الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
الخطابة في صدر الإسلام:
الرسول صلى الله عليه وسلم أخطب العرب قاطبة، وقد كان يخطب في قريش كثيرا يدعوها إلى دينه الحنيف1، والدخول في طاعة الله ومحبته، ولما هاجر إلى المدينة أصبحت الخطابة فريضة مكتوبة في صلاة الجمعة والعيدين. وبذلك عرف العرب ضربا منظما من الخطابة الدينية لم يكونوا يعرفونه في الجاهلية، إذ كانت خطابتهم -كما أسلفنا- اجتماعية، وكانت تدور غالبا على المنافرات والمفاخرات، وقد دعا الإسلام إلى نبذ التفاخر، والتكاثر بالأحساب والإنسان، ومن ثم اختفى من حياتهم هذا اللون من الخطابة.
وتحتفظ كتب الحديث الصحيحة2 بتقاليد الرسول صلوات الله عليه في خطابته سواء في صلاة الجمعة، أو صلاة العيدين، إذ كان يخطب في الصلاتين خطبتين يجلس بينهما، وكانتا تدوران على تبيين ما شرع الله لعبادة في شئون دينهم ودنياهم، وما ينبغي أن يسود مجتمعهم من مثالية خلقية رفيعة، ومن روابط اجتماعية وثيقة، وبجانب ذلك كان الرسول يخطب في الأحداث، وعند المناسبات. ومن المحقق أنه خلف تراثا ضخما من الخطب، غير أن ما احتفظت به كتب الأدب والتاريخ من ذلك قليل، ولا ترجع قلته إلى قصر خطبه، فقد كان يطيل خطبه أحيانا، وفي بعض المناسبات إلى ساعات3 يعظ الناس ويدعوهم إلى التفكر في الكون، وخالقه، ومدبره. وأكبر الظن أن خطبة أصابها ما أصاب خطب الجاهلية، فإنها لم تدون لحينها، وبعد العهد بين عصرها وعصر تدوينها، ومع ذلك فقد احتفظت ذاكرة الرواة ببقايا منها تحمل لنا خصائصها، من ذلك
1 السيرة الحلبية 1/ 379.
2 انظر كتاب الجمعة في صحيحي البخاري، ومسلم والتنبيه للشيرازي "طبعة ليدن" ص40.
3 إعجاز القرآن للباقلاني ص64.
أنه خطب بعشر كلمات: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال1:
"أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمنين بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشيبة قبل الكبرة، ومن الحياة قبل الموت. فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".
والخطبة على قصرها توضح لنا كيف كان الرسول يعظ أصحابه، ويدفعهم دفعا إلى العمل الصالح، قبل أن يلبوا داعي الموت، فتبور تجارتهم، ويذهب هباء عملهم، وإنهم لمعروضون على ربهم، فموفون حسابهم، فأما من اتبع هدى الإسلام، فمصيره الجنة إلى وصفها القرآن الكريم فأسهب في وصفها، وأما من أعرض وتولى، ولم يذكر اسم ربه ولا صلى، ولا أخلص عمله لوجهه، فمصيره النار التي أطنب القرآن في بيان عذابها.
ولم تكن خطبه مواعظ فحسب، بل كانت أيضا تشريعا، وتنظيما لحياة هذه الأمة التي أخرجت للناس في خير مثال تأمر بالمعروف، وتتناهى عن المنكر، ويتعاون أفرادها على البر والخير مما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعهم، ولعل خير خطبة تشريعية تصور كيف كان ينظم هذا المجتمع الروحي، ويرسي قواعده خطبته في حجة الوداع، وهي تمضي على هذا النحو2:
"الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو
1 انظر كتاب البيان والتبيين 1/ 302.
2 نفس المصدر 2/ 31، وانظر كتاب الجمعة في صحيح البخاري، والسيرة لابن هشام "طبعة الحلبي" 4/ 250، والعقد الفريد "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 4/ 59.
خير، أما بعد، أيها الناس! اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد".
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع1، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب -وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة2 والسقاية3. والعمد قود4، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس {إِنَّمَا النَّسِيءُ 5 زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} . إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس! إن لنسائكم علكيم حقا، ولكم عليهن حق. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم،
1 موضوع: ساقط، ومحرم.
