المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم: - الفن ومذاهبه في النثر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: مذهب الصنعة

- ‌الفصل الأول: الصنعة في‌‌ النثر الجاهلي

- ‌ النثر الجاهلي

- ‌ الأمثال الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الأمثال الجاهلية:

- ‌ الخطابة الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الخطابة الجاهلية:

- ‌ سجع الكهان:

- ‌الفصل الثاني: الصنعة في النثر‌‌ الإسلامي

- ‌ الإسلام

- ‌ الخطابة في صدر الإسلام:

- ‌ الخطابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الخطابة الأموية:

- ‌ الكتابة في صدر الإسلام:

- ‌ الكتابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الكتابة الأموية:

- ‌ عبد الحميد الكاتب، وخصائصه الفنية:

- ‌الفصل الثالث: الصنعة في‌‌ النثر العباسي

- ‌ النثر العباسي

- ‌ ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته:

- ‌ صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله:

- ‌سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته

- ‌ صنعه سهل في رسائله وكتبه:

- ‌ الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته:

- ‌ الصنعة الجاحظية:

- ‌ رسالة التربيع والتدوير:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنيع، مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنيع والدواوين

- ‌ التصنيع في الحياة العربية:

- ‌ التصنيع ودواوين الخلافة العباسية:

- ‌ التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية:

- ‌ ابن العميد: حياته وثقافته

- ‌ تصنيع ابن العميد:

- ‌ الصاحب بن عباد وتصنيعه:

- ‌ تصنيع أبي إسحاق الصابي:

- ‌ التصنيع عام بين كتاب الدواوين:

- ‌الفصل الثاني: التصنيع والتصنع

- ‌ اشتداد موجة التصنيع:

- ‌ أبو بكر الخوارزمي، وتصنعه:

- ‌التصنع وتصنيع الخوارزمي

- ‌ بديع الزمان وتصنيعه:

- ‌التصنع وتصنيع بديع الزمان

- ‌ مقامات البديع، وما فيها من تصنع:

- ‌ قابوس بن وشمكير وتصنعه:

- ‌ ذيوع التصنع وانتشاره:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتعقيد

- ‌ أبو العلاء: حياته، وذكاؤه، وثقافته

- ‌ أبو العلاء وتعقيده:

- ‌ التعقيد في رسالة الغفران:

- ‌ التعقيد في الفصول والغايات:

- ‌ الحريري وتعقيده:

- ‌ التعقيد في مقامات الحريري:

- ‌ الحصكفي وتعقيده:

- ‌ التعقيد ظاهرة عامة:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصية الأندلس:

- ‌ النثر الأندلسي:

- ‌ ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي:

- ‌ جمود النثر الأندلسي:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شخصية مصر:

- ‌ النثر المصري:

- ‌ الفاطميون، ونهضة النثر المصري:

- ‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم:

- ‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

- ‌ العصر العثماني، والعقم، والجمود:

- ‌خاتمة:

- ‌ الصورة العامة للبحث:

- ‌ النثر المصري الحديث:

- ‌ بين القديم والجديد:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم:

ومهما يكن، فقد كان ابن الشخباء من كبار الكتاب في العصر الفاطمي، وهو من هذه الناحية يعتبر سجلًا طريفًا لتطور الكتابة في هذا العصر، فإن ما بقي من كتبه، ورسائله يدل على خطأ من يذهبون إلى أن القاضي الفاضل، هو أول كاتب كبير يظهر في مصر، ويبالغ بعض مؤرخي الأدب في ذلك، فينسبون إليه ما يسمى طريقة القاضي الفاضل، وحقًا إن القاضي الفاضل كان أكبر شخصية ظهرت في الكتابة بعد العصر الفاطمي، ولكن ينبغي أن لا نبالغ في ذلك مبالغة تؤدينا إلى أن نرى العصر الفاطمي بالتأخر في الكتابة، فإن القاضي الفاضل نفسه تخرج في هذا العصر، ولو لم يأت أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لكان القاضي الفاضل من كتاب العصر الفاطمي، بل لقد تم تكون القاضي الفاضل في هذا العصر نفسه، وكان من كتاب دواوينه، بل لقد كان يقلد تقليدًا في هذا العصر نفسه، وكان من كتاب دواوينه، بل لقد كان يقلد تقليدًا شديدًا آثار كتابه من أمثال ابن الشخباء وغيره، وسنرى أنه لا يكاد يأتي بجديد في استخدام العناصر الفنية، بالقياس إلى صناعة ابن الشخباء، إنما كل ما هنالك أنه اتسع بها ووسع طاقتها، واستطاع أن ينفذ بها إلى كل ما أراد من تجويد وتحبير.

