوعب جميع ألوان مهارته في هذا الجانب، إنما الذي استوعب مهارته حقًا هو مقاماته.
6-
التعقيد في مقامات الحريري:
تعد مقامات الحريري أهم نموذج أدبي ظهر في العصر العباسي بعد نمادج أبي العلاء، وقد أخذ الناس يشيدون بها منذ ظهورها، وعبروا عن هذه الإشادة، بعبارات مختلفة، لعل من أطرفها ما جاء عن الزمخشري، وكان يعيش في عصر الحريري تقريبًا، إذ يقول1:
1 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "طبع دار الكتب" 5/ 225.
أقسم بالله وآياته
…
ومشعر الحج وميقاته
إن الحريري حري بأن
…
نكتب بالتبر مقاماته
أما ياقوت، فيقول: إن الحريري "أبر بكتاب المقامات على الأوائل، وأعجز الأواخر"1، ويقول أيضًا: لقد وافق كتاب المقامات "للحريري" من السعد ما لم يوافق مثله كتاب؛ فإنه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ وانقادت له البراعة
…
حتى لو ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره، ولا من يرد قوله ولا يأتي بما يقاربها فضلًا عن أن يأتي بمثلها، وقد رزقت -مع ذلك- من الشهرة وبعد الصيت، والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت وأكثر "2، ويقول ابن خلكان: إن الحريري "رزق الحظوة التامة بعمل المقامات"3، وبينما يشيد هؤلاء بعمل الحريري في مقاماته نجد آخرين يحطون من هذا العمل، وعلى رأسهم ابن الطقطقي؛ إذ زعم أن المقامات البديعية، والحريرية تصغر الهمة؛ لأنها بنيت على السؤال والاستجداء والتحيل القبيح4، والطريف أن الحريري أشار في مقدمة مقاماته إلى أن سيغض منها بعض الناس، إذ يقول: "إني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونصح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر "حقد" متجاهل، يضع معنى لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات"5، واوضح أن الحريري يحتج على صواب عمله بكتاب كليلة ودمنة، وأمثاله من القصص التي بنيت على الحيوان، فإن أحدًا لم يذمها لما فيها من حكم وآداب، ولكن هل يفهم من ذلك أنه قصد إلى بث
1 معجم الأدباء 16/ 262.
2 نفس المصدر 16/ 267.
3 وفيات الأعيان "طبع المطبعة الميمنية" 1/ 419.
4 الفخري في الآداب السلطانية ص10.
5 مقامات الحريري مع شرح الشريشي "الطعبة الثانية ببولاق" 1/ 18.
معان أخلاقية في مقاماته؟ إن من يقرأها قلما يرى شيئًا من ذلك، إلا في المقامة الدمشقية والمقامة الساوية، ويظهر أنه كان مشغولًا عن هذه المعاني بتدبيج أساليبه، وتحبيرها.
وتبلغ عدة مقاماته خمسين، وهي كمقامات البديع، كلها حكايات درامية تفيض بالحركة التمثيلية، وإن كان الحريري لم يقصد بها إلى القصص من حيث هو، وإنما قصد بها إلى تعليم الناشئة الأساليب الأدبية، وقد بناها على الرواية إذ يروي الحارث بن همام أحاديثها، ويقول ابن خكان: إنه عنى بهذا الحارث نفسه أخذًا
من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم حارث وكلكم همام"، والحارث: الكاسب، والهمام: كثير الاهتمام1، أما الأديب المتسول الذي تروى عنه المقامات، والذي يقابل عند الحريري أبا الفتح الإسكندري عند بديع الزمان، فهو أبو زيد السروجي، وهو من أهل الكدية الذين احترفوا التسول متخذين وسيلتهم إلى ذلك الحلب بصوغ اللسان، وسحر البيان، وصور الحريري في المقامة الساسانية دواعي هذا التسول، ودوافعه، ويزعم ياقوت2 وكذلك ابن خلكان3 أن شخصيتة أبي زيد شخصية حقيقة، ولكن الباحثين المحدثين يتهمون ذلك ويردونه4؛ لأنه لا مبرر له، وما أبو زيد إلا كأبي الفتح الإسكندري صاحب بديع الزمان، بل كأي بطل لقصة أخرى، ليس من الضروري أن يكونوا معبرًا عن حقيقة خلفه.