2 السدانة: خدمة الكعبة.
3 السقاية: سقاية قريش للحجاج.
4 العمد: القتل المتعمد، القود: قتل القاتل بقاتله.
5 النسيء: شهر المحرم كانوا يحرمونه عاما، وعاما يحلونه إذا أرادوا الإغارة، فيقولون: إنه بعد صفر ويؤجلونه.
ولا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن 1، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح 2، فإن انتهين وأطعنكم فعلكيم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان 3، لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد".
أيها الناس! إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله. ألا هل بغلت؟ اللهم اشهد، أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب.
"أيها الناس! إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز وصية لوارث في أكثر من الثلث، والوالد للفراش وللعاهر الحجر 4. من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف 5 ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وواضح أن الخطبة تبدأ بحمد الله، واستغفاره والتوبة إليه والاستعاذة من شرور النفس، وسيئات العمل ونقائصه، وتقترن بالشهادتين، وتوصية المسلمين بعبادة الله وطاعته، كما تقترن بكلمة "أما بعد". ويمضي الرسول عليه السلام
1 تعضلوهن: تضيقوا عليهن.
2 الضرب غير المبرح: الضرب الخفيف.
3 عوان: جمع عانية، وهي الأسيرة أي هن عندكم بمنزلة الأسرى.
4 للفراش أي لصاحبه، فهو ينسب إليه، وللعاهر الحجر، أي رغم أنفها، أو لعله يشير إلى رجمها.
5 صرف: انصراف، عدل: عدول. أي لا يقبل منه شيء.
فيبين أن دماء المسلمين حرام كأموالهم، فلا قتل ولا نهب ولا سلب، فقد انتهى قتل النفس المحرمة، وانتهى قطع الطرق، وانتهت الخيانات بجميع ضروبها، فمن كانت عنده أمانة لا يخنها، بل فليؤدها مستوفاة إلى صاحبها، إنه مجتمع ديني جديد، تتوثق فيه الروابط، فلا ربا ولا أخذ بثأر، وقد تداعت مآثر الجاهلية سوى سدانة الكعبة وسقاية الحجيج، فهما مأثرتان ضروريتان للجماعة، وهما لذلك باقيتان، أما شريعة الأخذ بالثأر التي كانت قوام حياتهم في الجاهلية، فقد قضى عليها الإسلام، إذ جعل حق الدم للدولة، فالقاتل المتعمد تقتله الدولة بصاحبه، أما من قتل خطأ فديته مائة ناقة لا تزيد. ويخوفهم الرسول من الشيطان، وما يدعو إليه من الشرور فقد انتهت عبادته، ولكن لم تنته أطماعه في تضليل الناس عن الجادة. وأيضا فإنه انتهى عهد التلاعب في الدين، وفي الأشهر الحرم.
ولا ينظم الرسول العلاقات بين الفرد، وجماعته الكبرى من الأمة فحسب، بل ينظمها أيضا بينه وبين جماعته الصغرى من الأسرة، فيدعو إلى رعاية حقوق المرأة، وأن يعاملها الرجل برفق ورحمة، وقد رفع الإسلام من شأنها، ووضعها في المكان اللائق بها، فكفل لها حرية التصرف في مالها كما كفل لها حق اختيار زوجها.
ويدعو الرسول إلى دعم الروابط بين أفراد الأمة، فالمسلمون جميعا إخوة متساوون في الحقوق والواجبات، لا غني ولا فقير ولا أسود ولا أبيض، ولا عربي ولا عجمي، فالجميع سواء، ولا فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح. ويشير إلى ما شرعه القرآن من نظام التوريث الجديد، ويقرر أن المورث لا يحق له أن يحرم ورثته من ماله، ويعطيه شيئا من الحرية، فيجعل له الحق أن يوصي لورثته ببعض ماله، ولكن على أن لا يزيد عن ثلثه، ويعرض لمشكلة كبرى من مشاكلهم، هي الأبناء غير الشرعيين الذين ولدوا في الجاهلية، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكان من عادتهم أن ينسبوا إلى غير آبائهم، فقضى على تلك العادة السيئة حفظا للأنساب.
