الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8-
التعقيد ظاهرة عامة:
رأينا الحريري، والحصكفي يعقدان كتابتهما ما استطاعا من تعقيد، ولم يكن هذا دأبهما وحدهما، بل كان دأب جميع الكتاب الذين خلفوا أبا العلاء في المشرق، إذ انتهت الأعمال الأدبية إلى بث صور التعقيد، التي اقترحها.
ولم يعد هناك إلا أن يضيف الكتاب صورًا مماثلة علها تثبت تفوقهم، ومهارتهم، ونحن نقف عند صدر رسالة، كتب بها أديب من غزنة أشاد به ياقوت في معجمة، وهو عطاء بن يعقوب بن ناكل، وكان ينظم بالفارسية والعربية، ويقول ياقوت في وصف بلاغته: "تشرئب إلى قلائده أجياد الأنام، وتتباهى برسائله مواقع الأقلام، ولم يزل منذ شب إلى أن اشتعل الشيب برأسه، ورسب قذى العمر في آخر كأسه، بين اقتباس يصطاد به وحوش الشوارد، وإقباس ينثر منه لآلئ القلائد
…
وقد سافر كلامه من غزنة إلى العراق، ومن ثم إلى سائر الآفاق.. وكيف لا وما من كلمة من كلماته، إلا وحقها أن تملك بالأنفس وتقتني، وتباع بالأنفس وتشترى"1. ويستطرد ياقوت من ذلك إلى إعطاء نموذج من نثره، فإذا هو صدر كتاب صدر منه إلى بعض الصدور، وهو يمضي على هذا النمط"2:
"أطال الله بقاء الشيخ في عز مرفوع كاسم كان، وأخواتها إلى فلك الأفلاك، منصوب كاسم إن وذواتها إلى سمك السماك موصوف بصفة النماء، موصول بصلة البقاء، مقصور على قضية المراد، ممدود إلى يوم التناد، معرف به مضاف
1 معجم الأدباء 12/ 171.
2 نفس المصدر 12/ 172.
إليه، مفعول له موقوف عليه، صحيح سالم من حروف العلة، غير معتل ولا مهموز همز المذلة، يثنى ويجمع دائمًا جميع السلامة والكثرة، لا جمع التكسير والقلة، ساكن لا تغيره يد الحركة مبني على اليمن والبركة، مضاعف مكرر على تناوب الأحوال، وزائد غير ناقص على تعاقب الأحوال. مبتدأ به خبره الزيادة، فاعل مفعوله الكرامة، مستقبله خير من ماضيه حالًا، وغده أكثر من يومه وأمسه جلالًا، له الاسم المتمكن من إعراب الأماني، والفعل المضارع للسيف اليماني، لازم لربعه لا يتعدى، ولا ينصرف عنه إلى العدا، ولا يدخله الكسر والتنوين أبدًا، يقرأ باب التعجب من يراه منصوبا على الحال أعلى ذراه، متحركًا بالدولة والتمكين، منصرفًا إلى ربوة ذات قرار ومعين".
وفي هذه القطعة ما يدل دلالة واضحة، على مدى ما وصل إليه الكتاب من تعقيد لكتابتهم بمصطلحات العلوم، يدخلونها في آثارهم على نحو ما أدخل عطاء بن يعقوب مصطلحات النحو في هذه القطعة، وكانوا إذا تركوا مثل هذه العقد، التي يستعيرونها من العلوم، ذهبوا يعقدون وسائل الفن القديمة على نحو ما رأينا من تعقيد الجناس عند الحصكفي، وقد عمت هذه الروح في العراق وخراسان والشام، وكما عمت في هذه الأقاليم، عمت في الأقاليم الأخرى، فقد روى ياقوت رسالة كان يرويها الحافظ، السلفي، المشهور عن أديب يمني، هو ابن قم الزبيدي، المتوفى عام 581هـ، وكان من المبرزين في النظم والنثر والكتابة1، والرسالة تمضي على هذا النحو2:
"كتب عبد حضرة السلطان الأجل، ومولاي ربيع المجدبين وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوي الرشد والمناقب، أطال الله بقاءه، وأدام علوه وارتقاءه، ما قدمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، وجعل رتبته عالية المقام، كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية، فإنه مقدم في النية، ولا زالت حضرته من الحادثات حمى، وللوفود
1 معجم الأدباء 10/ 130.
2 نفس المصدر 10/ 132.
مزدحمًا وملتزمًا، حتى يكون في العلا، بمنزلة حرف الاستعلا، وهو من حروف اللين في حصون، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف، حالها، يختلف، تسقط في صلة الكلام، ولا سيما مع اللام، فإنه -أدام الله علوه- أحسن إلى ابتداء، ونشر علي من فضله رداء أراد أن يخفى، وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل والكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل....".
وواضح ما في هذه القطعة من رسالة ابن قم من تعمل لإدخال النحو ومصطلحاته في أساليب الرسائل وألفاظها، فإذا هي تغدو، وكأنها متن من متون النحو لا نموذج من نماذج الفن، وإذا كان ابن قم يتعمل هذا التعمل في كتابته باليمن، فإن كتاب الأقاليم الأخري أيضًا، كانوا يأتون بمثل هذه الصعوبات، والعقد في كتابتهم، وقد يتخففون من مصطلحات العلوم، ولكنهم يفرطون في استحدام الوسائل الأخرى من الأمثال واللفظ الغريب، أو من تعقيد السجع والجناس، وسنتعقب في القسم التالي من هذا الكتاب المذاهب الفنية في الأندلس، ومصر، وسيرى القارئ أنه منذ القرن الخامس الهجري، أخذ الكتاب في هذين الإقليمين يصدرون في أعمالهم عن هذا الذوق العام، الذي نشره المشرق ذوق التصنع والتعقيد، إذا اندفع الكتاب في هذه الموجة من القرن الخامس للهجرة إلى العصر الحديث، وكأنما أجدب معين الفكر العربي، أو قل: لقد أجدب معين الحضارة العربية، فلم يعد يظهر من جديد إلا هذه الضروب من التعقيد والتصعيب، وإن الإ نسان ليشعر كأن الحياة العربية، قد أصيبت بعطل شديد، وإنه عطل يتسع فإذا مصانع النثر لا تستطيع أن تخرد ضربًا جديدًا أو مذهبا حديثًا، إلا هذه الطرق الملتوية المحملة بالتصنع لمصطلحات العلوم، والتكلف لأشياء شاذة كالأمثال، والإشارات التاريخية والأدبية، وهذا كله كان يأتي تابعًا لأسجاع معقدة، سيطر عليها الجناس المعكوس، وما يطوى فيه من تصعيب في طرق الأداء، وقد جمدت العصور التالية عند هذا الأسلوب، ولم تستطع أن تنحرف عنه إلى منهج جديد، أو أسلوب حديث.