والمعروف أن الحريري استهل كتابة مقاماته بالمقامة الثامنة والأربعين، وهي المسماة باسم المقامة الحرامية، ثم أخذ في كتابة بقية المقامات5، وقد بدأ في هذا العمل عام 495هـ، انتهى منه عام 504هـ6، وأقر في مقدمتها بأن الذي أشار عليه بكتابتها شخص "إشارته حكم، وطاعته غنم"7، وهو
1 وفيات الأعيان 1/ 420.
2 معجم الأدباء 16/ 263، وكذلك ص 272.
3 وفيات الأعيان 1/ 419.
4 انظر في دائرة المعارف الإسلامية ترجمة الحريري، ومادة مقامه.
5 معجم الأدباء 16/ 263.
6 معجم الأدباء 16/ 283.
7 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 1/ 11.
السياسي الفارسي المشهور أنو شروان بن خالد1، الذي كان وزيرًا تحت إمرة الخليفة المسترشد بالله، والسلطان مسعود السلجوقي2، ورأى ابن خلكان على نسخة من المقامات، كتبها الحريري نفسه أنه صنفها لوزير آخر للمسترشد يسمى ابن صدقة3، فشك في الرواية الأولى، التي تذهب إلى أن أنوشروان بن خالد هو الذي أشار عليه بها، ولكن من يدري؟ ربما كانت المسألة لا تزيد على أن الحريري كتب نسخة، وأهداها إلى ابن صدقة! ويقال: إن الحريري كتب خطه على سبعمائة نسخة من مقاماته قرئت عليه4، وأكبر الظن أن اهتمامه بها على هذا النحو، هو الذي حال بينها وبين البتر والحذف، والتغيير، ولذلك كانت مقاماته من هذه الوجهة، أتم وأطرف من مقامات البديع التي تبدو مبتورة في كثيرة من الأحيان.
ولعل أهم جانب تفترق به مقامات الحريري من مقامات بديع الزمان، هو أنها كتبت في ظلال مذهب التصنع وعقده، بينما كتبت مقامات البديع في ظلال مذهب التصنيع وزخرفه، وليس معن ذلك أن الحريري لم يبن مقاماته على السجع، ولا على وشي البديع، بل لقد بناها على أساس هذه المواد، ولكنه أخرجها في صورة جديدة هي صورة مذهب التصنع، وما يمتاز به من تصعيب الأداء، إما بجلب أشياء غريبة عن دوائر الفن من حيث هو، وإما بتعقيد ما يندمج في هذه الدوائر من جناس، وغير جناس، وإما باستحداث طرق جديدة كالطريقة التي قابلتنا في رسائله، إذ وجدناه يبني بعضها على حرف واحد، ومن يرجع إلى مقدمة مقامات الحريري يجده يقول فيها: إنها تحتوي على "ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة"5. وهذا نفسه الذي يجعلنا نقول: إن الحريري عقد أسلوب الكتابة
1 معجم الأدباء 16/ 263، ووفيات الأعيان 1/ 420.
2 Nicholson، Lit Hist. of Arabs.
3 وفيات الأعيان 1/ 420.
4 معجم الأدباء 16/ 267.
5 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 1/ 13.
في مقاماته، فهو يعترف منذ السطور الأولى فيها بأنه سيوشحها بالآيات القرآنية، وكان هذا التوشيح إحدى سمات أصحاب التصنع، وهو لا شك مقصد جميل في ذاته، ولكنه يقترن بأشياء أخرى تتصل بتصعيب الأداء وتعقيده، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك هو الكنايات، التي يشير إليها الحريري، وإنها لتحيل كثيرًا من جوانب مقاماته إلى ما يشبه الألغاز، وارجع إلى المقامة التاسعة عشرة الملقبة بالمقامة النصيبية تجده يكثر من الكنايات على النحو مبعد في الإغراب، إذ يكنى عن الموت بأبي يحيى، وعن الجوع بأبي عمرة، وعن الخوان بأبي جامع، وعن الخبز الحواري بأبي نعيم، وعن الجدي بأبي حبيب، وعن الخل بأبي ثقيف، وعن الملح بأبي عون، وعن البقل بأبي جميل، وعن السكباج بأم القرى، وعن الهريسة بأم جابر، وعن الفالوذج بأبي العلاء، وعن الطست والإبريق بالمرجفين، وهو حقًا لا يكثر في مقاماته الأخرى من هذه الكنايات، ولكنها على كل حال موجودة في جوانب كثيرة منها، وهو كما يوشح مقاماته بهذه الكنايات، كي يعقد أسلوبها، نراه يرصعها -كما يقول في المقدمة- بالأمثال على نحو ما نجد في المقامة الوبرية، وقد قال: إنه وضع في المقامة الحجرية بضعة عشر مثلًا1، وكما عني بالأمثال عني بالحكم على نحو ما نجد في المقامة القهقرية، أما الأحاجي النحوية، فقد خصص لها المقامة المسماة بالمقامة النحوية، إذ عرض فيها طائفة من أحاجي النحو ومشاكله، وكما عني بأن يخصص للنحو مقامة، كذلك عني بأن يخصص للفقه مقامة سماها المقامة الطيبية ذكره فيها مائة مسألة فقهية.