ص: 364

5-

‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم:

لا نكاد نتقدم في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، حتى يقوم الخلاف العنيف بين شاور وضرغام وزيري العاضد، وسرعان ما تتأجج نيران الحروب بينهما، فيستعين شاور بنور الدين صاحب حلب، وهو أكبر شخصية حينئذ كانت تعني بحرب الصليبيين، ودفع موجاتهم إلى البحر المتوسط وما وراءه، وحدث أن ضرغامًا استعان بهم ضد خصمه، فخشي نور الدين أن يستولي الصليبيون على مصر، وأن يندفعوا منها إلى الاستيلاء على العالم العربي، لذلك أرسل إلى شاور بنجدة كبيرة، على رأسها أحد قواده، وهو أسد الدين

ص: 364

شيركوه، وجاء أسد الدين إلى مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين، فهزم الصليبيين، ورد الأمر إلى شاور إلا أنه قتل، فحل محله أسد الدين في وزارة العاضد، ولكن الموت عاجله، حينئذ نرى صلاح الدين يتولى الوزارة مكان عمه، وينبهم الموقف فالخليفة شيعي، ووزيرها سني، وهو يتبعه من جهة، كما يتبع نور الدين من جهة أخرى، ويرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن ينقل الخطبة في المسجد الجامع إلى الخليفة العباسي، ويقضي على نظام الحكم الشيعي، فيصدع صلاح الدين بالأمر، وينفذ مشيئة نور الدين، ثم تخدم الظروف صلاح الدين، فإذا نور الدين يتوفى بعد قليل، فيستقل هو بمصر، بل نراه يذهب إلى الشام، فيستولي على ممتلكات نور الدين، حتى يوحد العالم الإسلامي أمام الصليبيين، ويستمر فيستولي على أجزاء من الموصل، كما يستولي على بلاد العرب، ويؤسس في مصر دولة عظيمة هي الدولة الأيوبية، التي كان أصحابها يلقبون أنفسهم بالملوك.

كانت الدولة الأيوبية دولة سنية، لذلك أخذت تناهض التشيع الفاطمي، ومظاهره في مصر، واتخذت لذلك طريقة منظمة هي إنشاء المدارس، والمعاهد السنية، وقد بدأ صلاح الدين هذه الحركة، فأنشأ طائفة من المدارس كي يدعم الدعوة السنية، يقول ابن خلكان:"لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية، كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمل في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفًا كبيرًا، وجعل دار سعيد السعداء خادم الفاطميين خانقاه، ووقف عليها وقفًا طويلًا، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي، والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد كبير أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفًا على الشافعية، وقفها جيد أيضًا"1، وكما عني صلاح الدين بمحاربة التشيع في مصر، عني أيضًا بمحاربة التفلسف عناية

1 وفيات الأعيان 2/ 402.

ص: 365

شديدة، يقول القاضي ابن شداد في سيرته:"كان مبغضًا لكتب الفلاسفة أرباب المنطق ومن يعاند الشريعة، ولما بلغه عن السهروردي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله"1، وأكبر الظن أن لصلاح الدين يدًا في ضعف الحركة الفلسفية بمصر منذ عصره، فقد تبعه العلماء يعنون بالدراسات الدينية، والتاريخية واللغوية، مهملين للدرسات الفلسفية، واستمر ذلك طوال العصر الأيوبي وعصر المماليك أيضًا، يقول بهاء الدين السبكي، وهو من علماء عصر المماليك:"إن أهل مصر صرفوا همهم إلى علوم اللغة، والنحو والفقه، والحديث وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق، الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقيلة والمنطق"2، ومعنى ذلك أن مصر استمرت مطبوعة بالطابع، الذي كان أراده لها صلاح الدين، حتى عصر المماليك وبعد عصرهم أيضا، وكأنما إعجاب المصريين بصلاح الدين، وحروبه الصليبية جعلهم يقتدون بسيرته في حياته العقلية.