وعلى شاكلة الخطبتين السالفتين كانت خطابة الرسول، فهي إما موعظة حسنة وترغيب وترهيب، وبيان لمسئولية المسلم الخلقية وأنه محاسب بين يدي ربه عن كل ما قدم في حياته، وهو يضح ذلك أمام عينيه ليصلحه، ويقوم نفسه ويسمو به في مراقي الكمال، وإما تشريع وتنظيم لمجتمعه، وما ينبغي أن يسود فيه من عوامل الخير ودواعيه، فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، فلا بغي ولا عدوان، بل تآزر وتعاون في قيام هذا المجتمع السليم.
ومن المحقق أن الرسول كان في خطابته -كما كان في حديثه- لا يستعين بخلابة ولا تزويق، وقد برئت ألفاظه من الإغراب والتعقيد والاستكراه، وهي مع ذلك ألفاظ جزلة لها بهاء ورونق، تعمر بها القلوب والصدور، وترتاح إليها الأسماع والأفئدة، فتجتمع لها النفوس المتباينة الأهواء، وتساق إليها بأزمتها، إذ تلتحم بمعانيهم وما تدعو إليه من سبيل الرشاد، وهي -بلا ريب- مثل أعلى في البراعة والدقة، ونقصد دقة الحس ولطف الشعور، ولعل مما يدل على ذلك قوله:"لا يقولن أحدكم: خبيث نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"1، فقد كره أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه. ونؤمن بأن هذه العناية بحسن منطقه لم تكن نتاج تحبير، أو تكفير إنما طانت نتاج ما خوله الله من نعمته في بيانه الرائع.
وليس في خطبتي الرسول السالفتين سجع، ومن المؤكد أنه لم يكن يستخدم السجع في خطابته، بل كان ينفر منه بسبب استخدام الكهان له في الجاهلية على نحو ما مر بنا في الفصل السابق، ولذلك صد عنه كما صد عنه خلفاؤه. روى الطبري أن عمر بن الخطاب، سأل صحارا العبدي البليغ المشهور عن مكران الفارسية أثناء غزو المسلمين لها، فقال صحار: "يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبال، وماؤها وشل2، وتمرها دقل3، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، إن كثر الجند بها جاعوا، إن قلوا بها
1 الحيوان للجاحظ 1/ 335، ولقست النفس: غثت.
2 وشل: قليل.
3 دقل: أردأ التمر.
ضاعوا، فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال صحار: بل مخبر:1. وواضح أن عمر أنكر عليه استخدامه للسجع في كلامه. ويروي الرواة أن عبد الله بن الزبير تكلم بكلام مسجوع عند معاوية، فقال له:"تعلمت السجاعة عند الكبر"2، وفي أخبار معاوية أنه كتب إلى رجل كتابا، فأملى على كتابه:"لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلام الحرة"، ثم استدرك قائلا لكاتبه:"امح من كلاب الحرة، واكتب من الكلاب"3. فالخلفاء كانوا يكرهون السجع لنهي الرسول، صلوات الله عليه عنه. وليس معنى ذلك أنه انمحى محوا من خطابة هذا العهد، فالجاحظ يقول:"كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة"4، ومن يرجع إلى حروب الردة يرى بعض المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب يتكهنون، ويسجعون في كهانتهم، وكان مسيلمة خاصة "يسجع السجاعات، ويقولها مضاها للقرآن"5، ويقول الجاحظ: إنه "عدا على القرآن فسلبه، وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه"6.
وقد انتهت هذه الموجة من سجع المتنبئين بانتهاء حروب الردة، ولكن السجع بعامة لم ينته معها تماما، فقد ظلت الخطباء تسجع بين يدي الخلفاء على نحو ما يلاحظ الجاحظ.
وإذا نظرنا فيما أثر من خطب عند أبي بكر الصديق، ومن تبعه من الخلفاء الراشدين، وجدناهم يقتدون بالرسول في خطابتهم، فهم لا يستخدمون السجع فيها، وهم يفتتحونها بحمد الله، وتمجيده والصلاة على رسوله ويوشونها بآيات من القرآن الكريم، وببعض أحاديث نبيه العظيم، مستمدين من هذين الينبوعين الغزيرين في وعظهم، وفيما يسوقونه من وصايا وتعاليم. وكان الصديق في الذروة
1 الطبري، القسم الأول ص2707، وانظر البيان والتبيين 1/ 285.
