الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
بين القديم والجديد:
من يتابع نهضة النثر المصري بعد القرن التاسع عشر، يلاحظ أن الصراع بين المحافظين والمجددين يستمر، ولكن دائمًا ترجح كفة المجددين، وأتاحت لهم الثورة المصرية، التي قامت عام 1919م أن ينتصروا انتصارًا مؤزرًا على إخوانهم من المحافظين، فقد ثار الناس على قديمهم في السياسة، وثار الأدباء عى قديمهم في الأدب، وأصبحت لا تجد صوتًا يرتفع بالنصرة لفكرة السجع، فضلا عن فكرة البديع، وأعدت هذه الحال لنضهة واسعة في النثر المصري الحديث، فإن من يرجع إلى مكتبتنا الحاضرة، يشرف على اتساع ما احتوته من ترجمات عن الآداب الأوروبية، وكذلك ما احتوته من أعمال أدبية، صنعتها طائفة من كتابنا وأدبائنا على غرار ما يصنع الأوروبيون أعمالهم الأدبية، وآثارهم الفنية، ومعنى ذلك أن مصر الآن تعيش في عصر، يعتمد على النقل الواسع من أوروبا، كما يعتمد على إحداث نماذج أدبية ممتازة في عالم المقالة، والقصة والمسرحية. وقد أخذ الأوروبيون أنفسهم، يتصلون بما يصدره أدباء مصر من قصص، فترجموه إلى لغاتهم المختلفة، وبذلك كادت الدورة بين مصر وأوروبا أن تتم، فمصر تأخذ الآن وتعطي.
وهذا المركز الممتاز للنثر المصري الحديث، جعل مصر تتزعم البلاد العربية
في الحركات الأدبية، فهي الآن تقوم منها مقام الدفة، والمجداف في السفينة، فهي التى توجه، وهي التي تثير وتدفع، ولا يقتصر الأمر على النثر الأدبي الخالص من القصص وما يتصل به، بل إنه يتجاوز ذلك إلى البحوث الأدبية وما تخرجه مصر في النقد الأدبي، بل حتى ما تخرجه من مجلات وصحف، فصحفها وآثارها تقرأ في الشام والعراق وغيرهما من البلدان العربية، وكان يحسن -بجانب ذلك- أن تهتم مصر بما تنتجه هذه البلدان، ولكن هذا الاهتمام الآن قاصر، فأنت لا تكاد تجد شيئًا عندنا لمجموعة أدباء العراق، والشام وهم كثيرون، وبينهم الممتازون الذين يحسن أن تقرأ آثارهم، ومع ذلك فقلما تجد من يعنى بهم بيننا، وكأنما شغل المصريين استيراد النماذج الأوربية، وألهاهم ذلك عن الاهتمام بنماذج إخوانهم في البلدان العربية.
ومهما يكن، فإن مصر تنبعث في الآن نهضة أدبية واسعة، وإنها لأوسع من أن نعرض لها في هذه الخاتمة القصيرة بشيء من الاستيعاب والتفصيل.
على أنه ينبغي أن نلاحظ أن هذه النهضة، يطبعها طابع من السرعة في الإنتاج الأدبي، وخاصة عند كتاب الصحف المحترفين، وقد أثرت -إلى حد ما- هذه السرعة على الصياغة الفنية للنثر المصري، إذ باعدت بين صناعته "وبين ما كنا نألفه قديمًا من التحبير والتجويد، وحقًا إن كتاب مصر وفقوا في إبعاد السجع والبديع عن النثر، ولكن بعضًا منهم تطرفوا في عدم العناية بأساليبهم، وتنقيح عباراتهم، ولذلك كنت تعثر في آثار هذه الطائفة على أساليب، ثم تصقل ولم تجود، وأيضًا قد تعثر على أساليب كثيرة، نقلت نقلًا من اللغات الأوروبية. ومن المحقق أن هذه السرعة ترجع -في أغلب جوانبها- إلى العامل التجاري، فالأديب يخرج الأثر الأدبي، ثم يرى أنه لو تأنى ما استطاع أن يظفر بريح آخر إلا بعد مدد طويلة، فهو يعدل عن التأني والتمهل، ويتعجل في إصدار آثاره، غير مهتم بالتجويد الواسع، وقد يكون من دوافع ذلك أن الجمهور القارئ لا يعرف التجويد الفني منه إلا الأقلون عددًا، فيعتمد بعض الكتاب على ذلك، ويخرجون آثارهم من قصص وغير
قصص من غير تحبير أو افتنان في التحبير، وبون بعيد جدًا بين الطبقة، التي كان يخرج لها أدباء العرب في العصور السابقة أعمالهم، وبين الطبقة الحاضرة التي تخرج لها الآن لك النماذج، فالطبقة الأولى كانت محدودة بالخيفة، أو الأمير وحاشيته وما حوله من أدباء ممتازين، وعلماء وفلاسفة. من أجل ذلك كان الكاتب يجود آثاره منتهى ما يمكن من تجويد، أما في هذا العصر فالطبقة التي يوجه لها الكتاب أعمالهم طبقة واسعة من الجمهور، وأكثر هذه الطبقة حظه من الثقافة العامة -فضلًا عن الثقافة الأدبية- ضئيل ومحدود، ولذلك كان يقبل كل ما يقدم له، وترى طائفة من الكتاب في الجمهور هذه الخاصة فلا تتريث، بل تتعجل، وتدفعها هذه العجلة إلى إهمال أساليبها، إهمالًا من شأنه أن يسقط في أثنائه كثير من العيوب، التي نبغي أن لا تعتور الأثر الأدبي الممتاز، وإنا لنأمل أن تكون هذه الدراسة للنثر العربي، ومذاهبه في مختلف عصوره، وأقاليمه فاتحة لعناية كتابنا بأعمال أسلافهم وتراث آبائهم، وأن يدفعهم ذلك إلى الصقل، والتحبير حتى يحققوا لآثارهم، ما يريدون لها من البقاء والخلود.