الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
شخصية مصر:
من يبحث في مختلف عصورها يجدها أشبه ما تكون بمعبد كبير، أغلقت أبوابه على طائفة من الرسوم، والطقوس لا تتغير، ولا تتبدل، بل دائمًا تظل كما هي في كل حكم وفي كل عصر، وهذا المعبد الكبير أتيحت له أسباب طبيعية جعلته يعيش معيشة مستقلة في عاداته وتقاليده، ونقصد بتلك الأسباب ما قام على أسواره من الصحراء الشرقية والغربية، فإنهما عزلتاه عن الاختلاط والانسياج في الأمم الأخرى، وحقًا قد تمر بهذا المعبد العظيم عاصفة هوجاء، فتفتح أبوابه ويدخل جيش فاتح على رأسه قائد مظفر، ولكن سرعان ما يذوب هذا الجيش، ويفنى في أبناء المعبد وطقوسهم وعاداتهم، وفي هذا المعبد يجري نهر النيل نافثًا لعابه من حوض إلى حوض في أوان "يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه"، وحول هذا النهر يعيش المصريون، عن عصر الفراعين إلى العصر الحديث "يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب"، وقد ظلوا يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام وجيلًا بعد جيل يعملون على وتيرة واحدة، ينقلون الماء من هنا إلى هناك بهذه الأواني من الطوابير، وما يتصلى بها، يبعثون الحياة في وديان مصر، وأحواضها "فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضرة، فإذا هي ديباجة رقشاء"، وهكذا مصر دائمًا: كتاب أحكمت سطوره ونقوشه منذ أقدم الأزمنة، وما تزال هذه السطور والنقوش واضحة غير مطموسة، فالناس يعيشون كما كان يعيش آباؤهم، وأسلافهم يربضون في وديان النيل في تلك المياة المشبعة بالطمي، يديرون آلات لا تكاد تخلتف في عن آلات أجدادهم، وإنهم ليحيون بطرق لا تختلف أيضًا كثيرًا عن طرق أسلافهم، ومن ثم كانت مصر بلدًا محافظًا، يحتفظ بشخصيته ومقوماتها على مر العصور، وقد كان لذلك أثر جليل.
في تاريخ مصر، فإنها استطاعت أن تحتمل الفتوح المختلفة، وأن تصمد لها دون أن يطمس شيء مهم من معالمها لما لديها من امتناع عن التحول، وقدرة على الإساغة والهضم، فإذا هي تهضم ما يدخل إليها من عناصر أجنبية، هضمت قديمًا الرعاة الهكسوس، وما دخلها من عناصر الأشوريين، والحيثيين والفرس واليونان والرومان، بل لقد هضمت عناصر العرب أنفهسم مع اتساع تأثيرهم فيها من الوجهتين الدينية واللغوية.
وهذه المحافظة في مصر وما يطوي فيها من مقدرة على الاستمرار، ليس معناها أن مصر تستعصي على العناصر الثقافية عند الأمم الأجنبية، فكثيرًا ما تقبلت قديمًا وحديثًا هذه العناصر، وحاولت أن تهضمها، وتعيدها في صورة جديدة تلائمها، ولعل أوضح ما يفسر ذلك ما كان من استقبالها في الإسكندرية للثقافة اليونانية، فقد استطاعت أن تسوعبها، وأن تنفذ من ذلك الاستيعاب إلى مذهب جديد في الفلسفة هو مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب يعتمد على العناصر اليونانية من جهة، والعناصر المصرية، وما يتصل بها من معتقدات من جهة أخرى، ولم تحاول مصر الاتصال بثقافة اليونان الذين فتحوها فقط، بل نراها تحاول الاتصال بثقافات أخرى لم يكن لأهلها نفوذ سياسي بها، ولعل خير مثال لذلك اتصالها بالثقافة السريانية في أثناء الحكم الروماني، وخاصة فيما يتصل بدارسة الطب، يقول بتلر:"قد كان ثمة اتصال خاص بين لغة السريان ودراسة الطب، وإنه لا يبعد أن أعظم كتب الطبي في القرنين السادس والسابع كانت باللغة السريانية، ولا شك أن تلك اللغة كانت ذائعة بين الناس، وأن آدابها كانت دائمًا تدرس في الإسكندرية، حتى قبل أن تفد جموع العلماء إلى مصر من سوريا عند غزو الفرس لها"1، ومن هذه اللغة ترجم لعمر بن عبد العزيز كتاب أهرون القس في الطب2، ولم تنس مصر لغتها القبطية، فقد كانت تتخذها في طقوسها الدينية، كما كتبت
1 فتح العرب لمصر "الترجمة العربية""طبع لجنة التأليف" ص84.
2 تاريخ الحكماء "مختصر الزوزني" طبع ليبزج ص324.