ومن يرجع إلى سيرة مدلوك الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، يجدهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالدراسات السنية، وخاصة دراسة الحديث، ومما يروى بصدد ذلك أن ابنه العزيز الذي خلفه على مصر، سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وأبي محمد بن بري النحوي وغيرهم3، وكان عمه العادل الذي ولي مصر بعده معنيًا بأرباب السنة، صنف له فخر لدين الرازي كتاب تأسيس التقديس، وذكر اسمه في خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان4، وكان الكامل ابنه يحب العلماء، والأماثل ويلقي عليهم المشكلات5، وكان محبًا للحديث وأهله، حريصًا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف، خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا، وسمعها جماعة ويقولون: إن ابن بري وغيره أجازوا له رواية الحديث6، وقد بنى مدرسة عرفت باسم دار الحديث الكاملية، وهي ثاني دارع عملت للحديث، أما أول

1 النجوم الزاهرة 6/ 9.

2 عروس الأفراح للسبكي 1/ 5.

3 النجوم الزاهرة 6/ 127.

4 النجوم الزاهرة 6/ 163.

5 نفس المصدر 6/ 227.

6 النجوم الزاهرة 6/ 228.

ص: 366

دار فهي الدار التي أسسها نور الدين بدمشق1، نستمر حتى نلتقي بالملك الصالح، نجم الدين أيوب فنراه يبني المدرسة الصالحية، وكانت تدرس فيها المذاهب الأربعة2، وما من ريب أن في ذلك كله يدل عن أن الأيوبيين بعثوا في مصر اهتمامًا واسعًا بالدراسات الدينية.

وإذ تركنا الدرسات الدينية إلى الكتابة الأدبية، وجدنا الأيوبيين يجنون في عصرهم ثمار النهضة الفنية، التي رأيناها في العصر الفاطمي، وقد ظفروا فيما ظفروا من هذه الثمار بالقاضي الفاضل، أحد كتاب دواوين العصر الفاطمي، وقربه منه صلاح الدين، واتخذه وزيره وكاتبه، وكنا أبلغ كتاب عصره، فدفع الصعر الأيوبي كله من ورائه في دوائر نماذجه، وما أتاحه لهذه النماذج من صفات أدبيه، وأعانته في ذلك شخصية كبيرة أتت من المشرق، هي شخصية عماد الدين الأصبهاني، الذي نشأ بأصبهان، ثم قدم بغداد وتخرج في المدرسة النظامية، ولما تخرج فيها خدم الوزير، يحيى بن هبيرة ببغداد، ثم انتقل إلى دمشق وسلطانها يومئذ نور الدين، فألحقه بديوان الإنشاء، وتعرف أثناء ذلك بصلاح الدين، وقامت بينهما مودة وثيقة، ولما أنشأ نور الدين المدرسة النورية في دمشق أسندها إليه، واستمر في هذا العمل حتى توفي نور الدين، فانتقل إلى صلاح الدين وتعلق به، ومدحه كثيرًا كما مدح القاضي الفاضل، رجاء أن ينظمه في سلك سلطانه، وعمل القاضي الفاضل على ذلك، فقربه من صلاح الدين، وأصبح الكاتب الثاني في الدولة الصلاحية بعد القاضي الفاضل، وكان العماد أديبًا كبيرًا، وله ديوان شعر ورسائل كثيرة، كما أن له الكتاب المشهور:"الفيح القسي في الفتح القدسي"، يصف فيه فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، وأيضًا له الخريدة، وهو ينهج في كتاباته نهج أصحاب التصنع في عصره، وقد كان القاضي الفاضل يذهب غالبًا هذا المذهب مستنا في ذلك بكتاب العصر الفاطمي، وعلى رأسهم ابن الشخباء، فتآلف الكاتبان فنيًا كما تآلفا اجتماعيًا، ولعل مما يثبت عناية بالتصنيع ما يروى من أن

1 النجوم الزاهرة 6/ 229.

2 حسن المحاضرة 2/ 156.

