الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ميدان الترجمة، وهذا أسلوب يقوم على السهولة والوضوح مع توفير الجزالة والرصانة، وكان يعمد فيه إلى الإيجاز، فالمعاني تؤدي بأقل الألفاظ دون أن تقصر عنها ودون أن تطول طولا يجحف بحقوقها، ولعل ذلك هو الذي جعله يعدل عن أسلوب السجع، وكذلك عن أسلوب الترادف الصوتي الذي سبق أن لاحظناه عند الوعاظ، وعند عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يهتم بالجمال المادي بتاتًا، وإنما معناه أنه كان مترجمًا، وكان يسعى إلى الدقة في الترجمة، فلم يتوسع في رصف الألفاظ وبسطها، حتى لا تخونه في أداء معانيه. لقد كانت غايته أن يوفق بين اللفظ الدال والمعنى المدلول، ومع ذلك لم ينس أبدا أن يكون لفظه جزلا رصينا مصقولا، وأن ينسقه في حركاته وأوضاعه تنسيقا مبينًا، لا يخفي أي شيء مما يحمله معنى أو صورة، وقد ظلت القرون التالية إلى قرننا الحاضر تتداول كثيرا مما ترجمه، وخاصة كليلة ودمنة والأدب الكبير، والأدب الصغير، وهذا الصمود للتداول الطويل مرجعه هذا التعاون الوثيق بين المعنى الحصيف، واللفظ الرشيق.
سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته
…
4-
سهل بن هارون: أصله وحياته وثقافته
إذا تركنا عصر ابن المقفع، وتقدمنا إلى عصر هارون الرشيد التقينا بسهل بن هارون، وهو فارسي من دستميسان1، كورة بين البصرة وواسط والأهواز، ويعين الحصري القرية التي ولد فيها، فيقول: إنها ميسان2، واختلف الرواة في اسم جده، فهو في الفهرست رامنوي أو راهبون، وهو في البيان والتبيين راهبوني3، وهو مثل ابن المقفع لا يعرف بالضبط متى كان مولده، أما وفاته فكانت في عام 215 للهجرة4، وقد ترك موطنه أول الأمر إلى البصرة حيث
1 الفهرست "طبعة القاهرة" ص 174.
2 زهر الآداب 2/ 258.
3 البيان والتبيين 1/ 52.
4 معجم الأدباء "طبعة القاهرة" 11/ 267.
تخرج فيها، ثم انتقل إلى بغداد، فكتب ليحيى بن خالد البرمكي، وله أشعار في مديحه1، ويقال: إنه خلفه على الدواوين2، ويظهر أنه ظل يشتغل فيها لعهد الأمين3، ولما ولي المأمون الخلافة قدمه إليه الفضل بن سهل فأعجب به، وجعله خازنًا بدار الحكمة4، وظل بها إلى أن توفي.
ودلائل كثيرة تدل على أنه كان مثقفا ثقافة ممتازة بجميع معارف عصره، وأنه كان أحد النقلة من لسانه الفارسي إلى العربية5، ولكن أهميته لا ترجع إلى ما ترجم، بل ترجع إلى ما صنف وألف، ومن أجل ذلك كان يختلف عن ابن المقفع، فابن المقفع أهميته الأولى في تاريخ النثر العربي، إنما ترجع إلى أنه كان مترجما، وأنه مرن أساليب العربية على حمل الثقافات الأجنبية، أما سهل فكان أديبا تبدو شخصيته فيها يؤلف، ويدبج، ويحبر.
ويجمع من ترجموا لسهل على أنه كان شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، ويقول صاحب الفهرست: إن له في ذلك كتبا كثيرة6، وعلى نحو ما اشتهر بالشعوبية اشتهر بالحكمة، حتى لقبوه "بزرجمهر الإسلام"7، ووصفه الجاحظ فقال:"كان سهل سهلا في نفسه، عتيق8 الوجه، حسن الشارة، بعيدا من الفدامة9، تقضي له بالحكمة قبل الخبرة، وبرقة الذهن قبل المخاطبة، وبدقة المذهب قبل الامتحان، وبالنبل قبل التكشف"10، ويلاحظ ابن النديم أن الجاحظ كان يفضله، ويصف براعته وفصاحته، ويحكى عنه في كتبه11، وقد صرح مرارا بأنه كان يلقاه12، وروى كثيرا من نوادره، فمن
1 الحيوان 3/ 466، 5/ 603 والبيان والتبيين 3/ 352.
2 شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون "طبعة دوزي" ص 243 وما بعدها.