بها بعض كتابات تاريخية1. على أنه ينبغي أن نعرف أن جامعة الإسكندرية اليونانية، هجرها أساتذتها إلى مدرسة أنطاكية في عهد عمر بن عبد العزيز، ولذلك لا نسمع بعد عصره عن خليفة، أو أمير يطلب علماء الإسكندرية، على نحو ما طلب خالد بن يزيد بن معاوية جماعة منهم، لترجمة ما عندهم من كتب في الكيمياء2، ومع ذلك فإغلاق هذه الجامعة إنما اقتصر تأثيره على الجانب الإغريقي، أما الجانب السرياني، وما يتصل به من الطب، فقد استمر في مصر، إذ كان العلماء السريان منبثين في الأديرة، فكان يقصد الطلاب إليهم، وكان الطب يتوارث فيهم، ولذلك ظلت مصر تشتهر بأطبائها، حتى عصر متأخر، وممن اشتهروا فيه سعيد بن توفيل النصراني، طبيب ابن طولوا3، وسعيد بن البطريق: "وكان طبيبًا نصرانيًا من أطباء فسطاط مصر، وقد عين بطريركًا على الإسكندرية سنة 328هـ، وله كتب في الطب والجدل"4.
ومهما يكن فقد استمرت بمصر بقايا من التراث اليوناني، حتى بعد إغلاق جامعة الإسكندرية، إذ ظلت بها رواسب من علم إقليدس في الفلك، ومن علم الكيمياء، ومن الأفلاطونية الحديثة، وما يتصل بها من غنوسطية، ودراسات لاهوتية، وما من ريب في أن الحركة الصوفية، التي ظهرت بمصر في القرن الثالث، وعلى رأسها ذو النون المصري الإخميمي، كانت تتأثر تأثرًا مباشرًا بما بقى من هذه الجامعة، وخاصة إذا عرفنا أن أول انبعاث لهذه الحركة، كان في الإسكندرية عام 200هـ5، وأيضًا فهم يقولون: إن ذا النون المصري، كان عالمًا في الكيمياء، وقد ردوا كثيرًا من آرائه إلى مذهب الأفلاطونية الحديثة، وكما تأثر التصوف بالأفلاطونية، والغنوسطية الإسكندرية تأثر كذلك التشيع بهما في العصر الفاطمي، ولعله من أجل ذلك، كان الفاطميون يدعون إلى التثقف بالثقافة الفلسفية،
1 فتح العرب لمصر ص85.
2 الفهرست لابن النديم "طبع مصر" ص 337، 507.
3 النجوم الزاهرة طبع دار الكتب 3/ 17.
4 طبقات الأطباء 2/ 86.
5 الولاة والقضاة للكندي ص160 وانظر أيضًا ص440.
إذا كانت هذه الثقافةى فعلًا مؤثرة آثارًا عميقة في عقيدتهم الشيعية.
وقد سارعت مصر بعد إسلامها إلى العناية بالدراسات الدينية، من تفسير وحديث، وفقه وقراءات، كما سارعت إلى العناية بالعلوم اللغوية من نحو وعروض ولغة وأدب، فكان منها اللغويون والنحويون، كما كان منها الفقهاء والمحدثون والقراء، وأيضًا كان منها المؤرخون، الذين أرخوا لفتوحها، وكان جامع عمرو بن العاص هو الجامعة الكبرى، التي تدرس فيها العلوم الإسلامية، وهي دراسة كانت تنساق نحو تقليد بغداد في علمها، وما وصلت إليه في الدراسات المختلفة، ومصر من هذه الوجهة تشبه الأندلس تمام الشبه، فكما أن الأندلس قلدت المشرق في علومه الدينية واللغوية، أو قل بعبارة أدق أنها نقلت هذه العلوم منه، كذلك مصر فإنها اعتمدت على النقل أكثر مما اعتمدت على الابتكار، ولم يكن هذا شأنها فقط في العلوم الدينية واللغوية، بل كان شأنها أيضًا في حركتها الأدبية، فإنها كانت تصوغ نماذجها على مثال النماذج البغدادية، إذ كان الأدباء يعجبون في مختلف الأقاليم العربية بهذه النماذج، وهو إعجاب طبع أدبهم من شعر، ونثر بطابع أصيل من التقليد، وسنرى هذا الطابع يستمر في جميع ما أنتجت مصر، من نثر في أثناء عصورها الوسيطة، ومن ثم لم تستطع أن ترفد مجرى النثر العربي العام بجدول جديد تتميز مياهه من مياه المجرى العام، فليس هناك مذهب جديد، وإنما الذي هناك دائًما هو التقليد، والمحاكاة على نحو ما رأينا في الأندلس، وكان ذلك سمة الأقاليم جميعًا، فهي تقرأ نماذج المشرق التي صنعت داخل مذاهب الصنعة، والتصنيع والتصنع، ثم تحاول أن تصوغ نماذج مشابهة لتلك التي تقرؤها، ذاهبة أحيانًا مذهب أهل الصنعة، وأحيانًا أخرى مذهب أهل التصنيع، أو التصنع في غير نسق ولا نظام مطرد، وإن الإنسان ليعجب إذ يرى هذه المذاهب، التي صنعها المشرق تكتسح أمامها جميع الحدود القومية في الأقاليم العريبة، دون أن يعترضها حاجز، أو يقف أمامها عائق، ومن العبث حقًا أن نبحث عن مذهب جديد يحدثه أي إقليم، وكأنما ضاقت أبواب التجديد أمام الأدباء، فهم يولون وجوههم دائمًا شطر بغداد يتعبدون أمثلتها، ويحتذون على ما أخرجته من نماذج في الشعر والنثر.