ص: 367

العماد لقي القاضي الفاضل يومًا وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي الفاضل توًّا: دام علا العماد1، وأكبر الظن أن القارئ لا يزال يذكر ما مر بنا عند الحريري، مما كان يسميه "ما لا يستحيل بالانعكاس"، وكان الحريري يأتي به ليدل على مقدرته البالغة، وها نحن الآن في مصر بعد الحريري بنحو نصف قرن، نقرأ في آثار مشاهير الكتاب، فإذا هم يتجهون نفس الوجهة من الإطراف بغرائب العبارات، وهو إطراف لا يأتي من المعنى، وإنما يأتي من الشكل الخارجي، إذ يستطيع الأديب أن يستخدم عقدة من عقد التعبير، وهو غالبًا لا يأتي بعقد جديدة، وإنما يستخدم بعض العقد السابقة، فإذا القاضي والعماد جميعًا يعمدان في جملتين إلى استخدام "ما لا يستحيل بالانكاس"، فيهما حتى يدلًا على مقدرتهما وبراعتهما، وأنهما يستطيعان أن يأتيا بعبارات تقرأ طردًا وعكسًا، والغريب أن العماد مع أنه جاء من المشرق موطن التصنع، لم يستطع أن يتفوق على القاضي الفاضل، الذي تخرج في ديوان الفاطميين، وهذا نفسه دليل واضح على أن هذا الديوان ارتقت فيه الكتابة في العصر المتأخر رقيًا، لا يقل عن رقيها في المشرق.

ومهما يكن فإن القاضي الفاضل كان أستاذ عصره غير منازع، وشهد له ابن خلكان بذلك، إذ وازن بين كتبه في فتح بيت المقدس وما كتبه العماد وغيره، فقال:"إنه رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب، لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه"2، ومن أجل ذلك سنقف عنده لنتبين نهضة الكتابة الفنية في العصر الأيوبي، وما امتازت به من خصائص أدبية، وهي خصائص استمرت تخضع لها الأجيال التالية خضوعًا شديدًا.

القاضي الفاضل:

هو، عبد الرحيم البيساني، ولد في عسقلان، فهو عسقلاني الأصل كابن الشخباء؛ وولي أبوه قضاه بيسان من قبل الفاطميين، فنسب هو إليها، ولما

1 معجم الأدباء 19/ 18 وفيات الأعيان 2/ 75.

2 وفيات الأعيان 2/ 395.

ص: 368

شب أرسل إلى ديوان الإنشاء في القاهرة لتخرج فيه، فحضرر إلى مصر في عهد الحافظ1 "524-544هـ"، وتتلمذ على أشهر الكتاب، وكان الموفق ابن الخلال حينئذ رئيس ديوان الإنشاء، وكان معه ابن قادوس الأديب المشهور، فلزمهما، ويقول الرواة: إنه لم مثل بين يدي الموفق سأله: ماذا أعددت لفن الكتابة؟ فأجابه: إني أحفظ القرآن الكريم وديوان الحماسة، فأمره أن يحل شعر الحماسة كله 2، ثم ما زال به يدربه على الكتابة حتى نبغ فيها، ولكنه لم يستمر مع الموفق، بل ذهب إلى قاضي الإسكندرية المسمى بابن حديد، فكتب عنه كتبًا حبرها تحبيرًا ممتازًا، ويقال إن الوزير: العادل ابن رزيك "556-558هـ" اطلع على بعضها: فأعجب بها، وطلبه ليسلكه في كتاب ديوانه، فعاد إلى القاهرة، ومكث في ديوان الإنشاء حتى وفد أسد الدين شيركوه، فقربه منه واتخذه كاتبه، ولما توفي استخدمه صلاح الدين. ويظهر أنه أخلص لهذه الأسرة منذ قدومها، فإننا نجد صلاح الدين يتخذه وزيره، ومشيره كما يتخذه كاتبه، وروي عنه أنه قال:"والله ما ملكت البلاد بسيوفكم ولا برماحكم، ولكن بقلم القاضي الفاضل"، ويقول ابن فضل الله العمري: "كان القاضي الفاضل هو الدولة الصلاحية كان كاتبها ووزيرها، وصاحبها ومشيرها، والحاكم في كلها، والمجهز لبعوثها، ومع هذا كله كان لا يزال منكدًا مبتلى بضنا قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه

ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرًا في كل مرة، وكان العماد ينوب عنه"3، وذكر القاضي نفسه علته في أحد خطاباته فقال: "والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد"4، وكنا كان القاضي عليلا كان -على ما يظهر- تزور عنه العين،

1 تختلف الروايات في الخليفة، الذي جاء القاضي الفاضل في عصره إلى مصر هل هو الحافظ أو هو ابنه الظافر، ورجحنا الأولى؛ لأنها هي التي تتلاءم مع تاريخ القاضي الفاضل، انظر ابن خلكان 2/ 408.