2 البيان والتبيين 1/ 301، والعقد الفريد 4/ 368، والسجاعة: مصدر سجع.
3 رسائل الجاحظ "طبعة الساسي" ص 155.
4 البيان والتبيين 1/ 290.
5 الطبري، القسم الأول ص 1738، 1934.
6 الحيوان 4/ 89.
من البلاغة ومن البيان والفصاحة، ومن خطبة له1:
"إلا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك: ألا إن الفقراء هم المرحومون، ألا وإنكم اليوم على خلافة النبوة، ومفرق المحجة2، وإنكم سترون بعدي ملكا عضوضا3، وملكا عنودا4، وأمة شعاعا5، ودما مفاحا6، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، وتحيا بها الفتن، وتموت لها السنن، فالزموا المساجد واستثيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، ولا تفرقوا الجماعة".
وكان كثيرا، ما يخطب في الجيوش الخارجة إلى الغزو، فيوصيها ويوصي قادتها باتباع هدى الإسلام، وبالجهاد في سبيله وله وصية مشهورة يوصي فيها عمر حين استخلفه عند موته بتقوى الله، واتباع الحق حتى لا يلقي بيده إلى التهلكة7، وهو في كل ما أثر عنه يحسن اختيار لفظه، في أسلوب مرسل يشف عن دقة حسه، ومعرفته بمواضع الكلم، ولعل مما يدل على ذلك أنه مر برجل معه ثوب، فقال له: أتبيع الثوب؟ فقال: لا، عافاك الله، فقال أبو بكر: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا، وعافاك الله"8.
وكان عمر بن الخطاب مثل صاحبه في الأفق الأعلى من روعة البيان والخطابة، وله خطب تدور في كتب الأدب والتاريخ نكتفي منها بهذه القطعة9: "اقدعوا10 هذه النفوس عن شهواتها، فإنها طلعة11، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور12، إن هذا
1 البيان والتبيين 3/ 43، وانظر عيون الأخبار 2/ 233، والقعد الفريد 4/ 59، وما بعدها.
2 المحجة: الطريق.
3 عضوض: شديد فيه عسف.
4 عنود: طاغ.
5 شعاع: متفرقة.
6 مفاح: سائل مهراق.
7 انظر الوصية في البيان والتبيين2/ 45، والعقد الفريد 3/ 148، وراجع وصاياه الحربية لقواد جيوشه في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 108، وما بعدها.
8 البيان والتبيين 1/ 261.
9 البيان والتبيين 3/ 138، وقارن 1/ 298.
10 اقدعوا: انهوا وكفوا.
11 طلعة: تتطلع إلى كل شيء.
12 الدثور: الدروس.
الحق ثقيل مريء1، وإن الباطل خفيف وبيء2، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة وشهوة، أورثت حزنا طويلًا".
وله وصايا كثيرة يوصي فيها قواد الجيوش الفاتحة بجنودهم، وبمن يغزونهم من الأمم، ومن أروع وصاياه وصية للخليفة من بعده، ونسوق منها بعض نصائحه له، يقول3:
"أوصيك بتقوى الله لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرًا: أن تعرف سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئتهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء4 العدو، وجباة الأموال والفيء5 لا تحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا. فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام: أن تأخذ من حواشي6 أموال أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة7 خيرًا: أن تقاتل من ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة. وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم، وثغورهم8 ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم.. وآمرك أن تشتد في أمور الله وفي حدوده، ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم.. واجعل الناس سواء عندك لا تبالي على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك".
1 يقصد عمر أنه حميد العاقبة.
2 يقصد أنه وخيم العواقب.
3 البيان والتبيين 2/ 46، وانظر في وصاياه للجيوش عيون الأخبار 1/ 107.
4 ردء: معين أن يعينون على العدو.
5 الفيء: الغنيمة في الحرب، والخراج.
6 حواشي الأموال في البادية: صغار الإبل والغنم.
7 أهل الذمة: أهل الكتاب في البلاد المفتوحة.
8 الثغور: جمع ثغر، وهو هنا الخلة والحاجة.