أرأيت كيف تطور الفن في النثر العربي، وأنه أصبح يعتمد على أشياء لم نكن نألفها عند التاب قديمًا؟ فإذا الحريري يسلكط في مقاماته مسائل النحو والفقه، كما يسلك فيها الكنايات والأمثال، وكل ذلك ليقدم لمعاصريه طرائفه الجديدة، وهو لا يقف عند ذلك، إذ نراه يعمد -كما يقول في مقدمته- إلى
1 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 3/ 378.
الفتاوى اللغوية من ذكر بعض الاشتقاقات والأبنية الغريبة، ولعل ذلك ما جعل ابن خلكان يقول: إنها "اشتملت على كثير من كلام العرب من لغاتها"1، وشكا الشريشي شارحها في مقدمته من هذا الجانب فيها وصعوبته، وما من ريب في أن ذلك يدلنا على أن الحريري كان يبحث عن وسائل جديدة، يوشى بها عمله، ولكنه حين اتجه هذا الاتجاه ضل سبيله، فوقع في هذه الطرق الغريبة من التصنع لشوارد اللغة، أو شوارد الأمثال، أو مسائل النحو، أو مسائل الفقه أو غرائب الكنايات، كأن اللغة العربية قد أجدبت، ولم تعد تستطيع أن تقدم من زخارف التعبير سو هذه الطرق الملتوية المعقدة، التي لا تتصل بالفن ولا بأي زخرف من زخارفه، إلا إذا جلعنا التعقيد من حيث هو زخرفًا وفنا يقصد لذاته.
ويشير الحريري -في مقدمة مقاماته- إلى رسائل مبتكرة وخطب محبرة، وإذا ذهبنا نبحث عن هذه الرسائل، والخطب لنرى ما فيه من طرافة يدل بها الحريري، وجدنا هذه الطرافة تستقر في صور معقدة بل قل: في صور ملتوية، إذ مضى يؤلف رسالة على هذا النمط2:
"أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب3، وقر به تحف، ونأيه تلف، وخلته نسب، وقطيعته نصب، وغربه ذلق4، وشهبه تأتلق، وظلفه5 زان، وقويم نهجه بان، وذهنه قلب وجرب، ونعته شرق وغرب
…
معاظم شرفه تأتلف، وشؤبوب حبائه يكف6، ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف7 سخائه، يحتلب، وذهب عيابه يحترب8، من لف لفه فلج وغلب، وتاجر بابه جلب وخلب".
والرسالة تمضي على هذا النحو الذي نرى فيه كل كلمة تتألف من حروف
1 وفيات الأعيان 1/ 419.
2 انظر الرسالة بأكملها في المقامة المسماة بالرقطاء.
3 العقوة: الفناء، يلب: يقام.
4 الغرب: حد السيف، ذلق: حاد.
5 الظلف: العفاف.
6 الحباء: العطاء. يكف: يسيل.
7 الحلف: الضرع.
8 العياب: الحقائب. يحترب: يستلب.