2 وفيات الأعيان 2/ 408.

3 مسالك الأبصار: نسخة خطية بدار الكتب منقولة عن نسخة فوتوغرافية بها، الجزء السابع، ورقة 656.

4 النجوم الزاهرة 6/ 128.

ص: 369

قال الأسعد: بن مماني: "كان القاضي الفاضل دميم الخلقة، وكان له حدبة ظاهرة خلف ظهره وكان يسترها بالطيلسان، حتى لا تظهر للناس"1.

وهذا الرجل العليل القبيح بلغ من فن الكتابة، وتجويده ما لم يبلغه أحد في عصره، يقول العماد الأصبهاني في حقه:"رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار"2.

ويقول النويري: "إلى القاضي الفاضل انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرت أبناء البيان واعترفت، من بحر علمه رويت ذوو الفضائل واغترفت، وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها، وبين يديه استقرت به نواها، فهو كاتب الشرق والغرب في زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل في مصره وغيره مصره، ورافع علم البيان لا محالة، والفاضل بغير إطالة"3، وقد أشاد به وبفنه كل من تعرضوا لترجمته، كما أشار كثير منهم -وعلى رأسهم العماد الأصبهاني- إلى أنه صاحب طريقة، أو كما يقول العماد: شريعة جديدة، ولكن ينبغي أن لا نظن من ذلك أن القاضي الفاضل ابتكر مذهبًا جديدًا، في تاريخ النثر العربي، إنما كل ما هناك أنه قلد أصحاب التصنع فأحسن التقليد، ومن المهم أن نعرف أن الكتاب في الأقالبيم المختلفة، منذ القرن السادس أخذوا يغمرون بذوق التصنع في الكثير الأكثر، وقلما تركوا هذا الذوق إلى ذوق التصنيع، وبدأت هذه المرجة في مصر لا بالقاضي الفاضل، ولكن بابن الشخباء الذي عرضنا له في العصر الفاطمي، والقاضي الفاضل نفسه حين كان يكتب في العصر الفاطمي، كان يكت بهذا الذوق، وانظر إليه يستهل رسالة كتب بها عن العاضد آخر الخلفاء الفاطميين4:

1 بدائع الزهور لابن إياس "طبع بولاق" 1/ 75.

2 وفيات الأعيان 1/ 284.

3 نهاية الأرب "طبع دار الكتب" 8/ 1.

4 صبح الأعشى "طبع دار الكتب" 7/ 79.

ص: 370

"كتابنا -أطال الله بقاء المليك- عن مودة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشباب، وعوائد عوراف لا يتنكر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقض معروفها، ولا ينقض مسوفها1، وسعادة بالخلافة التي عذق2، به أمرها، وأوضح سرها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها".

وهذه الصورة من التعبير، وما يطوى فيها من تشخيص وجناس، وإمعان في هذا الجناس هي الصورة العامة لكتابة القاضي الفاضل؛ ومن يرجع إلى بقية هذه الرسالة في صبح الأعشى، يجد فيها ما اشتهر به من اقتباسه لآي الذكر الحكيم، كما يجد اهتمامه البالغ بالتنظير، بحيث لا نغلوا إذا قلنا: إن فن القاضي الفاضل استوى له نهائيًا في العصر الفاطمي، ونحن نعرض على القارئ قطعًا من رسالة تعبر أشهر ما دبجه -وهي رسالته عن صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يزف إليه البشرى بفتح بيت المقدس- حتى يطلع على خصائصه الأدبية في أروع أثر أدبي عني به وبتدبيجه، وهو يستهلها على هذا النمط3:

أدام الله الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظافر الحد بكل جاحد غني التوفيق، عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم القوم بعزم لا يمضي إلا بنسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المرابع، وأنوارًا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلًا إلى المراقب، وخيالا إلى المراقد".