والوصية طويلة، وهي أشبه بدستور قديم، يضمنه عمر مواد الحكم كما في شريعة الله وسنة رسوله، وهي تجري -شأنها شأن خطبه- في هذا الأسلوب الناصع البريء من الفضول ومن التكلف، والذي يملأ السمع بجزالته ورصانته وقوته، وكان خطيبا لا يبارى في مخارج كلامه، حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج الضاد من أي شدقيه شاء1. ولم يكن عثمان يبلغ من الفصاحة والبيان مبلغ صاحبيه، ويروى أنه صعد المنبر ذات يوم، فأرتج عليه، فقال: "إن أبا بكر وعمر كان يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب"2.
وأما علي بن أبي طالب، فإنه لم يكن يقل عن أبي بكر وعمر شأوا في خطابته، وقد أثرت عنه خطب كثيرة، ولا نقصد الخطب التي يحتويها بين دفتيه كتاب "نهج البلاغة"، فأكثره مصنوع ومحمول عليه، وقد أشار إلى ذلك كثير من العلماء، واختلفوا هل هو من عمل الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 للهجرة، أو هو من عمل أخيه الشريف الرضي المتوفى سنة 406 للهجرة، يقول ابن خلكان في ترجمة أولهما بكتابه وفيات الأعيان:"قد اختلفت الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي، وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه". ويردد هذا الكلام اليافعي في مرآة الجنان3، وابن العماد في شذرات الذهب4، ويؤكد الذهبي في ميزان الاعتدال أن الشريف المرتضى هو الذي وضعه5، ويذهب مذهبه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان، يقول: "من طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب والصراح، والحط على السيدين:
1 البيان والتبيين 1/ 62.
2 نفس المصدر 1/ 345، وانظر عيون الأخبار 2/ 235، والعقد الفريد 4/ 66، وزهر الآداب 1/ 36.
3 مرآة الجنان "طبعة حيدر آباد" 3/ 55.
4 شذرات الذهب "طبعة القاهرة" 3/ 257.
5 ميزان الاعتدال "طبعة لكهنو" 2/ 201.
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل"1. ويذهب النجاشي المتوفى سنة 450 للهجرة في كتابه "الرجال" إلى أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي2، وهذا هو الصحيح بشهادة الرضي نفسه، وشهادة شراح كتابه، فقد ذكر في الجزء الخامس المطبوع من تفسيره أنه هو الذي ألفه، ووسمه باسمه نهج البلاغة3، كما ذكر ذلك في كتابه "مجازات الآثار النبوية"4 ونجد ابن أبي الحديد المتوفى سنة 655 في شرحه للكتاب يعترف بأن خطبته من عمل الشريف الرضي، ويذهب ابن ميثم البحراني في شرحه عليه إلى أنه من تأليف الشريف.
وإذن فالكتاب من عمل الشريف الرضي وصنعه، ويظهر أنه لم يؤلفه جميعا، فقد أضاف قبله كثير من أرباب الهوى، وفصحاء الشيعة خطبا، وأقوالا إلى علي بن أبي طالب، يدل على ذلك ما جاء في مروج الذهب للمسعودي إذ يقول:"الذي حفظ الناس عن علي من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، تداول الناس ذلك عنه قولا وعملا"5، وكأن الشريف الرضي وجد مادة صاغ منها كتابه، وهي مادة بنيت على السجع، وفي ذلك نفسه ما يدل على كذب نسبتها إلى علي، إذ ليس من الطبيعي أن يسجع علي في خطابته، بينما ينهى الرسول الكريم عن السجع، ويتحاماه أبو بكر وعمر وعثمان في خطابتهم.
ومعنى هذا كله أنه لا يصح الاعتماد على هذا الكتاب في تصور خطابة علي، وأنه ينبغي الرجوع إلى المصادر الأولى، مثل البيان والتبيين للجاحظ، وقد روى
1 لسان الميزان "طبعة حيدر آباد" 4/ 223.
2 كتاب الرجال "طبعة بومباي" ص192، 283.
3 الجزء الخامس من حقائق التنزيل للشريف الرضي "طبعة النجف" ص167.
4 مجازات الآثار النبوية "طبع بغداد" ص22، 41.
5 مروج الذهب "طبقة باريس" 4/ 441.