3 البيان والتبيين 1/ 346.
4 معجم الأدباء 11/ 267.
5 البيان والتبيين 3/ 29.
6 الفهرست ص 174.
7 زهر الآداب 2/ 258 وسرح العيون "طبعة المطبعة الوطنية" ص 132.
8 عتيق الوجه: جميل.
9 الفدامة: العي.
10 البيان والتبيين: 1/ 89.
11 الفهرست ص 174.
12 البيان والتبيين 1/ 238 والحيوان 7/ 202.
ذلك أنه تندر على أحد جيرانه، وهو صغير يختلف إلى الكتاب، فقال:
نبيت بغلك مبطونا فرغت له
…
فهل تماثل أو نأتيك عوادا1
ويدل هذا على أنه كانت فيه نزعة إلى الفكاهة منذ حداثته، وتروي له في ذلك طرائف كثيرة، منها أن رجلًا لقيه فقال له: هب لي ما لا ضرر به عليك، فقال: وما هو يا أخي؟ قال: درهم، قال سهل:"لقد هونت الدرهم، وهو طائع الله في أرضه لا يعصي، وهو عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف دية المسلم، ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم"2، وقال دعبل الشاعر:"أقمنا عند سهل بن هارون، فلم نبرح، حتى كدنا نموت من الجوع، فلما اضطررناه، قال: يا غلام! ويلك غدنا! قال: فأتينا بقصعة "بصفحة" فيها مرق، فيه لحم ديك هرم، ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه السكين، ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة، حتى فقد الرأس من الديك، فبقي مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، فقال: أين الرأس؟ فقال: رميت به. قال سهل: ولم رميت به؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي بجليه، فكيف من يرمي برأسه؟ ثم قال له: لو لم أكره ما صنعت إلا للطيرة "التشاؤم"، والفأل لكرهته، الرأس رئيس، وفيه الحواس "الخمس"، ومنه يصبح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقة الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل، يقال: شراب كعين الديك "في الصفاء" ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم أر عظما قط أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فإن عندنا من يأكله، أما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق والعنق، انظر أين هو، قال:
1 الحيوان 3/ 66.
2 سرح العيون ص 133.
والله ما أدري أين رميت به، قال: لكني أدري أنك رميت به في بطنك، والله حسيبك"1. ويروى أن أبا الهذيل العلاف المتكلم المعروف طلب إليه رقعة إلى الحسن بن سهل يوصيه به، فكتب له كتابا، وذعهب به إلى الحسن، فلما فضه أغرب في الضحك، إذ وجد فيه هذه الأبيات:
إن الضمير -إذا سألتك حاجة
…
لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فامنحه روح اليأس ثم امدد له
…
حبل الرجاء بمخلف الوعد
حتى إذا طالت شقاوة جده
…
وعنائه فاجبهه بالرد
وإن استطعت له المضرة فاجتهد
…
فيما يضر بأبلغ الجهد
فلما راجعه أبو الهذيل قال له: أين عزب عنك الفهم؟ أما سمعت قولي: إن الضمير خلاف ما أبدي؟ فلو لم يكن ضميري الخير ما قلت هذا"2، وقالوا: إن المأمون انحرف عنه، فدخل عليها يومًا، وقال: يا أمير المؤمنين! إنك ظلمتني وظلمت فلانا الكاتب، فقال له: ويلك وكيف؟ قال: رفعته فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك له في ذلك أشد ظلما، قال: كيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ وأقمتني مقام رحمة، فضحك المأمون، وقال له: قاتلك الله! ما أهجاك! "3. وقصوا عنه أنه خاطب بعض الأمراء، فقال له: كذبت، فقال: أيها الأمير! إن وجه الكذاب لا يقابلك -يعني الأمير بذلك- لأن وجه الإنسان لا يقابله4.
وكل هذه الأحاديث والنوادر المروية عن سهل تدل على ذكائه، وفطنته وخفه روحه، وصدق الجاحظ إذ يقول: إنه كان سهلا في نفسه تحكم له برقة الذهن ودقته، فهو فكه، وهو لسن شديد العارضة، وفي لهجة لسانه وأسلوب منطقه ما يجعلنا نحس الصلة الشديدة بينه، وبين الجاحظ، إذ يعد امتدادا -من بعض الوجوه- لهذا اللسان ونموا لهذا القعل وما طوى فيه من حجاج وجدل.
1 الحيوان 2/ 374 وانظر سرح العيون ص133.
2 سرح العيون ص 134.
3 نفس المصدر ص 134.
4 سرح العيون ص 134.