وأنت ترى القاضي الفاضل في هذه القطعة الصغيرة عني -كما عني في مستهل الرسالة العاضدية- بألوان البديع وخاصة لون الجناس، وذهب يطيل في عباراته، حتى يحقق ما يريد من جناس وتنظير وتشخيص، وما من شك في

1 مسوفها: مؤجلها.

2 عذق به: اختص.

3 صبح الأعشى 6/ 496 وابن خلكان 20/ 392.

ص: 371

أننا نحس في كل ذلك ذوق أصحاب التصنع، إذ نراه يحاول أن يمرن أسلوبه على أن يحمل أوسع ما يمكن، من جناسات منقوصة، وغير منقوصة، واستمر في الرسالة، فستراه يقول عن صلاح الدين، وفتحه لبيت المقدس إنه:

"فاز من بين المقدس بذكر لا يزال الليل به سميرًا، والنهار به بصيرًا والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدي نورًا من ذاته هتف به الغرب بأن واره؛ فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف، وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقًا، وطارت فرقه فرقًا....

وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه، وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد، وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الفكر مهتومة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة".

وواضح أن سمات القاضي الفاضل، التي رأيناها منذ مطلع الرسالة لا تزال هي نفسها، فهو يعمم في جميع جوانبها ميله الشديد إلى التشخيص، كما يعمم ميله إلى ألوان البديع وخاصة لون الجناس، وكان ما يزال يستخدمه في جميع أشكاله من تامة وغير تامة، واستهدفت في أثناء ذلك؛ لأن يوري بين كلمة "بأنواره" وكلمة "بأن واره"، وقاده استهدافه لهذا النوع من الجناس إلى أن يستخدم التورية كثيرًا في نثره، وقد نسب القدماء إليه استخدامه هذا اللون لأول مرة في تاريخ أدب مصر الإسلامية1، ولكن من يقرأ شعر الشريف العقيلي في المغرب2، والخريدة3 يجد أن هذا اللون عرف في مصر منذ أوائل القرن

1 خزانة الأدب للحموي "طبع المطبعة الخيرية" ص241.

2 المغرب لابن سعيد "طبع جامعة القاهرة" ص207، 244.

3 الخريدة: قسم شعراء مصر. "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 63.

ص: 372

الخامس، وكل ما يمكن أن يضاف إلى القاضي الفاضل، أنه ربما كان من أوائل من نقلوه من الشعر إلى النثر، ومهما يكن فقد كان القاضي الفاضل، يعنى بأن تضم كتبه عناصر مذهب التصنع، وخاصة عنصر الجناس والتشخيص، وتضمين الشعر ثم عنصر الاقتباس من آي القرآن الكريم، على نحو ما نجد في القطعة السابقة، إذ نظم في عبارته قوله تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، وكذلك قال:"وبدل الله مكان السيئة الحسنة" وقال: "من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة"، وفي هاتين العبارتين ألفاظ من القرآن الكريم. ومع ذلك فعناصره الفنية التي يستخدمها لم نتبينها كلها حتى الآن، فهناك عنصر مهم كان يستخدمه في كتابته، وهو عنصر التصنع لمصطلحات العلوم، واستمر في الرسالة الآنفة فستراه يقول:

"كان يبدل المذابح منائر والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه، ومن عساكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله، وزياله إلى يوم النفخ في الصور".

ولا شك أن القارئ قد لاحظ ما نريد أن نشير إليه، وهو أن القاضي الفاضل تصنع هنا لذكر الجار والمجرور، وراعى النظير، فذكر كلمة "تعلق" وكل ذلك ليستتم ما يدل به على براعته في فنه، وهو حقًا لم يكن يكثير من التصنع لمصطلحات العلوم، ولكنه يظهر على كل حال في رسائله، واستمع إليه يقول من رسائله أخرى1:

"سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرها الحضر والغيب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج، على مولانا سيد الخلق، وساد الخرق، ومسدد أهل الحق، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تشنى، ولا يقبل الله جميعًا لا يكون لولاته

1 صبح الأعشى 6/ 515.

ص: 373

جمع سلامة لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلة ممن لا تكون بحته في قلبه تقيم، واسمه في عمله إلى الله يسير".