منقوطة، وغير منقوطة بحيث لا تتوالى بل دائمًا تتفاصل هذا التفاصل، الذي يجعل الطرف ينتقل بين حرف منقوط، وغير منقوط، أرأيت إلى هذا البدع الجديد بدع الحريري؟ وإنه لبدع يبرهن به على مقدرته، ومهارته في صوغ الكلام، ولكن أي صوغ؟ طبعًا هذا الصوغ المعقد في الأداء، فإذا هو لا يستقيم في كتابته، بل يعوج هذا الاعوجاج الذي يتيح له مثل هذه الصعوبات والتعقيدات، وقد ألف خطبة -في المقامة المسماة بالواسطية- من كلمات لا تشتمل على أي حرف منقوط، وقدمها بقوله: إنها "لم تفتق رتق سمع، ولا خطب بمثلها في جمع"، وليست هذه هي كل طرائف الحريري، فقد كان ما يزال يبحث عن طرائف جديدة، يظهر بها مهارته في تعقيد أدائه بالقياس إلى من سبقوه وعاصروه، وذهب يحاول غريبة، هي أن يأتي بالجملة ثم يعكسها في الجملة التالية، وسمي ذلك في المقامة المغربية ما لا يستحيل بالانعكاس، ومثل له بقوله:
"لم أخا مل، كبر جاء أجر ربك من يرب1 إذا برينم، سكت كل من نم لك تكس2، بكل مؤمل إذا لم وملك بذل".؟
وهذه آخر صورة، وصل إليها التعقيد عند الحريري، فقد ذهب يقلب تعبيراته هذا القلب لتطرد له صورة من الألفاظ المتعاكسة في عباراته، وكأن ذلك هو ما يحرص عليه الفن في أساليبه! ولكن أي أساليب؟ أنها طبعًا أساليب التصنع، وما يطوى فيه من تعقيد، وتصعيب في طرق الأداء على هذه الهيئة، فإذا الكاتب يفر من الأداء المستقيم إلى الأداء الملتوي، لا ليدل على شيء سوى مهارته في اللعب والعبث بالألفاظ، وأنه لعبث ينتهي به إلى هذه الصورة الهندسية، التي لا تحوي فنا ولا جمالًا، وإنما تحوي تعقيدًا، كأنما التعقيد غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في آثاره وأعماله، ونحن في الواقع نبحث عبثًا إذا حاولنا أن نجد كاتبًا مهمًا بعد أبي العلاء، لا يركب مثل هذه الطرق الملتوية في تعبيره الفني، إذ كانت هي المقاييس التي تقاس بها مقدرة الكاتب وبراعته، وليس معنى ذلك
1 يرب: يصون الصنيعة.
2 تكس: تكن كيسًا.
أننا ننكر جمال مقامات الحريري، وتوفيقه في كثير من جوانبها، وإنما نريد أن نلاحظ هذه الملاحظة، وهي أن خير نموذج أدبي قدمته لنا العصور التالية بعد أبي العلاء، لم يستطع صاحبه أن ينفذ به إلى إعجاب الناس من حوله دون أن يضع لهم فيه ضروبًا من التعقيد، والتصعيب في الأداء بجانب ما فيه من سجع رشيق وترصيع وبديع، فقد مسح عليه لا بالتزامه ما لا يلزم في نهاية سجعاته، بل باستخدامه الواسع للكنايات، والأمثال، والمسائل النحوية، والفقهية والشعبذة برسالة رقطاء، وخطبة من ذوات الحروف المهملة، وما يتصل بذلك من استخدام ما لا يستحيل بالانعكاس، فإن هذه الجوانب كلها سقطت إلى عمله عن طريق مذهب التصنع، الذي كان يعجب به وبأصحابه، ومن الخطأ أن نبحث في هذه العصور عن كاتب لا يستخدم مثل هذه العقد والطرق الملتوية في فنه، فقد كان ذلك الذوق العام للناس، وكان الكاتب ما يزال يحتال على إرضاء هذا الذوق بصور وطرق مختلفة، وما من شك في أن الحريري كان يعرف ذلك معرفة دقيقة، ومن أجله ذهب يغرب على الناس في مقاماته بهذه المواد التي قدمناها حتى يظفر بإعجابهم، وقد استمرت به رغبته تلك، حتى استطاع أن يستحدث هذه الطرفة الغريبة، طرفة ما لا يستحيل بالانعكاس، وهي طرفة تعبر أبلغ تعبير، عما انتهى إليه الفن لعصر الحريري من تصعيب وتعقيد.