وقد بدت هنا رغبة القاضي في التصنع لمصطلحات النحو، بأكثر مما بدت في رسالة فتح القدس، فهناك كان يتخفف، أما هنا فإنه يطيل في تصنعه لمصطلحات النحو، إطالة تجعل الإنسان يلاحظها، إذ نراه يذكر الواحد والمثنى ثم الجمع، ولا يكتفي بذلك، بل يقف ليذكر جمع السلام وجمع التكسير، وأكبر الظن أن فن القاضي الفاضل قد أتضح لنا الآن، فهو لا يعدو في عناصره الأساسية، ما سبق أن رأيناه عند ابن الشخباء، وهذا نفسه هو ما يجعلنا نؤمن بأن القاضي الفاضل، لم يأت بطريقة جديدة تخالف الطرق الموروثة، بل لقد كان يعيش -كغيره من أدباء عصره- في الإطار الفني العام لمذاهب المشرق، وكان يعجب خاصة بمذهب التصنع، وما وصل إليه ابن الشخباء مواطنه في استخدامه، فذهب يتعلق بطرائفه من مصطلحات العلوم، والمصطلحات الأخرى من التشخيص، ومراعاة النظير وألوان البديع من طباق وغيره، وتعلق بالجناس خاصة على سنة أصحاب التصنع، فاستخرد منه غرائب كثيرة، كقوله في إحدى رسائله1:

"الحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه، وأعلى جده، وأسعد نجمه، وأنجم سعده، ووعده نجحه، وأنجح وعده، وأورده وصفه، وأصفى ورده".

وفي هذه القطعة ما يدل على مدى احتفال القاضي الفاضل باستخراج كل ما يمكن من أشكال الجناس الهندسية، ولعل القارئ يلاظ أنه تفد عليه الآن صور الجناس المعقدة، التي مرت بنا عند الحريري، والحصكفي خاصة، إذ كان يعجب بهذا الضرب من الجناس المقلوب، ونما هذا الذوق في الأقاليم المختلفة، وكان القاضي الفاضل داعيته في مصر، إذ كان ينحو بأسلوبه

1 صبح الأعشى 6/ 511

ص: 374

جملة نحو أصحاب التصنع، وليس معنى ذلك أن أسلوبه كان ضعيفًا، أو رديئًا فقد كان لديه من البراعة الفنية، ما جعله ينهض بصعوبات التصنع دون أن يستشعر الإنسان ما فيها من أثقال، ولكنا لا نستمر بعده، حتى نحس أنها أصبحت أثقالًا غليظة، وقد ذكرنا أنه عني في كتابته بالتورية، وساق صاحب خزانة الأدب من أمثلتها قوله1:

"في يوم شديد المطر والبرد، والخادم في رأس جبل يتلقى الرحمة غضة قبل أن يبتذلها الناس، ويصافح الرياح عاصفة قبل أن تقتسهما الأنفاس"، ويتلقى الرعد بالرعدة، وإذا السماء انشقت استصحاها المملوك بالسجدة".

فقد ورى تورية واضحة في كلمتي "وإذا السماء انشقت" و"السجدة"، ولكن يظهر أن القاضي لم يكن يكثير من ذلك في رسائله، ونحن لا نستيطع أن نزعم بأن هذا العمل مذهب جديد للقاضي الفاضل، فهو ليس أكثر من لون من ألوان البديع، وجده مستخدمًا قبله عند الشعراء الفاطميين، فأدخله في نثره، ومن يدري؟ ربما سبق بمن استخدمه قبله من الكتاب في العصر الفاطمي نفسه. ومهما يكن فإن القاضي الفاضل، كان أبلغ كتاب العصر الأيوبي، وقد ظلت المصطلحات، التي يستخدمها في فنه أساسية عند جميع الكتاب المصريين من بعده، حتى ليقول النويري: إن كل فاضل بعد الفاضل فضلة"2، ولم يكن هذا إحساس النويري وحده، بل كان إحساس جميع الكتاب بعده، فقد اتخذوا آثاره مثلهم الأعلى الذي يتحذونه ويقلدونه، ومن أجل ذلك كنا لا نخطئ إذا قلنا: إن العصور التي تلته في مصر، كان أصحابها يصوغون دائمًا على مثاله، وينسجون على منواله.

1 خزانة الأدب ص243.

2 نهاية الأرب للنويري 8/ 2.

ص: 375